عادل أيت واعزيز: لوسات أنفو
“دع همومك وراءك، ابتسم، الحياة جميلة وقصيرة”، بهذه العبارة يُختتم ميثاق مجموعة الفايسبوك لفاتحي الشهية المغاربة، إذا أردنا نقل كلمة “L’APERO MARROKII”، للغة العربية.
“L’APERO”, حانة افتراضية لكل أنواع الخمور؛ من النبيذ بكل ألوانه، إلى الويسكي بأنواعه، نحو أصناف الجعة والشامبانيا. وحائط لمشاطرة مغامرات الأسفار. تضم المجموعة نصف مليون مغربي ومغربية، يتقاسمون فيها جوانب من لحظات الفرح والمتعة من حياتهم الشخصية. هم شباب وشابات مغاربة جمعتهم قنينة خمر ولمَّت شملهم كؤوس النبيذ.
مثقفون وموظفون ومهندسون وأساتذة وأطباء وطلاب… يتفاعلون مع كل ما ينشر في المجموعة الخاصة، وقبل موافقة مسيري على دخولك إليها، يتعاقد الأعضاء بميثاق بسيط، أهم ما يأتي به؛ الإنفتاح، احترام الآخرين، نبذ العنصرية والكراهية..
المغاربة الذين فرقتهم يوما الخطابات السياسية والدينية والفكرية، يلُمّ شَمْلَهُم منشور أحدهم يسأل عن ثمن وجودة زجاجة خمر، وآخر يستنصح في تجربة قنينة جديدة، وحبيبين يتقاسمان صورة مائدتهما، تزينها ألوان النبيذ المختلفة، ممزوجة بقصصهما الغرامية، وآخر يحتفل بميلاده أو نجاحه بزجاجة شامبانيا، وآخرون يتابعون عن كثب، ويعلقون بعبارات؛ بالصحة، سونطي، تشيرز أو نخبك.
طقوس البين بين
ولأن تقاسم الجلسات، تتفاوت على حسب القدرة المادية لكل فرد، لكن المُشْتَرَكَ فيها لحظاتها وطقوسها التي يدخل فيها؛ زمن سكب الشراب، الموسيقى، الأحاديث، سلطة النديم… ويوجد اعتقاد سائد وعام يؤمن به أصحاب هذه الجلسات أن الديموقراطية تبدأ من الزجاجة، لايفضَّل فيها شخص على الآخر، كل شيء بالتساوي. وكما يحلو لهذا التقاسم، فإن مقبلات الجبن والزيتون والفاكهة والمكسرات، أو كما يشاؤون تسميتها؛ “القطعة”، أي كل ما يمكن أن يَلْحَق رشفة الشراب، لكسر الذوق وتقسيمه، وخلق انتظاراتِ زمنية الكؤوس القادمة…
هامش الحرية المفقودة
فيما مضى، لم تكن للمسكوت عنهم، فرصة في مواقع التواصل الإجتماعي لإثبات وجودهم، ولا إمكانية لنيل هامش من الحرية. وهذا ما لامسه منشأ ومسير مجموعة “L’APERO MARROKII” وليد حسين، في تصريح خص به لوسات أنفو، يقول؛ «حينما كنت في الخارج ودخلت المغرب، اكتشفت غيابا لجانب من حقيقة المغاربة، سواء المولعين بالسفر، أو الذين يشربون أو حتى الساهرون، فهؤلاء غير مقبولين في مواقع التواصل الإجتماعي عامة، فخطرت ببالنا فكرة احتضان بعضنا البعض». يضيف؛ «نحن مجموعة ليست مخصصة فقط للمشروبات الكحولية، في المجموعة أعضاء لا يشربون وآخرون يسافرون». الذي حدث مع الوقت يتابع وليد كلامه؛ «أنه حينما قمنا بقبول هؤلاء الأشخاص، أصبحوا يحسون بنوع الإهتمام والإعتبار، وهكذا بدأت ترتفع أعداد المتوافدين على المجموعة».
أردف مسير المجموعة وليد في تصريحه لنا؛ «في البداية، ظن الجميع أن المجموعة ستكون منحلة أخلاقيا، لكننا يؤكد وليد، أننا كنا دائما في طليعة المجموعات المحترمة، فكل من يزور L’APERO، يلاحظ غيابا للسب والشتم أو التنمر، لقد كنا دائما يقول وليد أكثر المجموعات احتراما في المغرب، وفخورين بذلك».
لم تقتصر أنشطة لابيرو ماروكي على الفضاء الأزرق فقط، بل أطلق أعضاؤها مشاريع وملتقيات لتشجيع الأعضاء وتحفيزهم للإقبال على الحياة، هذا ما أكده لنا وليد قائلا؛ «نحن الآن ندخل في 11 سنة من تأسيس المجموعة، قمنا بمجموعة مشاريع ولقاءات واقعية بين أعضاء وعضوات المجموعة، وعقدنا شراكات، سواء مع شركات المشروبات الكحولية أو مع شركات الأسفار أوالمطاعم، لتقديم عروض وأسعار منخفضة للأعضاء، إضافة لمجموعة من التذاكر المجانية لحضور مهرجانات وملتقيات».
ويحدثنا وليد كيف كانوا يتلقون تهديدات من أطراف خارجية متعصبة، يقول؛«في بدايتنا كنا نتلقى تهديدات، لكن الآن لم يعد يُهتَمُّ لأمرِنا، لأنهم اكتشفوا أننا مجموعة قوية بأخلاقها الرفيعة».
يواصل حديثه؛« قمنا بخلق جو رائع، وبقيت المجموعة تشهد ارتفاعا في أعضائها وعضواتها، لأنهم يجدون راحتهم، ولأننا أيضا قمنا بتغيير الصورة النمطية للذين يشربون، على أنهم أشخاص غير مقبولين وغير أخلاقيين وشمكارة بلغتنا».
في البدء كانت المتعة
تعيد مجموعة “L’APERO MARROKII” فتح سرديات الخمر، في الأزمنة القديمة للحضارات الإنسانية، فهناك من وضعه في مكانة رمزية وقدسية ومن نسبه للآلهة. في واد الرافدين كان شراب البيرة يلازم كل وجبة، ويشربها الغني والفقير والرجال والنساء، وميز العصر البابلي بين عشرين نوعا من البيرة، يتقاسمها البابليون في مناسبات الأعراس والمآثم… بل تطور عند السومريين فنصّبوه رمزا للضيافة والكرم، يُطمئن فيه المضيف ضيفه ما دام يشرب من نفس الوعاء.
وتذكر أسطورة إغريقية أن إله الخمر ديونيزوس لم يعد يحتمل ثمالة وعربدة السومريين، فشد الرحال لأثينا ليمنحها هبة النبيذ، فكان ديونيزوس تدفقا حيويا، يكسر آفاق التوازن والإنسجام، هو فيضان يحطم القيود والشروط والقواعد.
وكان لأجمل افتتاحية كتبت في فلسفة وأدبيات الحب، محاورة “المأدبة” لأفلاطون، التي جمعت مجموعة فلاسفة، تحت سقف بيت “أغانون”، في جلسة سكر جماعية، انطلقت منه معالم الرؤية الغربية للحب. وتكتض الأساطير الإغريقية برمزية النبيذ، وحاضر بقوة في مساحات الحكمة اليونانية.
وبينما نحن نتجول في التاريخ، نعثر على الوجه الرحيم للبشرية. وطالما كان احتساء الخمور قرب المعابد ودُورِها، “حيث الفضيلة والرذيلة يدخلان الجنة معاً ويداً بيد”، كما كتب صاحب زوربا اليوناني نيكوس كازانتزاكيس. وبالعودة لـ4000سنة، حوَّلت إرادة الإله “رَعْ” نهل النيل كله لخمر، ونحت المصريون في الجبال مشروباتهم ومشاهد من صناعة الجعة.
أما الحضارة العربية الإسلامية، فنال الخمر فيها وجاهة وحضوة، لاتحصرها أقواس ولاتستنفذها آراء. كان ملتحفا بالقصيدة، وحاضرا في النصوص الأدبية والفلسفية، من الشعراء إلى المتصوفة، وصولا لاختلاف الأئمة فيه. فلم يترك أبو نواس شيئا في الخمر ليقوله غيره؛
ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ،
ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ
فما العيْشُ إلاّ سكرَة ٌ بعد سكرة ٍ،
فإن طال هذا عندَهُ قَصُرَ الدهرُ
وما الغَبْنُ إلاّ أن ترَانيَ صاحِيا
و ما الغُنْمُ إلا أن يُتَعْتعني السكْرُ
فَبُحْ باسْمِ من تهوى ، ودعني من الكُنى
فلا خيرَ في اللذّاتِ من دونها سِتْر
هذه الكأس نفسها، من فجرت ذروة العرفان مع سلطان العاشقين ابن الفارض، عميد الخمريات والثمالة. وهي ذاتها التي انْصَبَّت فيها ينابيع العشق في قلب مولانا جلال الدين الرومي، وكان له أثر وقول كثير في الخمر نسوق واحدا؛ “الفتنة تخرج من تحت العمامة، لا من جرة النبيذ”. وهي الجرة التي ساقت رجلا مأسويا كالحلاج نحو نهايته، فردد؛ “ركعتان في العشق، لا يجوز وضوؤهما إلا بالدم”.
الحياة لحظة.. لنغتنمها
إذا كانت L’APERO MARROKII تذكرنا بالسرديات الكبرى للإنسان، وتفتح أمامنا آفاق مغاييرة، جِدَّتُها التفكير في علاقتنا مع ذواتنا والآخر، فإنها ترمي بنا نحو تراجيديا لا يكون استقصاء المتعة فيها، إلا إمكانية للإحتفاء بالقوة التي تُفَرْمِلُنا، وفرصة لتأثيث حريتنا؛ سفرا ونبيذا وعبادة وقراءة وكتابة.. على الأقل لنكون على ما نحن عليه، ضداً على ترهل الإنتاج الإجتماعي للجسد، وأمام هذه الحضارة المائجة والمتقلبة، باقتحام معالم الرغبة وفنون الإعلان والتقاسم، وفك شيفراتها وعلامتها الفاضحة، بما في ذلك فن الحفاظ على التفرد وسط الجموع بتعبير نيتشه، أو فن الإستمتاع المطلق بالرفض كما يقول بودلير. توجد دوما احتمالات كثيرة لمجابهة الواقع؛ حسية ومتعوية وأبيقورية بالمعنى الإغريقي لها، أو كما يروق للمتأنق ميشيل أونفري أن يقول؛«لاثورة بدون انشراح، ولامقاومة بدون استمتاع».