بورتريه

ميلان كونديرا: مرتحل اللغة ومخترق الحياة بالضحك و النسيان

لوسات أنفو: حسن أوزيادي

نحط اليوم في عالم  ميلان كونديرا، أحد الروائيين الذين قلبوا مفهوم السرد الحكائي في رواياته وفي  الأبعاد النفسية لشخوصه وعبر زوايا و رؤية سردية عميقة ومركبة و بطباع شخوص ساخرة تنتقد بجرأة العالم من حولها.

في عالم اليوم  يتنوع المنتوج الفكري في نسقه وبنيانه، في تنوعه وفي طبيعته، في شكله وفي مضمونه، لكن يبقى محوره الإنسان في كينونته ووجوده، في واقعه وفي حلمه، في بؤسه وفي فرحه ، في شقائه وفي سعادته.أدب وفلسفة  وتاريخ وفن و موسيقى.هي أجناس فكرية طوعها الإنسان لتَعكس واقعا موضوعيا يكون الخيط الرفيع بينهما الإنسان كموضوع بحث وتأمل وإبداع لاكتشاف دواخله المركبة، ويكون فيه المبدع ذاك المستكشف للدواخل الإنسانية ،بالسرد تارة والريشة واللون والنوتة والإيقاع الموسيقي تارة أخرى.

تعتبر الرواية اليوم أحد الأجناس الأدبية التي تتعاطى مع الكينونة الإنسانية بأحاسيسها  المتناقضة ،من زوايا ومقاربات مختلفة.

نستكشف اليوم مقاربة روائية أثارت اهتمام النقاد وأسالت كثيرا من الحبر والمداد وأثارت الجدل لكون مُنتِجها  قدم لقرائه سردا روائيا جديدا، مزج فيه بين المقولات  الفلسفية، التي تنظر إلى العالم في مجموعه بصفته مشكلة يجب حلّها عبر تعميق المعرفة التقنية والرياضية، وبين الرواية التي تحاول سبر كنه العالم المحسوس لحياة الإنسان.

ميلان كونديرا  الرواية و الفلسفة

يقول كونديرا” الواقع ان الفلسفة والعلوم، قد نسيت كينونة الإنسان، فيما الرواية ابتداء من سرفانتس سعت إلى سبر كيان هذا الكائن المنسيّ. وقد اكتشفت الرواية عبر أربعة قرون من تاريخ أوروبا مختلف جوانب الوجود، تساءلتُ مع معاصري سرفانتس عما هي المغامرة، وبدأت مع ريتشاردسون في فحص «ما يدور في الداخل»، وفي الكشف عن الحياة السرية للشاعر، واكتشفت مع بلزاك تجذّر الإنسان في التاريخ، وسبرت مع فلوبير أرضاً كانت حتى ذلك الحين مجهولة هي أرض الحياة اليومية، وعكفت مع تولستوي على تدخل اللاعقلاني في القرارات وفي السلوك البشري، واستقصيت اللحظة الماضية مع ما رسل بروست، واللحظة الحاضرة التي لا يمكن القبض عليها مع جيمس جويس. ان اكتشاف كينونة الإنسان وسرّه المنسيّ والمخفي في آن هو ما يمكن الرواية وحدها دون سواها أن تكشفه، وهو ما يبرّر وجودها. إذا كان فهم الأنا المفكر مع ديكارت بصفته أساس كل شيء، والوقوف في مواجهة الكون وحيداً موقفاً اعتبره هيغل بحق موقفاً.”

يذهب كونديرا في تقليبه لصفحات الفن الروائي إلى اعتبار الشخصية والعالم الذي تتحرك فيه كناية عن امكانات قصوى غير منجزة للعالم الإنساني، وتجعلنا نرى بذلك ما نحن عليه، وما نحن قادرون عليه.

بمعنى ان الرواية لا تفحص الواقع بل الوجود. والوجود ليس ما جرى، بل هو حقل الإمكانات الإنسانية، كل ما يمكن الإنسان أن يصيره، وكل ما هو قادر عليه. ويذهب كونديرا إلى أبعد من ذلك طارحاً السؤال الأنطولوجي الذي يتعلّق بهوية الفرد قائلاً: «ما الفرد؟ وأين تتركز هويته؟

 

هذه التساؤلات حول ماهية الفرد لا يجيب عنها مباشرة كونديرا، وانما يستعير الجواب من توماس مان الذي يقول: «نفكر أننا نتصرف، نفكر أننا نفكر، لكن أمراً آخر أو آخرين من يفكر ويتصرف فينا: عادات سحيقة، نماذج أصلية انتقلت وقد صارت أساطير، من جيل إلى جيل تملك قوة هائلة من السحر تهدينا اعتباراً من

بئر الماضي.

المنشأ وحياة كونديرا

ولد ميلان كونديرا عام 1929م و هو من أصول تشيكية ، كان والده عالم موسيقى و قد شجعه على دخول عالم الفن و الكتابة و الموسيقى ، و بالفعل درس الموسيقى و الأدب و بعد إنهاء دراسته عمل في التحرير في بعض المجلات الأدبية ، و لم يتوقف ميلان كونديرا عند حد الكتابة بل إتجه لتأليف الشعر أيضًا ، و قام بنشر أول دواوينه عام 1953م و لكن كالعادة في بداية حياة الشعراء لا يجدون اهتمامًا كبيرًا من قبل الأخرين ، و بعد أن قام ميلان بنشر مجموعته القصصية “غراميات مضحكة” عام 1963م ؛ ذاع صيته في الأوساط الأدبية و عرفه الناس ونال شهرة واسعة.

 التحق بالحزب الشيوعي في العام 1948، وتعرض للفصل، وعاد بعد ذلك عام 1956 لصفوف الحزب، ثم فُصل مرة أخرى عام 1970.

نشر في العام 1953 أول دواوينه الشعرية لكنه لم يحظ بالاهتمام الكافي، ولم يُعرف كونديرا ككاتب هام إلا عام 1963 بعد نشر مجموعته القصصية الأولى “غراميات مضحكة“.

فقد كونديرا وظيفته عام 1968 بعد دخول الاتحاد السوفييتى لتشيكوسلوفاكيا، بعد انخراطه فيما سُمّي ربيع براغ، اضطر للهجرة إلى فرنسا عام 1975 بعد منع كتبه من التداول لمدة خمس سنوات .

وفي هذا السياق قال فرنسوا ريكار في المقدمة التي كتبها عن كونديرا في «لابليياد» “أنّه حقق معادلة غريبة بعد كتابته بالفرنسية، إذ شعر قارئ كونديرا بأنّ الفرنسية  تهي لغته الأصلية التي تفوّق فيها على نفسه. وعنه أيضاً يقول الكاتب البريطاني رينيه جيرار: “انّ المدرسة الأدبية التي ينتمي اليها كونديرا ليست إنكليزية على الإطلاق لكونها لا تولي موضوع العمل أو مضمونه الأولوية، بل الأهمية تكمن في الأسلوب الإبداعي والعمارة الأدبية في شكل عام. وعندما قرأت كونديرا في بودابست قرّرت أن أصبح روائياً تحت تأثير الدهشة والإعجاب بهذا الإبداع. قرّرت أن أكتب وإنما تبعاً لمنهج المدرسة الأوروبية وليس البريطاني”

مركزية الإنسان عند ميلان كونديرا

يؤسس كونديرا  روايته على مركزية الإنسان ، ويتطرق بعمق إلى موقع  الإنسان في العالم، وبالطبع لمعاناته التي لا تنتهي، والتي تبدو كجزء أصيل من الوجود، فلا يرى «كونديرا» أن الإنسان مسؤولًا بحق عن المعاناة التي كُتبت عليه في العالم. التعلم من أخطاء التجارب السابقة، فكل حدث وكل موقف هو فريد في حد ذاته، ولا تتشابه أي من المواقف مهما بدت كذلك، لأن الذي حدث في الماضي هو جزء من الماضي، أما الحاضر فله معطياته التي تحكمه، مهما كانت صغيرة وغير واضحة. لذلك لا يتسنى للإنسان أي فرصة لإصلاح الأشياء أو التعلم منها، فيكون إلزام الإنسان بتحمل مسؤولية أخطاءه وهفواته مجرد ثقل عبثي جديد من الأثقال العبثية المتراكمة التي وضعتها الحضارة على عاتق الإنسان لتصنع منه كائنًا عقلانيًا خالصًا يستطيع تحمل الثقل رغم حقيقة هشاشته، أو بالأحرى خفّته، ولكن رغم ذلك يضع كونديرا استثناءًا واحدًا للقاعدة التي أقرها، ألا وهو المعرفة، حيث يرى أن الجهل هو الخطيئة الوحيدة التي تقع على عاتق الإنسان.

 فلا يمكن أن يتنصل الإنسان من المسؤولية تجاه جهله، لأن بذلك تصبح كل الحماقات مبررة سلفًا، هذا الاستثناء القاعدة التي وضعها كونديرا من الأساس، فالمعرفة اصطلاحًا تشمل كل أنواع المعارف التي يمكن للإنسان أن يعيها في عالمه. ربما يكون ذلك صحيحًا، وربما لا، ولكن الأكيد أنه قصد هذا التناقض، فلطالما لعب على إبراز التناقضات التي تسيطر على حياة الإنسان

.كونديرا والتفاهة والسخرية من الواقع  “حفلة التفاهة

التفاهة ياصديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لايرغب أحد برؤيتها فيه؛ في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب. وهذا يتطلب شجاعة للتعرف عليها في ظروف دراماتيكية للغاية ولتسميتها باسمها، لكن المقصود ليس التعرف عليها فقط وإنما يجب أن نحبها ، أن نتعلم حبها

التفاهة عند كونديرا هي المعادل النظري للسخرية أو الفكاهة، وهو الذي ميّز فن الرواية عن الفلسفة بأن الفلسفة تحلل العالم من خلال مفاهيم نظرية، بينما الرواية مهمتها تكمن في تقديم العالم بروح الفكاهة..

وبرغم ذلك، يتطرّق كونديرا إلى العديد من الأفكار الفلسفية، كعلاقة الإنسان بالسلطة، وعلاقة المحب بمحبوبه، ويربطها جميعًا بخيوط عبثية تنطوي على التفاهة في عمقها، حتى وإن بدت غير ذلك.

أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. لم يكن ثمة سوى مقاومة وحيدة ممكنة : ألّا نأخذه على محمل الجد“.

إِن العالم الذي نعيش فيه ونحارب من أجله، ونتخلى عن إنسانيتنا لنحقق انتصارات محدودة وفق قواعده، لا نستطيع وصفه إلا بالتفاهة، تفاهة لا نهائية ينسينا إياها صخب الحياة وسرعتها.

 التجلي الأخير الذي يختصر كل شيء في العدم واللامعنى. عبقرية الرواية تتجلى في أنها تطرح أكثر المواضيع الإنسانية أهمية لكنها في نفس الوقت لا تجيب على أي شيء بجدية أو بواقعية، وربما أن هذا في حد ذاته هو أفضل جواب.

انظر! نصف هؤلاء الذين تراهم على الأقل قبيحون! أن يكون المرء قبيحًا! هل هذا أيضًا جزء من حقوق الإنسان؟ وهل تعرف أنه يحمل قبحه طيلة حياته؟ دون أية راحة؟ جنسك أيضًا، أنت لم تختره. ولم تختر لون عينيك ولا القرن الذى تحيا فيه. ولا بلدك. ولا أمك. لا أي شيء مهم. الحقوق التى يمكن أن يحصل عليها إنسان لا تتعلق إلا بتفاهات وليس ثمة سبب للصراع حولها أو كتابة إعلانات شهيرة عنها.”

إن الركائز التي تقوم عليها روايات كونديرا ليست سيكولوجية، وانما روايات الفعل، اذ بالفعل يتميز الإنسان عن الآخرين ويصير فرداً، وحين يكف الفعل في الرواية عن ادراك الأنا في الفعل يجب ملاحقته في الفعل اللامرئي في الحياة الداخلية حيث تعترف الشخصيات بأفعالها ومشاعرها، وأفكارها. يقول كونديرا:” أضع نفسي في ما وراء الرواية السيكولوجية، فلا يعني هذا أنني أريد حرمان شخصياتي من الحياة الداخلية، وانما يعني ان ثمّة الغازاً ومسائل أخرى تلاحقها رواياتي في المقام الأول.”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى