رسالة لشبونة: قلوب تحاول الإنتصار على الحزن في زمن الحروب
داخل هذه الحدائق أكشاك على شكل مطاعم وبارات، مثلما بها أماكن مخصصة لمن يجلبون معهم طعامهم ومشروباتهم
عبد الرحمن بلحداد (كاتب مغربي يُقيم في لشبونة)
البرتغال، وكما هو ظاهر ومعلوم، يكاد يكون محاطا بالبحر من كل جانب، مما يجعل جُل مُدنه بعدد كبير من الشواطئ الجميلة، النظيفة والمنظمة. ولو تحدثنا عن لشبونة لوحدها لكان بالإمكان سرد خمسة وعشرين شاطئا، إما بالمدينة ذاتها أو جد قريب منها. وأما أشهر شواطئ لشبونة، فهي هذه: كاركافيلوس، كونسيساو، كاباريغا، كاسكايس، تاماريز، ساو بيدرو دو إستوريل، توهي، أويراس، فيليا، باسو دي أركوس، رائينيا، سيرا دا أربيدا، لاغووا دا ألبوفيرا، غينشو، أورسا، ترويا، ماسان، أدراغا، ميكو، فيغيرينيا، تيليا.
كما تتوفر مدينة لشبونة على عدد كبير من الحدائق الجميلة والمرتبة، مثل: حديقةجوزي غوميز فيريرا، حديقة توريل، حديقة بوتانيكو دي ليزبوا، حديقة سيركا دا غراسا، حديقة إستريلا، حديقة غولبينكيان، حديقة كامبو غراندي، حديقة فروليستال دي مونسانتو، حديقة ريبيرينيو أوريينتي، حديقة أوربانو دو فالي دو سيلينسيو، حديقة كينتا داس كونشاس، حديقة تابادا دا أجودا، حديقة تابادا داس نيسيسيداديس، حديقة بوتانيكو تروبيكال، وحدائق أخرى في المدينة ذاتها. وبداخل هذه الحدائق أكشاك على شكل مطاعم وبارات، مثلما بها أماكن مخصصة لمن يجلبون معهم طعامهم ومشروباتهم، بموائد وكراسي خشبية مجانية ومفتوحة للجميع. ويجلس الناس بهذه الحدائق جماعات جماعات و فرادى فرادى، وكجماعات، إما كأصدقاء وأسر من جنسيات مختلفة أو كأسر برتغالية متفرقة أو مجتمعة. يجلبون معهم أطباقا من طعامهم و زجاجات نبيذ وبيرة، وبين الحين والآخر تسمع أغنية لعيد الميلاد، احتفاء بصديقة أو صديق للمجموعة وقبلات وعناق بين محبين هنا وآخرين هناك. وما يضفي على المكان صبغة خاصة هو شعور غريب بالأمان وبغياب ما يخدش مشاعرك من مظاهر فقر وعراك وعنف وتشرد، لتراها عينك في هذا البرتغال وفي لشبونة هذه.
وفي زمن الحرب هذا، فالناس بين الحين والآخر منزعجون من حرب روسية ـ أكرانية، طال أمدها، خاصة وأن التواجد الأكراني والروسي، من القادمين من البلدين أو المتحدرين منهما هو أمر جلي في البرتغال. ولا يطرد عن الناس هذا الإنزعاج سوى بكاء سريع أو ملامح حزن من أكرانيات وأكرانيين وهم يتحدثون عما جرى ويجري في بلدهم ثم طي الصفحة والإستمتاع بموسيقى ونبيذ وبيرة والحديث في أمور أخرى، لأن الجميع يحب الحياة، متى ما استطاع إليها سبيلا. وفي بعض المرات، أجلس في المكان ذاته مع مغربي ومع صديق فلسطيني من غزة، لكنني في هذا الأسبوع جلست لوحدي في حديقة جوزي غوميز فيريرا، فإذا ببرتغاليين يجلسان قربي ثم يدعوانني للجلوس معهما. وبسبب لساني البرتغالي في صيغته البرازيلية، اعتقدا أنني برازيلي، وبعد أن أخبرتهما أنني مغربي اختارا الحديث عن فلسطين وعن غزة. أحدهما يساري، إسمه ريكاردو، دافع عن الفلسطينيين، محملا المسؤولية لجيش الإحتلال الإسرائيلي، لكنه رافض لقتل المدنيين خلال عملية “طوفان القدس”، بينما أن صديقه الآخر، واسمه جواو وهو بملامحه مغربية ويقول إن أصوله القديمة ترجع للمغرب، فذو توجد يميني، وخلال حديثنا كان هذا الأخير يدافع، وبحماس شديد، عن إسرائيل ويبرر العدوان على سكان غزة بأن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد ما أسماه هو ب “إرهابيي حماس”. أدلي برأيي بأنني ضد كل عنف وبأن أصل هذا العنف هو الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين وسياسة استيطانية مستمرة لقضم المزيد من الأراضي الفلسطينية ثم حصار سكان غزة. يشتد النقاش بينهما، كصديقين لدرجة يُخيل لك أنهما سيتعاركان، فأطالبهما بأن نغير الموضوع بآخر أخف على النفس ويناسب الجلسة… أكتشف، بعد ذلك، أن من عادتهما الإختلاف بشدة ثم أتذكر أن طريقة البرتغالي في النقاش تشبه الطريقة المغربية والجزائرية، عموما، حيث إن عنف الخطاب ونبرة الصوت تحملان من هو خارج ثقافتنا و من هو خارج الثقافة البرتغالية أن الأمر يتعلق بعراك دائر بين صديقين، فأرتاح ما إن أتذكر هذا الأمر… بينما أن الأمر ليس كذلك، لكن كل نقاش سياسي، استقطابي أم لا، مادام أنه يتم بين أضداد إلا وأنه غير مُجدي، وخصوصا في زمن الحرب وما دامت هذه لم تضع أوزارها بعدُ. يستجيب الإثنان لطلبي بعد لأي، فنتحدث في مواضيع أخرى، عن زلزال المغرب، عن الثقافة المغربية وعن أواصر الصداقة بين المغرب والبرتغال ثم عن شؤون سياسية في البلدين معا.