حراك التعليم … وجدل التنسيقيات والنقابات
عبد الإله إصباح
يستمر حراك التعليم في إثارة الانتباه والاهتمام والجدل وسط الرأي العام الوطني، لما له من تداعيات تمثلت في مجموعة من اللقاءات والاتفاقات وآخرها اتفاق 10 دجنبر 2023 بين الحكومة ممثلة في اللجنة الوزارية وبين النقابات والذي أسفر عن إقرار زيادة في أجور هيأة التدريس وحل مجموعة من الملفات العالقة. ومع ذلك رفضت مخرجات هذا اللقاء من طرف التنسيقيات واستمر قرار الإضراب ساري المفعول يشل المؤسسات التعلمية ويهدد بخطر سنة بيضاء يكون ضحيتها ما يفوق ثمانية ملايين تلميذ وتلميذة. وهاهنا مرة أخرى يطرح موضوع التنسيقيات للنقاش من حيث طبيعتها وأساليبها وقوة تأثيرها في مقابل التأثير المحدود الذي أصبحت تعاني منه النقابات. وقد ساهم في هذا النقاش الكاتب والباحث سعيد بنكراد بمقالة تناول فيها بالتحليل ظاهرة هذه التنسيقيات باعتبارها “تعبيرا عن الرغبة الآنية التي تقتضي تحققا هنا والآن خارج كل غطاء سياسي أو قيمي عدا المردود المادي لما يأتي من الفعل ذاته” وفي المجمل نحت مقالة الكاتب إلى تقييم سلبي لهذه الظاهرة مقارنة إياها بظواهر مماثلة عرفتها مجموعة من الدول كظاهرة السترات الصفر بفرنسا التي انبثقت من خارج الأطر التقليدية التي كانت تؤطر احتجاجات مختلف الشرائح الاجتماعية. ولعل المتحكم في نظرة كاتبنا هو كونه اختبر تجربة تنظيمية سياسية في إطار 23 مارس ثم في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي و تجربة نقابية في إطار النقابة الوطنية للتعليم العالي. فهو إذن بحكم هذا الرصيد التنظيمي سياسيا ونقابيا لا يمكن أن يستسيغ ظاهرة لا تنبثق من التنظيم و لا تنطلق من رؤية وغاية سياسية ولذلك كانت المقالة تنحاز للنقابة كتنظيم ضد ما يشكل نقيضها من تجمعات وتنسيقيات لا يجمع بين إفرادها سوى المطلب الآني والعاجل.
هنا مرة أخرى يطرح موضوع التنسيقيات للنقاش من حيث طبيعتها وأساليبها وقوة تأثيرها في مقابل التأثير المحدود الذي أصبحت تعاني منه النقابات.
غير أن تحليل الظاهرة من منظور سوسيولوجي يستوجب إبعاد أحكام القيمة و الاكتفاء بوصفها وتحديد عوامل نشوئها و تفسير عوامل اختراقها لمعظم الجسم التعليمي، و لاشك أن البحث سيفضي إلى عامل تراجع العمل النقابي و خفوت توقده في السنوات الأخيرة لأسباب مرتبطة بوضعية اليسار و انكفائه، وفقدانه لآية هيمنة سياسية وإديولوجية، وهذا ما جعل العمل النقابي عاجزا عن مسايرة تراكم مطالب مجموعة من الشرائح والفئات التعليمية في تنوعها وتعددها، فضلا عن استحكام النظرة البراغماتية لاحتجاجات هذه الفئات التي تطالب بالحلول الفورية والآنية دون تباطؤ واو تماطل تحت أي مبرر من المبررات، نابذة من أول وهلة الارتباط بأي تنظيم أو توجه سياسي من منطلق أن السياسة في نظرها ستشكل عائقا أمام أية استجابة لمطالبها. ولعل هذا ما يفسر أن الدولة تجنبت على العموم المنع والقمع في التعاطي مع الحراك والاحتجاجات المرتبطة به. و لا يمكن في سياق البحث في الظاهرة استبعاد بعض الظواهر السلبية التي تفشت في الجسم النقابي من قبيل البيروقراطية وترهل الهياكل التنظيمية في بعض القطاعات أو بعض الفروع، وعدم الحرص أحيانا على احترام المسافة الضرورية من السلطة سواء على الصعيد الأقليمي والجهوي أو حتى على الصعيد الوطني، فضلا عن غياب الشفافية في تدبير بعض ملفات الحركة الانتقالية وتدبير الفائض بالتنسيق مع المديريات الإقليمية، فهذه الظواهر ساهمت بقدر معين في المأل الذي أل إليه العمل النقابي، دون أن ننسى دور السلطة المؤكد في هذا الإضعاف وهذا المصير. والمؤكد أن هذه التنسيقيات ستختفي من المشهد عندما يتم تحقيق مطالبها الآنية، وستبقى النقابات التي ترتبط بأفق سياسي لأنها لم ترهن وجودها بما هو آني ومستعجل، بل رهنت هذا الوجود بمشروع سياسي لا يمكن أن يستغني عن النقابة كدعامة من دعائم بنائه وترسيخه .