عبد الإله إصباح
أقدمت جنوب إفريقيا على رفع دعوى ضد الكيان الصهيوني لدى محكمة العدل الدولية لارتكابه إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني بغزة، وتم قبول النظر في الدعوى من قبل المحكمة وقدم دفاع جنوب إفريقيا مرافعات قانونية تثبت بأدلة موثوقة وقائع الإبادة وتجرم الكيان المحتل وتضعه موضع إدانة واضحة وصريحة.
وقد بدا الكيان الصهيوني مرتبكا في دفع التهمة عنه لآن تصريحات مسؤوليه السياسيين بمختلف مواقعهم تشير بوضوح إلى النية والسبق والإصرار على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إذ كان منهم من اعتبر الفلسطينيين مجرد حيوانات لا تستحق إلا القتل والتجويع والحصار، وهناك من دعا إلى عدم التساهل مع الحوامل لأنهن يحملن في أحشائهن مشاريع إرهابيين مستقبلا. إلا أن الأهم من التصريحات هو الأفعال الملموسة المتمثلة في القتل المتعمد للمدنيين واستهداف المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد ومختلف المرافق الحيوية وذلك بهدف تهجير الشعب الفلسطيني من غزة وحصاره وتجويعه، ويكفي هنا أن عدد الشهداء بلغ إلى حدود الآن أكثر من 24 ألف شهيد فضلا عن المفقودين والجرحى الذي ناهز سبعين ألفا، وكل ذلك في فترة وجيزة لا تتعدى ثلاثة أشهر وهو ما يجعل هذه الإبادة بفظاعتها تضاهي ما أقدم عليه النازيون في الحرب العالمية الثانية. هذه الفظاعة في التقتيل والتجويع والحصار تعكس عنصرية وهمجية الكيان الصهيوني ونفاق الغرب وتواطئه في هذه الجريمة ضد الإنسانية. وجنوب إفريقيا من منطلق المبادئ والقيم التي تأسست عليها كدولة جربت وعانت من سياسة الأبارتايد والتمييز العنصري قررت أن لا تنخرط في مؤامرة الصمت فبادرت بخطوة شجاعة لفضح جرائم الكيان ولتضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته ولتختبر مصداقية مؤسساته التي لم تحرك ساكنا منذ بدء العدوان الهمجي ضد الشعب الفلسطيني. جنوب إفريقيا اختارت التضحية بالمصالح انتصارا للإنسانية وصونا لقيم الكرامة والعدل والمساواة التي بدونها يصبح العالم مجرد غابة للوحوش ، القوي فيها يأكل الضعيف ويلتهمه بدون ذرة شفقة أو إحساس.
برهنت جنوب إفريقيا أنها دولة عظمى ليس بالأساطيل الحربية والطائرات النفاثة والقنابل الانشطارية، وإنما من خلال إدانة الجريمة ونصرة المظلوم، وتعرية حقيقة المجرم وتسليط الضوء على وحشية جرائمه التي ترقى بالملموس إلى جرائم ضد الإنسانية. جنوب إفريقيا عندما انتصرت لفلسطين لم يكن دافعها دينيا أو قوميا أو لغويا أو عرقيا بل كان إنسانيا خالصا في العمق والجوهر. ولاشك أن الأنظمة العربية ازداد انفضاحها أمام شعوبها، خاصة وأنها لم تجرؤ على القيام ولو بإجراءات رمزية كاستدعاء سفرائها والمكلفين بمكاتب الاتصال، أومجرد التهديد بقطع العلاقات، أو الحرص على أيصال المساعدات الإنسانية، أو الإقدام على فتح معبر رفح في حالة مصر التي أبان نظامها عن تبعية مخجلة لأمريكا و الكيان الصهيوني. إن محكمة العدل الدولية كمؤسسة من مؤسسات الأمم المتحدة أمام لحظة فارقة من تاريخها، لحظة تسائل مصداقيتها وتضع قضاتها أمام ضمائرهم، لحظة تختبر نزاهتهم وإنسانيتهم بل وتختبر منظومة القيم الإنسانية التي كانت وراء ظهور وإنشاء المنتظم الدولي باعتباره الحاضن لهذه القيم قبل أن يتم تسييسه لصالح رهانات الهيمنة الأمريكية واستراتيجيتها التي تتوخى إخضاع الشعوب ونهب ثرواتها . وهنا لابد من التذكير أن الأمم المتحدة سبق لها في إحدى قراراتها الشجاعة أن اعتبرت الصهيونية حركة عنصرية في عهد أمينها السابق كولت فالدهايم في عقد السبعينيات قبل أن تعمل أمريكا على سحبه في بداية التسعينيات
إن جنوب إفريقيا من خلال هذه المبادرة الشجاعة تبرهن أنها لا زالت وفية لإرث مؤسسها العظيم نلسون مانديلا، ولا زالت تناضل من أجل عالم تسوده العدالة والمساواة، عالم خال من الهمجية والعنصرية