مذكرات

محمد النواية يكتب عن الخبازات

لوسات أنفو

من بين المهن الأولى التي أقبلت عليها المرأة المغربية في فترة الحماية وبعد الاستقلال هي مهنة “خبازة” أي بائعة الخبز في الساحات ومواقع في الأحياء الشعبية القديمة تسمى ” الكَلسة” في قاموس الخبازات. أشهر هذه الساحات بمراكش ؛ساحة جامع لفنا؛ التي تصطف فيها الخبازات في كَلسات على شكل بروج خشبية مغطاة بمضلات شمسية، تم سوق الخضر بباب دكالة وسوق أبلوح قرب الشوايين الذي توالت عليه خبازات  حاذقات من نوع خاص ،يتميزن بسلوك رجالي ولغة خاصة غنية بالمعاني والقوافي وغوص متفرد لا يقدر الرجال خوض معاركه اللسانية . لباسهن الخاص عبارة عن حايك أبيض وخمار أسود؛ كحل شديد السواد في العينين، يجلسن وراء موائدهن  المستديرة المملوءة بالخبز والمغطاة بازار أبيض فوقه عينة من أنواع الخبز .

 

“مينة” إحداهن؛ شابة في الثلاثين؛ مرحة تحسن التعامل مع الزبناء، تعشق  جلسات الأنس مع أفراد العائلة حيت تكون هي المهيمنة بأحاديثها ومغامراتها السعيدة والحزينة ، لعوب في علاقاتها مع الرجال ؛ تعلقت لمدة برب فران زهواني من أهل الحنطة كان مغرما بها إلى حد أن اكترى لها بيتا جوار الفران كي يطمئن بقربها منه ،كان يخيرها في نقط البيع (لكَلاسي) فتختار تلك التي تدر عليها ربحا أكثر . في يوم عطلتها تزور مع أمها الطاعنة في السن قريبتها الساكنة مع عمتي بنفس الدار يكون يوما سعيدا جدا حين أصادفها فأجلس جامدا أسمع لكلامها المختلف عن باقي النساء المحافظات المسالمات اللواتي يسايرنها دون مخالفتها في آرائها وسلوكها .من حين لآخر يوصينها بالاحتراس ويحاولن تهدئتها حين تثور شجيتها ؛كن دائما يتمنون لها حظا سعيدا وحياة مستقرة .كانت مينة بحديثها تتركنا نحن الأطفال شاردين نسمع لمواضيع صعبة على فهمنا في تلك السن ؛كما كان استغرابنا كبيرا حين تقطع حديثها بشربة عميقة من دخان الكيف العشبة التي لا تفارقها ،بتدخينها تعود إلى هدوءها ويصفى مزاجها .كانت شقية في عشقها وعنيفة مع الرجال من كثر ما تجد فيهم من جفاء وسلوك يخيب أمالها .في إحدى الزيارات وجدتها على غير عادتها تدخن بكثرة وبجانبها زجاجة نبيذ وفي حالة توثر من الغضب ، النساء منهمكات في غزل الصوف والخياطة  ينصتون ،مينة كعادتها متفردة بالكلام عن همومها وصارخة :”كرهت عالم الرجال  منيت نفسي بالعيش حرة لن أسمح لرجل بالركوب فوق رأسي ثانية يملي علي  أوامره ويتحكم بيومي وحياتي “لم أراها قبل في هذه الحالة ،أهو مفعول المشروب الذي تحتويه الزجاجة أم حالة انفعال شديدة لامرأة رمتها ظروفها لواقع تنقسم قساوته بين الشغل والعلاقات الاجتماعية . دعتني مرة لبيتها ،جلست في غرفتها وبدت لي هذه المرة أكتر جمالا ورشاقة واشراقا ؛أكسبها الكحل جمالا فوق جمالها  الطبيعي إذ جعل حدقتي عينيها تبدوان أكثر اتساعا وبريقا ،كانت لابسة أقراطا  كبيرة ودمالج زاهية مما أضفى عليها حسنا أخاذا لم أراه في جلساتها العائلية السابقة .قبلتني كثيرا تم خيرتني في طبقين موجودين على المائدة ،نهضت بسرعة وأتت برسالة من صندوق خشبي صغير ؛طلبت مني قراءتها ، كانت قراءتي  للرسالة تقطعها ابتسامات “مينة “وانشراحها وتنهداتها ؛ خلصت القراءة شكرتني كثيرا وقالت “تمنيت لو كان لي ابنا يشبهك ؛يملأ البيت حنانا وأنسا وشغبا إنها حرقة النساء اللواتي حرمنا من سعادة الأطفال ودور الأمومة .مرت أعوام وأعوام وتوفيت كل النساء اللواتي كن ببيت عمتي وتفرقت السبل بنا وكنت في كل مناسبة من المناسبات القليلة جدا أسأل عن “مينة”  وأين  آلت بها الأيام ولم أكن أجد قط جوابا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى