يوسف الطالبي يواصل محكيات الطاكسي في زمن كورونا (الجزء13)
بسبب موجة التدين التي غزت المجتمع، وعودة الناس إلى فصل النساء عن الرجال في الحفلات، صار الجاري أن يستضيف أصحاب الحفل عددا محدودا من الرجال ينصرفون إلى حالهم بعد مأدبة العشاء
يوسف الطالبي
كان يقود سيارته عبر الشارع المار من أمام المحكمة، يتفحص الناس عل احدهم يحتاج إلى وسيلة نقل، رفعت يدها بحركة متراخية كمن لم يعد يكترث لشيء، عندما استوت، ودون مقدمات لياقة الحديث، طلبت منه أن يأخذها إلى المصلى، كانت تنوي لقاء ممثل النيابة العامة أملا في تحريك شكايتها ضد مشغلها الهاشمي، لم تفلح لأن الاجراءات الاحترازية ضد وباء كوفيد19 تقضي أن تأخذ موعدا مسبقا عبر المنصة المفتوحة لهذا الغرض على شبكة الأنترنيت، كان الناس متحلقين حول السياج المحيط بحديقة المحكمة، أعوان الشرطة وأعوان الأمن الخاص يرفضون قبول أي عذر للدخول إلا استدعاء لحضور جلسة، أو ورقة موعد مسحوبة من الموقع الرسمي للمحكمة. لم تكن هي قد طلبت موعدا، لكنها صادفت عند السياج مرتفقين يتوفرون على ورقة موعد لكن أسماءهم غير متضمنة في لوائح أمن الباب، لم يسمح لهم أيضا بالدخول، كان الناس في حيرة مما يجب عليهم فعله، منهم من جاء من أحواز مراكش وعليه أن يعود أدراجه دون أن يكون متيقنا أنه في المرة القادمة سيسمح له بالدخول، بعضهم يلقي باللائمة على الإدارة والدولة، فيما صب آخرون جام غضبهم على مستخدمي و مستخدمات السيبركافيات بأحيائهم متهمينهم بالجهل وعدم الكفاءة.
كانت فاطمة الزهراء تشعر أنها تحت المراقبة وهي تغادر البيت قاصدة حيث كان عليها ان تعمل او عائدة منه، تتلقفها نظرات الهاشمي منذ أن يرميها باب درب الماكينة، يقيس كل جزء منها قياسا دقيقا، وحتى حين تتجاوز مقهاه، كانت تشعر أن “جهاز الفحص” لازال شغالا، تعرف أنه يجسها صعودا وهبوطا، يتوقف عند مركز الثقل، لا تتحرر منه إلا إذا مالت يمينا عند مفترق الطرق، كان ذلك يحرجها، تركز نظرها في الارض، تتبث الخطى حتى لا تتعثر، حين تضطر إلى التوقف لإلقاء التحية على إحدى جاراتها، تشعر بارتباك وتضيع منها مرونة الكلام، لكن في الآن نفسه، تشعر ببعض الرضى، لا بد أن يكون متيما بها، لا يمكن أن يخصها بكل هذا الاهتمام لو لم يكن يحبها، ما دام لم يصدر عنه ما يؤذيها فلا مانع عندها من أن يتتبعها بنظراته، من يدري؟ ربما هو نصيبها الموعود. لا تعرف الواحدة من أين يأتي رزقها؟ وإذا كان قد تعلق بها فهذا يعني أن بها من الجمال ما شده إليها، صارت تخصص وقتا أطول للتزين، وتحرص على ارتداء ما يزيد في افتتانه بها، حاول الهاشمي تعقبها عله يحظى منها برأس خيط، لكن كلما شعرت به يقترب أو سمعته يناديها باسمها، سرعت الخطى لبلوغ الأخريات بالهوندا التي ستقلهم إلى قاعة الأفراح. وحينما تسرع الخطى يرصد جهاز الفحص هزات يكاد من جراها يسقط قلبه.
كانت سنوات الجفاف المتتالية خلال عقد الثمانينات قد قادت فاضمة والدة فاطمة الزهراء الى مراكش قادمة من سوس، احضرها أبوها لتعمل في بيت عائلة معروفة، لا تذكر بالتحديد كم كان عمرها حينها، حينما تحاول سرد حكاية حياتها بعد ذلك لأبنائها، كانت تقدر أنها جاءت طفلة في الثانية عشرة من عمرها، تحسب ذلك قياسا بسن سعد ابن مشغليها الذي يكبرها بأربع سنوات، كان تذكر تلك السنوات يقلب عليها مواجع تكره تذكرها، تتمنى لو تستطيع أن تقص من ماضيها تلك القصة التي انتهت بإنجابها لفاطمة الزهراء من سعد، كان يتسلل كل ليلة إلى غرفتها ويغرقان في الغرام، كانت حبه الاول التي جرب فيها بلوغه، لم تكتشف مشغلتها ان فاضمة حامل إلا في شهرها الخامس، أرسلوا في طلب أبيها، وأحضروا عدلين عقدا قرانها على سعد، وبعد الوضع، تسلم ابوها مبلغا من المال حزمت رزمة ملابسها وأخذت بنتها وإشعارا بالطلاق وعادت إلى سوس، لم ترجع إلى مراكش إلا بعد وفاة والدها واضطرارها للعمل لإعالة ابنتها.
حين تواعدت فاضمة واحماد الذي كان يشتغل مساعد تاجر مواد غذائية بالجملة على الزواج، شعرت أن الله لم ينسها، أخيرا جبر خاطرها ووضع في طريقها من قبل الاقتران بها ورعاية ابنتها، صلت وابتهلت إليه وحمدته على رحمته وألطافه، باعت الأرض التي ورثتها عن أبيها لمساعدته على تحقيق حلمه بافتتاح محلبة خاصة به بسويقة المصلى. ومع احماد ولدت اسماعيل وعبد الرحيم.
لم يعمر احماد طويلا بعد زوجته فاضمة، فقد فتك بها ورم استوطن رحمها، وبعد سنوات تبعها احماد، لم تبد عليه أي أعراض لمرض ما، في ذلك المساء الخريفي، أقفل دكانه وعاد إلى البيت، تناولوا العشاء الذي أعدته فاطمة الزهراء، وفي الصباح حين تأخر في نومه عن موعده المعهود، طرقت باب غرفته ولما لم يرد، دلفت كان شاغرا فاه وعيناه نصف مفتوحتين. اقتسم اسماعيل وعبد الرحيم الدكان والبيت، وكان عليها هي المغادرة، لم تستطع إتباث حقها في نصيب أمها في التركة، لم يكن تحت يدها ما يدل على ذلك.
منذ اصطحبتها جارتها ليمورية إلى قاعة للأفراح لتشتغل سرباية في حفل زفاف عوضا عن أخرى تغيبت لسبب ما، انطلقت تجربتها مع هذه المهنة الجديدة، كثر الطلب على السربايات النساء بسبب موجة التدين التي غزت المجتمع، وعودة الناس إلى فصل النساء عن الرجال في الحفلات، صار الجاري أن يستضيف أصحاب الحفل عددا محدودا من الرجال ينصرفون إلى حالهم بعد مأدبة العشاء، فيما تسهر النساء إلى الفجر، صار الطلب يكبر عن أجواق نسائية ومصورات بدل مصورين و”سربايات” وبدل الرجال الذين يحملون الهودج ويتراقصون به، صارت نساء يقمن به، لكن لم يخل ذلك من حوادث تواثرت عن سقوط العرائس من فوق الرؤوس إذا ما حمأت إيقاعات ” ها العروسة كتدور، فدار باها كتدور” كان هذا العمل يذر عليها ما يكفي لإعالة نفسها وتسديد إيجار الغرفة التي تكتريها، بالإضافة إلى ما تتقاضاه من أجر، كانت عائلتا العروس والعريس تخصان فريق السرباية ب”غرامة” كريمة بعد عرض تقدمه بأطباق المأكولات، تدخل النادلات صفا واحدا، يجبن القاعة بين الموائد يؤدين رقصة ينهينها بالوقوف في صفين، أمامي يجثو على ركبة وخلفي يمد يدا واحدة إلى الأعلى، وفي الوسط تطلق رئيستهن لهبا احتفاليا، كانت “البرازات” يصفقن ويزغردن وينشدن الصلاة على النبي، ومنهن من توشحنهن بأوراق نقدية، وكان من الرجال الذين يتابعون الحفل من مدخل القاعة من يمد فاطمة الزهراء بورقة نقدية في طيها رقم هاتفه. وكانت هي تأكل التمر وترمي القشرة دون أن تمكنه مما تمنى.
في زمن كورونا، منعت الدولة الأفراح، صارت فاطمة الزهراء تواجه صعوبة في تسديد فواتير الماء والكهرباء،وطالبتها صاحبة البيت بأداء الإيجار أو ترك الغرفة. كانت صدمتها كبيرة حين أخبرتها ليمورية أن الهاشمي متعاطف معها في محنتها، و رغبة منه في مساعدتها، فإنه يعرض عليها أن تشتغل نادلة في مقهاه، اكتشفت أن كل الأفكار التي سيطرت على وجدانها من أنه متيم بحبها ويشتهيها زوجة له لم تكن إلا أوهاما، لا يمكن أن يجعل زوجته أو من يفكر في الزواج بها تخدم الرجال في مقهى شعبي يرتاده مدمنو القنب الهندي والحشيش ورهان التيرسي، أيقنت أن الهاشمي ليس إلا وحشا في هيئة إنسان إنما غرضه جعلها في متناول نزواته، لكن المضطر يركب البحر.
خاب سوء ظنها بالهاشمي، فقد عاملها الرجل بمنتهى اللطف، سلمها مبلغا على سببل التسبيق لتدبر إيجار الغرفة، وكان كلما سدد لها أجرها أجزل لها فوقه إكرامية، كان لا ينطق اسمها إلا مسبوقا “لالة”، وحين يطلب منها ان تصعد لتنظيف شقته بالدور الأول، كان يتفادى الصعود لئلا يشعرها بالحرج، يبقى بالمقهى يسهر على خدمة الزبناء، كان يتفادى المرور من الحيز الضيق خلف المنضدة عند آلة تحضير القهوة، حيز لا يسمح بمروره دون أن يتلامس جسداهما، وكان يقمع بحزم كل مناورات الزبناء التودد إليها.
تذكر أنها عند وصولها إلى المقهى في صباح ذلك اليوم القائظ منذ ساعاته الأولى، كانت الطاولات والكراسي لم ترتب كما العادة دائما، وكان الهاشمي ممسكا بمفك براغي يبدو منشغلا بإصلاح آلة تحضير القهوة، طلب منها أن تعود إلى بيتها، أخبرها أنه أشعل موقد الآلة منذ أكثر من ساعة، لكن إبرة الضغط لم تتحرك، وأنه سيطلب تقنيا لإصلاح العطب. وقبل أن تنزل الدرجتين لتصير في الخارج
– لالة فاطمة الزهراء…الله يرضي عليك…رجعي من ورا العصر …دوزي ليا على الدار.
عاد الهاشمي إلى البيت قبيل المغرب، كانت فاطمة الزهراء لم تنه التنظيف بعد، ليس من عادته أن يأتي بينما هي لا تزال هناك، لم يفتح الباب بالمفتاح وإنما طرق، عندما فتحت له كان يحمل علبتي حلوى من تلك التي تعلب فيها المخابز الحلويات للزبائن، على وجه العلبة طبع اسم مخبزة “هاي كلاس” وكان يحمل بالإضافة إلى العلبتين كأسي عصير فواكه، خمنت ان يكون حضرهما في المقهى بالأسفل، وضع نصف ما يحمل على طاولة في المطبخ ودعاها لتناوله، فيما أخذ النصف الآخر إلى غرفة الضيوف، أغلق الباب خلفه وشغل التلفزيون.
بدأ الهاشمي يلحظ أن لحركة فاطمة الزهراء بعض الجلبة، سطل يسقط، كرسي يجر، ضرب أداة شفط الماء على الأرضية صار أقوى، بدأت تدندن بما علق بذاكرتها من أغان شعبيية دأبت عليها بقاعات الأفراح، كانت مفعول زبدة “المعجون” المحضرة من القنب الهندي وعقاقير أخرى قد بدأ يسري في ذماغها، شعرت بأن الجو صار أكثر حرارة، تخلصت من ثويها الطويل، بقيت بسروال لاصق وقميص يكشف عن كتفيها، وعادت تسكب الماء في أماكن جففتها للتو. انتشت وغمرتها سعادة وفرح لم تعهدهما من قبل، خطرت ببالها نكت فاحشة، قهقهت حتى جثت على الأرض المبتلة، فتحت باب غرفة الضيوف، غالبها الضحك لم تستطع التقاط أنفاسها لتحكي تلك النكت للهاشمي، رمت بنفسها على الأريكة المجاورة له، طرحته على الفراش وجلست فوقه
– أحيانة عليك أ السلgوط… تسحابك أنا ما عارفاكش وقهقهت حتى كادت تسقط إلى الخلف.
حين استيقظت على تحريكه لها، كان يقف إلى جوار السرير يحمل صينية بها بعض الطعام، وكانت هي عارية إلا من إزار يغطيها، كان الهاشمي يرتدي سروالا قصيرا وقميصا قطنيا داخليا، لزمها وقت طويل لتستوعب أين هي؟ تشعر بدوار، حيت أدركت ما حصل، لطمت وجهها بكلي كفيها، صرخت في وجهه ليخرج، لم تستطع التغلب على النحيب الذي تملكها، أغلقت عليها غرفتها ولم تغادرها لمدة ثلاثة أيام، تمنت لو قتلها وقطعها إربا، كان ذلك سيكون أفضل مما جرى.
حين التقت بالهاشمي في مقهى بمحطة للوقود خارج المدينة كانت تأمل أن يتزوجها، بكت وعاتبته وشكته إلى الله، زعم أنها هي من ارتمت عليه وأنه فعل كل ما استطاع إلا أنها كانت مصرة، ادعى أنه يحبها وسيتزوجان قريبا، بعد انصرام أربعة أشهر لم يقدم الهاشمي على أي خطوة في اتجاه ترميم ما وقع، كان في كل مرة يجد مبررا يؤخر به، حين استشارت محاميا، لم يمنحها كبير أمل في إقناع المحكمة بادعائها، رأى أن المدة التي مضت على الواقعة وسنها الذي قارب الثلاثين، عوامل تجعل الحصول على تقرير خبرة طبية تتبث حالتي التخدير والافتضاض أمرا مستحيلا، قال أنه في أحسن الأحوال ستدينهما المحكمة معا بتهمة الفساد. ورغم ذلك قررت رفع شكاية ضد مغتصبها. لكن كرونا لازالت تحول دون لقائها بوكيل الملك.