محمد النواية يكتب عن الكراب
لوسات أنفو
كان لكل حي بالمدينة كما هو الحال بباقي المدن مرافقه الحيوية المرتبطة بالحياة اليومية للسكان كالمسجد؛ المسيد ؛ الحمام؛الطاحونة ؛ الفران والمدرسة وأحيانا السينما . كان أحمد الطفل دو العشر سنوات يصطحب جدته إلى طاحونة الحي ؛ فيما تنشغل الجدة في وضع كيسها من القمح في طابور من ألأكياس وتأخذ رقما من العامل وتسترسل في الحديث معه يأخذ أحمد مكانا في عتبة المطحنة قبالة دكان خراز منهمك في إصلاح كومة من الأحذية وفي نفس الوقت منخرط في حديث ومُغزل مع مُجالسِه الجالس على عتبة الدكان .عينا أحمد لا تفارق الدكان وما يدور فيه وخاصة حركة الخراز وهو يملأ الكاسات ويقدمها لجليسه كأس بها سائل يشبه الخل البلدي لم يسبق أن رآه أحمد يجعل الاثنين متناغمين في الحديث ؛ يتبادلان الضحكات كالأطفال ومع مرور الوقت تحمر وجوههما وأعينهما ، وفي لحظة يقف على متن دراجة هوائية رجل أسمر ضخم الجثة على رأسه طاقية خضراء مرتديا معطفا شتويا ، يخرج قنينة من محفظة مركبة في مؤخرة الدراجة (موزيط )؛يحجبها تحت معطفه ليقدمها إلى الخراز الذي يلتقطها بسرعة ؛انه النبيذ يوزعه هذا الرجل الذي يسمونه المراكشيون الكَراب ؛ بعد هذا المشهد يهتدي أحمد إلى حقيقة السائل السحري الذي جعل الخراز ونديمه في قمة النشوة.
كان الكَراب يطوف أزقة المدينة وحواريها بعد العصر ليوصل شرابه السحري إلى زبنائه من الصناع التقليديين والحرفيين وبعض أرباب المحلات . ستأتي العطلة الصيفية ويقرر أحمد الاشتغال ليكسب قليلا من المال يساعده على نفقات الدخول المدرسي المقبل . سيرافق ابن عمته الذي يشتغل عوان في إحدى الأفرنة التقليدية . سيبدأ أولا باستقبال أطباق العجين وترتيبها أمام الفرن ليبدأ الصانع في إدخالها إلى الفرن .العوان بمعية أحمد يرتبان الأطباق واحدا فوق الأخر وبعض الطهي يأمر الصانع بقلب ترتيب الأطباق “قلب الطرحة” فيصبح الطبق الأعلى في أسفل الترتيب والأسفل في الأعلى فتبدأ عملية ملأ الأطباق بالخبز بتوجيه من الصانع الذي بخبرته وذاكرته يحدد عدد الخبيز في كل طابق وهكذا تعاد نفس العملية ونفس التقنية .بعد ذلك يتوافد الزبناء لأخذ أطباقهم دون خطأ لا في نوع الخبز من حيت الدقيق ولا من حيت العدد وهنا تتجلى مهارة الصانع التي اكتسبها من معلميه وشيوخه الأولين . بعد الزوال يتنفس أحمد الصعداء بعد جهد كبير وعناء شديد في يومه الأول في الفران الذي خفت فيه الحركة بعد العصر إلا من بعض الأطباق على رؤوس الأصابع وأطباق أخرى خاصة بالحلويات .قرب الغروب ستلج المكان جماعة يستقبلها الصانع الذي هو في نفس الوقت مالك الفران ،تأخذ مكانها في البهو الأول للفران وبدهشة ظاهرة على ملامح وجه أحمد يتفاجأ بالكَراب الذي رآه ذات يوم عند الخراز بلحمه ودمه يقدم للصانع وضيوفه بضاعته السحرية التي سيكون مفعولها هذه المرة مخالفا تماما لما كانت عليه جلسة الخراز ونديمه التي كان فيها الشراب ينزل لأحشائهم بزهو فتحملهم نشوة السكر إلى عالم الفرح والضحك والغناء .أما هذه المرة فالجلسة تثير الرعب من شدة عنف الحوار الذي يدور بينهم حين قوي سكرهم وانتقل إلى العربدة والهذيان .كان احمرار الأعين هذه المرة يوحي بشهية المفترس خصوصا حين اقترب أحدهم من أحمد وطلب منه مرافقته إلى السطح ،شعر حينها بمخاطر المهنة الجديدة وتذكر ما كان يسمعه من رفاقه في الدرب وأقرانه بالمدرسة من مغامرات دوي الأنوف المنحرفة والهلع الذي يصيب الأطفال من ملاحقتهم من طرف مثل هذه النماذج واستحضر الوصايا التي ما فتئ أفراد الأسرة والأقارب تكرارها على أسماع الأطفال في هذه السن بالذات قصد الاحتراس من الذكور الأكبر منهم سنا . يقرر أحمد مغادرة المكان والتخلي عن الأمل الذي علقه على الاشتغال في الصيف وعاد إلى المنزل في ذلك المساء الحار حاملا انكسارات طفولة غير محضوضة.