مذكرات

محمد النواية يكتب عن الكمان والكنار

لوسات أنفو

 

دكان السي إبراهيم الكَمان يقع عند مدخل حي ضباشي في الجانب الأيسر؛دكان ببابين أفقيين كدكاكين القيصاريات واحد يرفع إلى أعلى والأخر يطلق إلى أسفل. لُقِّب بالكَمال لحبه للأطفال ((gamin. امتهن بيع الفواكه حسب قدماء الحي لكن لا ترى أثرا للفواكه في حانوته إلا من واحدة كل سنة ، إنها فاكهة الزفزوف يضعها في طابق من الدوم ،يعرضها أحيانا على أطفال الحي ليتملى بمحياهم الطفولي الجميل (الولد ياكل الزفزوف وبا الكمان تيشوف).

في جانب أخر من الدكان زيتون أسود في إناء معدني أبيض محضر بالطريقة اليونانية. على حيطان المحل أقفاز صغيرة معلقة تأوي أنواع مختلفة من الطيور ؛أم قنين ؛أم الحسن؛

الفخت؛ السمارس والكنار. مجالسيه كثر من كل الفئات ،حرفيين؛موظفين؛وصناعتقليديين. متسلطن في جلساته  بعمامته الحمراء وجلبابه المرا كشي القصير ” لَمْحَرْمَة ” ؛زاده من القنب الهندي لا ينبض وغليونه (السبسي) الأنيق من عود الشوك ، هو الوسيط تصل عبره النشوة إلى أدمغة الجلساء ،عشبة فيها راحة وطمأنينة مع أصحاب طبع مرح وروح صافية وسمر تتبادل فيه النكت البارعة والغمزة الساحرة والضحكة المنطلقة ، مجال للحكايات الرائعة وتمازج للأرواح والطباع وعذوبة في الفكاهة والأماليح . الكَمان شخصية ضاربة في أصقاع مراكش ،بارع في تحضير أكلة الطنجية وإقامة حفل النزاهة في البساتين الغناء أيام فصل الربيع . يخشاه أطفال الحي لميوله لجلسات ألأنس مع الغلمان .يتحدث مع جلسائه في كل شيء؛ في أحوال البلاد والعباد ؛ في الترفيه والتنكيت وما لذ وطاب من الأدبيات الشعبية الشفاهية . في مسامرتهم يرصعون كلامهم بمخزون التراث الشعبي واختيار ما جد في أساليب البسط والتقشاب ويشاكسونه ليستمتعوا بردوده وبداهة أجوبته واستنباط ما يبهج مجلسهم .كان هذا المحل يضيف لمدخل الزقاق رونقا وألفة لأهل الحي اللذين تنقصهم تلك الجرعة من رؤيته حين يغيب عنهم . مرة  اشْتُبِهَ دكانه لامرأة بمحل عطارة ، فاتجهت للكَمان بالسؤال :”عندك  أسيدي فأرة الخيل ؟ فأتاها الرد بسرعة :”فأرة الخيل هي اللي بين فْخَادْك ” وفي إحدى الأيام هرب له بغتة طير من القفص فترجى المارين بالتوقف وحبس الطريق وصار يتمتم (بس بس. . . ) للطير ويقلد ما يردده الطيور من تغريدات إلى أن رجع الطير إلى القفص . حين كنا تلاميذ بثانوية محمد الخامس طلب أستاذ فرنسي لمادة الطبيعيات من تلاميذه البحت عن فأر أبيض قصد تشريحه في حصة الأعمال التطبيقية ، فقصد التلميذ دكان الكَمان بعد أن نصحوه أصدقاءه بأن ضالته في هذا الدكان ، وقف التلميذ الصبوح أمام الدكان وسأل : “هل عندك فأر أبيض ؟ فرد الكَمان :” أدخل لم يبقى لدي إلا فأرا أسمرا .”  على يمين الدكان يتوافد كل مساء حرفيون من عشاق الطرب ألأصيل على مقهى المختار لعجل في مدخل الفندق المجاور ؛إحدى المقاهي الشعبية التي دأبت على نهج مقهى المصرف بمراكش في إشاعة الغناء الشرقي في بعض أحياء المدينة العتيقة . فضاء المقهى ليس شاسعا ولا يمت بصلة بشاعرية مقهى المصرف ، لكنه يفي بالغرض يجمع فئة تعشق سماع الموسيقى والطرب العربي المعتق الكلاسيكي وتدخن ما طاب من نبتة الكيف بلذة كؤوس الشاي  المنعنع والقهوة المعطرة المغلية في الزيزوة . يرتب  ” بٌاختار” سماع الروائع الموسيقية بدءا بأغاني مطربي المغرب العربي ؛الحاج العنقة؛عليا التونسية ؛محمد الجاموسي ؛بوجمعة الفروج وتلميذه الحسين السلاوي وطرب الملحون خاصة قصيدة “الفرانة” ، تليها باقة أخرى من روائع عمالقة الطرب الشرقي التي تسكر رواد المقهى وتسبح بهم إلى عالم موغل في الشاعرية والأحاسيس الفياضة التي تخاطب الوجدان والجوارح . مرة تجرأ أحد الزبناء لخرق هذا الترتيب الغنائي ؛ كان جالسا في أقصى المقهى نادى على بٌاختارعند نهاية إحدى الأغاني فطلب الاستماع إلى أغنية صعبت عليك لمحمد عبد الوهاب ونجاة علي؛ رد عليه المختار وهو يقترب منه بقامته الطويلة في خيلاء بوزرته البيضاء وشكارته المطروزة وكان يعلم قصده وسبب مجيئه :” كُل واحد هْنَا تَنْعَرْفُو قَصْدُو     أُمُرَادُو  بلا خط زناتي ولا خط الرمل ولا قريعة ا لأنبياء؛الأغنية ستسمعها حين يأتي دورها ،  رَاهْ ماشي أنا اللي غادي ندور راه الديسك اللي غادي يدور”. كانت الأجواء الموسيقية والغنائية تصل إلى دكان الكَمان كأنه جناح من أجنحة المقهى فتغمر جماعته أنسا ودفئا وتملأ روحهم بهجة وطربا ، فتتربع النشوة على عرشها ويحلو التراشق بالمستملحات وعذوبة الفكاهة ؛فتجري على ألسنتهم نوادر وتندر فيغرقون في المرح والضحك . إنها أماكن لتجديد الوجود يهرعون إليها هؤلاء الناس للشفاء من قراحات الرتابة وتصفية الذات مما لصق بها من الهموم المعيشية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى