محمد النواية يكتب عن الكوتشي
محمد النواية
الكوتشي أو العربة المجرورة بالخيول هي وسيلة عريقة للتنقل. دخول هذه العربات إلى المغرب يعود إلى القرن التاسع عشر الذي عرف استقرار جاليات أجنبية بالمملكة. من بينهم التجار البريطانيين اللذين استعملوها كوسيلة للتنقل قبل أن يستخدموها الوجهاء والشخصيات في تنقلاتهم. مدينة مراكش استطاعت أن تحافظ على هذا التراث المادي. نقطة انطلاق هذه العربات كانت من ساحة جامع لفنا إلى أحياء المدينة العتيقة؛ القصبة؛ باب دكالة؛ الزاوية-باب تاغزوت؛ باب أغمات –سيدي يوسف بن علي. الركوب على متن هذه العربة كان فرجة جميلة بمقاعدها المريحة؛ شاعرية مساراتها في الأزقة الضيقة، وطرق وشوارع المدينة حيت الأصالة وعبق التاريخ. الصغار كانوا يتسابقون للفوز بالجلوس جنب السائق الذي يسميه أهل مراكش “الكوتشيرو” أو مول الكوتشي، يتميز بجلبابه الشتوي الثقيل في الشتاء وقبعته المصنوعة من الدوم التي تحميه من حرارة الشمس صيفا. كنا نتمثل أنفسنا نسوق العربة ونتتبع باهتمام حركة الخيول ونسمع عن قرب رنين النواقيس المعلقة في أعناقها والنغمات الموسيقية التي تحدتها الحوافر على قارعة الطريق.
إن لم يسعفنا الحض أحيانا للظفر بهذه المتعة؛ نرتمي في المقاعد الوثيرة بين دفء النساء في حين يجلس الرجال في المقاعد القصيرة خلف السائق. كم كانت تعجبنا المقاعد الوثيرة خاصة حين يكون الجو ممطرا ويبادر العرباتي برمي غطاء بلاستيكي سميك على العربة فنسمع قطرات المطر وهي تنقر هذا العازل في حين نتدفأ باحتكاك بعضنا ببعض. لغة السائق الخاصة تثير انتباهنا وهو يأمر بها الخيول للتخفيف أو الزيادة من السرعة؛ الوقوف؛ تغيير المسار يمينا وشمالا . حين تضيق الطريق في بعض الأزقة ويشتد الزحام يشرع السائق في هز سوطه في الهواء يحذر ويندر، يثير ذلك بعض الصبيان فيخرجون من أوكارهم يعبثون بالسائق ومنهم من يتعلق وراء العربة سارقين بذلك متعة الركوب بالمجان إلى أن تنزل ضربات السوط على أظهرهم بعد صيحة “أشحط” من أحد المارة وينزلون فارين بجلدهم ونحن نضحك من السائق وهو يضرب الهواء بسوطه ويطلق لسانه بألفاظ تُغْلِظُ حتى تصل إلى الشتم القبيح وتُرِقٌ أحيانا حتى تبلغ المداعبة. هذه العربات لم تعد اليوم تجوب أحياء المدينة داخل السور، لقد اتجهت إلى الفنادق والاقامات الفاخرة والأحياء الجديدة الراقية والمركبات السياحية حيت متعة أخرى حيت تداس كرامة الإنسان ويشترى كل شيء مقابل المال من أجل الإجهاز على ما تبقى من حياة جميلة وبسيطة فوق هذه الأرض. لم يعد العرباتي يتكلم لغة الشعب وينفتح على البسطاء بروح منشرحة. لقد أصبح ينطق بأكثر من لغة ينقي وينتقي من قواميسها معاني اللذة والمتعة والرغبة ويحفظ دلائل أماكنها الظاهرة منها والمخفية.