مذكرات

المخبر .. قصة ليوسف الطالبي (الجزء الثاني)

 

تراجعت حاجة الدولة الى كل جيوش المتعاونين الذين جندتهم لإطفاء جدوة الحركة والاصطدام بالمشاركين في المظاهرات الباهتة ، لقد صار عددهم أقل من يتسبب في قلق المكلفين بالأمن. وبات واجبا إفهام المتعاونين أن الخطة قد عرفت بعض التغيير، لكن المخزن لا ينسى من وقفوا وقفة وطنية ضد العملاء ودعاة التخريب. عم شعور بالخيبة لدى أغلب من كان يعلق أملا على أن تتحسن أحواله المادية. كان بعضهم يقارن نفسه بمن استفادوا من المأذونيات في مجالات مختلفة عرفانا لهم بأعمالهم البطولية في مقاومة الاستعمار. اختلفت المطالب بين من منى النفس بوظيفة أو كشكا في زاوية شارع رئيسي أو مأذونية سيارة أجرة أو رخصة عرض سلع في الشارع، أو رخصة لبناء بيت على أرض غير مجهزة للبناء. بل منهم من لم يطلب أكثر من “تريپورتورا” لنقل السلع والمسافرين.

في مدخل المقاطعة، كما مقاطعات أخرى، تشابهت القصص. صار مألوفا أن تجد مرابضين ينتظرون لحظة دخول أو خروج القائد للمطالبة بالوفاء بالوعود. وباتت اتفاقات السر تخرج إلى العلن، شعور بعض المتعاونين بالخديعة، جعلهم يستنكرون التنكر لهم ولما أسدوه للوطن من خدمات. وسرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات لمتعاونين خُرْق يطالبون باستيفاء أجورهم.

لم يعد مولاي ادريس المقدم يلتقي المهدي كما كان على عادة دامت لما يناهز السنة. وحين تتقاطع طريقهما، كان يكتفي بإلقاء التحية من على دراجته النارية دون التوقف. أما المهدي فلم يعد يجرؤ على الذهاب الى المقاطعة لمقابلة القائد والسؤال عن مٱل طلبه ووعده له. يخجل من أن يراه الناس هناك ويمعنوا في احتقاره، ومن نظرة الازدراء في أعين الموظفين والأعوان، لا ينسى عندما سأل يوما موظفا عما إذا كان القائد في مكتبه ام ليس بعد. ارتسمت ابتسامة غامضة على وجهه وقال:

– أنت أيضا! .. ليس بعد، يمكنك الانتظار حيث يوقف سيارته.

كانت هذه ال” انت أيضا ” كسهم حاد سام أصاب قلبه. كان بالقسوة التي جعلته يرجع عن طرق ابواب أصحاب الوعود. حين  انتشرت شكاوى المخدوعين على الانترنيت صارت حديث المجالس وفي مقهى ولد الرامي وبنواصي الأزقة والدروب، كان الرأي السائد هو التشفي بهم واحتقارهم. بحضور المهدي في إحدى المرات، ذكَّر متدخل بالخونة الذين أحرقوا ب “تيران الخائنين”، واقترح أن يعامل هؤلاء بنفس المعاملة مضيفا

– هكذا هو مصير الخونة عبر التاريخ، لكن الناس لا يعتبرون.

شعر المهدي بالخازوق يمزق نفسيته، ليثه اختار كرامته ومبادئه، يحاول تبرير ما اقترفت يداه لكنه لا يستطيع إقناع نفسه. ما كان تحته من ضغوط ساعة اتخاذ القرار المشؤوم يفوق مقاومته، أمه التي تشقى طول اليوم في خدمة زوار دار الضيافة، وإخوته الذين تتجاوز حاجياتهم ما تستطيع هي توفيره. والحرج الذي يشعر به حين يستيقظ ويجد مصروف جيبه على المنضدة، لقد صار رجل الأسرة المفروض فيه إعلة الجميع لكن لا يستطيع.

في لحظة ما تهيأ له أن ما يحدث كان ليحدث، تجتمع أسباب معينة لجعله يحدث، كأن لذلك قوانين مفارقة عن إرادة الناس وما يقررون. يعتقد الناس أنهم أحرار، ولكن في الحقيقة لا وجود للحرية، الناس وسائل يستجلب القدر عبرها ما شاء. الناس يحكمون لاحقا على الأشياء في شروط مختلفة عن شروط حدوثها.

ثم في نهاية الأمر، ما الشيء السيء الذي اقترفه والذي يستحق كل هذا الاحتقار، لقد تصرف بما تقتضيه المواطنة. في المجتمعات حيث تحترم المواطنة والمدنية يفخر المواطن بالتبليغ عن جاره الذي يقود السيارة في حالة سكر دون أن يثير ذلك أي استهجان. وتقع عليه المسؤولية إذا لم يخبر السلطات بما علمه به ومن شأنه تهديد السلامة العامة. إن ما قام به من تعاون مع الدولة هو نفسه ما قام به بنكيران زعيم حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة، لقد تعاون مع الملك في تفادي وقوع الاسوإ في ظروف الربيع العربي، كيف يعامل بنكيران كبطل فيما يجد نفسه منبوذا يتجنب مخالطة الناس.

لم يعد المهدي يحتمل نظرات الٱخرين، تمنى لو يستطيع الرحيل عن الحي أو يدركه الموت، استقر على الهروب في أحد القوارب المتسللة إلى أوروبا عبر الابيض المتوسط. حين حزم بعض أمتعته واختفى عن الأنظار، لم يخبر أحدا، ذرفت أمه الدموع وسألت كل من يعرفه علها تعثر عن خيط يقود إليه. بعد شهر ونصف جاء يطرق بابها عناصر من الشرطة، لدعوتها للتعرف على جثة ابنها، في مستودع الأموات لم تتعرف إلا على ما تبقى من ملابس على جسد نهشت الأسماك أكثر من نصفه.

انتهى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى