الرأي

لو لم تكن مراكش منكوبة في حظها لأعلنت عاصمة عالمية للروح

لوسات أنفو: باسم الشغوف

أنت من زوار مراكش، شددت إليها الرحال تحت تأثير الدعاية التجارية الملفقة، أو بدافع عشق فريد. دعك من جامع الفنا، فهي مجرد إشاعة، غواية للحشود و التحرش و الابتزاز و الغش. جامع  الفنا  مكان يوجد الآن في الكتب فقط، ذاكرة انتهى زمانها.  و انطلقْ في رحلة استكشاف حقيقية لروح المدينة الحمراء، التي لا توجد في واجهات البزارات الفخمة و معروضاتها المغشوشة، و إنما في عمق الحومات العتيقة و التواءات الدروب الضيقة و الأزقة  بممراتها المسقوفة المبهجة ،التي تنتعش فيها حياة الناس. أقدم مآثر مراكش هي دروبها.

سواء دخلت من درب ضبشي أو قوس القصور بشارع الرميلة، أو باب دكالة أو القصبة و باب أحمر، أو من باب الخميس، أو باب اغمات، فأنت في مأمن من الضياع، سلم نفسك بلا تردد، فمراكش ينبوع يصب في نفسه، إنها متاهة منتجة. كيفما كان المدخل سيقودك حتما لانتصار ما.

حومات المدينة تنفتح على بعضها، لكن لا تنس أبدا أنك، و أنت تعبر من واحدة إلى أخرى فأنت لا تقطع مسافة في مكان، و إنما تقفز من زمن إلى زمن. بعضها مرابطي و الآخر موحدي أو سعدي. تقدم و تذكر أنك تمر من الطريق نفسه الذي مر منه قبلك، ابن رشد و يعقوب المنصور الموحدي، و القاضي عياض،  و ابن برجان و ابن العارف.. و غيرهم كثيرون… المدينة بأرواحها.

لو لم تكن هذه المدينة منكوبة في حظها، لاحتكمت لخريطة روحية لثرائها النادر. بتثبيت معلومات في مدخل كل درب حول  من أقام فيه من حكماء، و عارفين، و كتاب، و مؤرخين، و فلاسفة، و  عدديين ، وشعراء، و متصوفة، من المغرب و الأندلس و العالم، لكانت حازت لقب ” العاصمة العالمية للروح” من ازدحام عدد كبير من صناع الوجدان الإنساني فيها. لكن مع الأسف، لا يتسيد في هذه المدينة سوى عقيدة  واحدة ” خلدوا لصوصكم.. و انصرفوا عن النبلاء. “

كم هو مؤلم أن لا تجد تحديدا تقريبيا لمسار ابن رشد فيها، و كم هو قاس أن تمر بدرب سيدي بولفضايل و لا تجد في مدخله ما يدل على أن كتبا كثيرة للعالمي خوان غويتصوللو كتبت في هذا الدرب حيث كان يقيم. كذلك الأمر في رياض الزيتون، حيث لا تجد دليلا على أن شاعر الحمراء كان هنا، أو درب الحمام بالمواسين الذي يتنكر لذاكرة عبد الله إبراهيم و شي غيفار الذي أقام فيه، و عدد كبير من رموز الحركة الوطنية و الفن و الثقافة. و القائمة تطول: القصور، القصبة، قاعة بناهيض، زاوية الحضر، رياض لعروس، الموقف، اسبتيين، باب دكالة، درب ضبشي، باب أيلان…

وحده المستعمر القديم عرف كيف يصون آثاره، مجّد ذكرى جاك ماجوريل حتى صارت الماركة المسجلة لسمعة مراكش، و خلد إيف سان لوران، و حافظ على ذكرى دونيز ماسون… اما من كان مغربيا، فعليه أن يقبل أنه كائن منذور للدفن و الإهمال. قدره أن يُنسى حيا، قبل أن يموت.

تذكر أن الساحر في مراكش ليست المسابح الفخمة، و لا علب الليل الصاخبة، و لا تجار الكوكايين المتجولين الأقرب إليك من حبل الوريد، فكل ذلك  ليس سوى استجابة مجنونة بالمال السهل  لحاجيات زبناء برغبات مشوهة، و إنما الساحر فيها هي هذه الأسطورة التي تتجسد في الحياة، في خدوش الجدران، و حشمة المعمار ومفاجآت جماله، في الفلسفة الصامتة لتركيب الدروب و فضاءاتها الاجتماعية، في السؤال الضاج الذي يفور في ذهنك ” كيف توصل هؤلاء إلى كل هذا الإبداع ؟ كيف وازنوا بين مادة حياتهم و القيم؟ سيحزنك حقا، أن تعرف أن هناك أجيال ممن ولدوا بعد سنة تسعين من القرن الماضي، خلقوا و كبروا في مراكش، لكنهم لا يعرفون منها سوى جامع الفنا، لم يتجاسروا قط على الحج إلى قلبها الرحب، الكامن في الدروب و الحومات و ما يربط بينها من معابر و ممرات.

أنت  من زوار مراكش، تتحمل صهدها وتروقك فوضاها، لا تستخف بذكائك، أزل آثار الدمار للدعاية التافهة من دماغك، و انزل خفيفا في روحها، تجاوب مع حبها الكوني، و استكشف مغامرا في ذاكرتها الحية. تذكر جيدا .. المدن بأرواحها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى