الرأي

تحول الشارع إلى منبر، هل المواجهة وشيكة؟

هناك فجوة غير قابلة للردم بين ما يختمر في الواقع، الذي يبدو أن النخب غارقة في جهل مدمر بحقيقته المخيفة، و بين ما تنشغل به هذه النخب و الذي تعتبره الطريق الوحيد لتطويق المشاكل

لوسات أنفو: باسم الشغوف

خروج الآلاف من  الذين ملأوا شوارع الرباط احتجاجا على النظام الأساسي للتعليم، لم يكن مجرد احتجاج لفئة محصورة بأسئلة القطاع الذي تعمل فيه، و إنما رسالة واضحة موجهة من الواقع الذي يغلي إلى كل من يهمه مصير المغرب.  فقد أظهرت انشقاقا مخيفا بين تطلعات وفهم المجتمع لقضاياه، و بين فهم  “النخبة” التي تسيره، و التي لا تستطيع أن تبلوره إلا على أساس تعليمات المؤسسات الدولية المانحة، و التي نحتاج إلى جرعة زائدة من الغباء لكي ننكر أنها تستعمل سياسة القروض للإجهاز النهائي على البلدان النامية و توازناتها الاجتماعية من أجل تأهيلها إلى الأسوأ.

هناك فجوة غير قابلة للردم بين ما يختمر في الواقع، الذي يبدو أن النخب غارقة في جهل مدمر بحقيقته المخيفة، و بين ما تنشغل به هذه النخب و الذي تعتبره الطريق الوحيد لتطويق المشاكل والحلول التي تعمل  على فرضها إلى أزمات خانقة تمتد إلى مختلف شرائح المجتمع. حتى أصبح في حكم المؤكد أن كل حل تقترحه لن يكون في حقيقته سوى حزمة من المشاكل المضافة إلى الواقع المأزوم. لكن الجديد، و الذي لم يكن خارج توقعات المحللين الذين كثيرا ما حذروا منه، هو أن تحرك الآلاف من الأساتذة الذين هجروا حجرات الدرس إلى الشارع، يكشف من ناحية أولى حقيقة جد دالة، هي عودة الوعي الاجتماعي الفعال إلى الطبقة الوسطى مدفوعة بالضغوط المتوالية التي استهدفتها، و قلصت من إمكانياتها في العيش ووضعتها على عتبة الالتحاق بالطبقات المسحوقة. ومن ناحية ثانية، أجج حقيقة أخرى مفجعة، تتمثل في الاقتناع العام لدى الفئات المتضررة من أداء النخبة و طريقة فهمها للمشاكل، من أن لا حل يمكن أن يأتي من التعويل على المؤسسات التمثيلية و آليات الوساطة. بل الأسوأ من ذلك، الاقتناع بأن أي تدخل لهذه المؤسسات لن يجدي إلا في تعميق الأزمة، لا أن يحلها.

وجهت إحدى النقابات دعوتها للأساتذة بالعودة للمدارس و ترك الفرصة للمعنيين للتفاوض حول مآل النظام الأساسي، لكن دعوتها ووجهت بسخرية لاذعة و بتمرد عدد من فروع النقابة ذاتها و بإصرار صارم من قبل المعنيين المباشرين بهذه القضية بمواصلة احتجاجهم. بمعنى واضح وضعت النقابات جانبا من قبل من تدعي أنها تمثلهم، و انكشف أن تمثيليتها سطحية و لا امتداد لها في المجتمع، و لن تكون أبدا مفيدة في المستقبل في جعل المتضررين يقبلون بوضعهم المأزوم على أنه مصلحة عليا للبلاد، و هي المهمة التي صارت تؤديها بارتباك. لم تكن هذه نتيجة طارئة لسبب وليد اليوم، و إنما أحد التداعيات الرئيسية لانحراف النقابات و الاحزاب عن دورها منذ سنوات، حتى صار المجتمع لا يرى سوى كتلة واحدة بذراعين أحدهما يقرر و الآخر يبارك و يمجد، و يزين لدى المجتمع ما قرره الأول. غير منتبهين أنهم يعرضون الدولة لخطر كبير، و يصنعون اختلالا صعب الترميم يعملون باجتهاد على تعميقه بتخليهم عن أدوارهم.

ما شاهدناه في الرباط، يكشف تحولا مثيرا، هو أن الشارع صار المنصة الوحيدة المتبقية لترافع المجتمع عن نفسه، بل تحول إلى سياسة فعلية تتم في قلب الإحساس الحي بعمق المشكل و طبيعته ممن هم في صلبه و يدفعون ثمنا باهظا بسببه. ففَهْم من هم في مؤسسات الوساطة و مجالس التمثيل، لم يعد مرضيا، طالما أنه يظهر أنه نابع من التزامات مع جهات و قوى أخرى أكثر منها مع المجتمع الذي من المفروض أنه منبع التفويض الذي بموجبه يتصرفون، التزامات مع صناديق القروض الدولية و مؤسساتها المتفرغة لإصدار الوصفات الواجب تسريع تنفيذها بغض النظر عن ضحاياها. لم يكن بالإمكان أن تخرج كل هذه الحشود إلى الشارع لو كان هناك اطمئنان عام بأن هناك تمثيلية فعلية لفئات المجتمع.

ترك دو توكفيل تشخيصا في غاية الخطورة يقول” إن الرغبة في العيش الرغيد تفتح الباب بسهولة إلى القبول بأي حكومة قادرة على تلبية هذه الرغبة” و مهما كانت الوسيلة مرعبة. و في الفراغ الذي خلفته ديمقراطية فاعلوها انحرفوا عن أدوارهم الطبيعية، و المجتمع الذي يشعر أنه متخلى عنه في مواجهة زحف كل أشكال التفقير و السخرة ، تعتمل كل المخاطر التي تجعل  الشارع  يتحول إلى مؤسسة تمثيلية، طالما أن الأحزاب لم تدرك أن كل سياسة حقة لا تُمارس إلا على مسافة من الدولة، و طالما ابتعدت النقابات عن بداهة وجودها، و هي أنها تدافع عن مصلحة الفئات التي تمثل، في حين أن الدولة تمثل مصلحة الجميع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى