ما الذي ننتظره من مجتمع تغلق فيه قاعات السينما و تهجر المسارح و تتحول المكتبات إلى محلات لبيع الوجبات السريعة؟
لوسات أنفو
لا يمكن للمرء أن يكون مطمئنا و هو يعاين هذا الاحتضار المسترسل للفضاءات الثقافية . فالقاعات السينمائية تغلق تباعا مثلما تغلق المكتبات . و يتقلص عدد مقتني التذاكر للظفر بفرجة سينمائية جميلة مثلما يتقلص عدد قراء الكتب و حجم مبيعاتها . لا يتعلق الأمر فقط باندثار أمكنة كانت تؤدي وظيفة حيوية و إنما باحتضار أسلوب في الحياة و نموذج للذات كان الفن جزءا أساسيا من مجالات تحققها اليومي و الفرجة شرط اساسي من مقومات عيشها للظفر بمعنى جميل لوجودها . يتعلق الأمر أيضا بالحلم و موقعه في مجتمع أضحت منابعه فيه تجفف يوما بعد يوم ، و كذلك بقيمة حب الحياة و تقديرها .
أي مستقبل لمجتمع تغلق فيه قاعات السينما و تهجر المسارح و تتحول المكتبات إلى محلات لبيع الوجبات السريعة و تترك الكتب للغبار يلتهمها و يحولها إلى نفاية مجتمع تخلى عن حقه في الحلم ؟ إن ذلك لا يعني سوى أن مشروعا بكامله مهدد هو مشروع المجتمع الحداثي الذي لا يمكن أن يستقيم له مستقبل مع سيادة كائنات تعيش بحواس ميتة وروح جافة و أجساد مقموعة . فقد ظلت السينما و قاعات عرضها مرتبطة في عمقها بالمشروع التحرري الذي يشكل الحلم طاقته الحيوية . إذ كان الفن تجسيدا لمطالبة الحواس بمزيد من التحرر ، و الرغبة بمزيد من الإشباع . ففي قاعات السينما كان الناس ، حتى أولئك الذين يقاسون ظروفا أصعب ، يجددون علاقتهم بالحياة و يفتحونها على أفق تحريرها من النمطية القاتلة ، كانوا يعثرون على فرصة ثمينة لإنصاف حواسهم و انعتاق توقهم لإدراك الجميل في وجودهم . كانوا يحلمون بسعة الكون . و يؤمنون أن السائد لا يمكن أن يكون أبديا ، و المستحيل ليس بعيد المنال ، و المختلف متاح . كذلك الأمر بالنسبة للكتب ..
مهما كان الدعم الرسمي للثقافة و فضاءاتها فإن المجتمع هو الشرط الحقيقي لانتعاشها . أي موقع سيكون للكتّاب في مجتمع يرفض القراءة ؟ و أية قيمة ستكون للإنتاج السينمائي في مجتمع يرفض الناس فيه الذهاب إلى السينما ؟ كثيرون هم أولئك الذين يتناسون هذه الحقيقة : الدفاع عن الكتاب يمر بالضرورة عبر اقتنائه و صرف النقود من أجله . نفس الشيء بالنسبة للقاعات السينمائية فاقتناء تذكرة من أجل فرجة جميلة هو تصويت فعلي لصالح مستقبل السينما . إن الكتاب مكرمون في المجتمعات الغربية ليس لأن الدولة تدعم أعمالهم ولكن لأن المجتمع يقتني منتوجاتهم فيخلق بذلك شروط انتعاش مهنة كاتب . و كذلك الأمر بالنسبة للسينما الذي يدافع عنها المجتمع بإقباله اليومي على قاعات العرض و متابعة جديد عالم الفن السابع .
تعكس أوضاع قاعات السينما بالمغرب و بشكل متوازمع وضعية القراءة مفارقات تطور مجتمعنا . ففي الوقت الذي كانت فيه نسبة الأمية أكثر انتشارا و الإنتاج السينمائي الوطني أكثر ضعفا كانت القاعات السينمائية تفتح الواحدة تلو الأخرى و الناس يقبلون على الفرجة التي تقترحها مكرسين بذلك تقاليد جميلة يصرفون من أجلها ميزانية هامة ، مثلما كان حجم مبيعات الكتب أكبر و الإقبال على المكتبات أقوى . و عندما تراجعت نسبة الأمية و انتشرت المدارس في الدواوير و المداشر و القرى و مختلف أنحاء المدن و تكاثرت الجامعات فشملت مؤسساتها كل جهات البلاد و تضاعف عدد خريجيها حتى اصبحوا يحصون بالآلاف سنويا ، انهار معدل القراءة و أغلقت المكتبات و اندثرت سوق الكتاب و هجرت القاعات السينمائية فدخلت في احتضار طويل . كما لوكانت المدارس و الجامعات تعلم خريجيها كره الكتب و نبذ الفرجة و احتقار الحلم . بل حتى التحسن النسبي الذي طرأ على بعض الفئات كفئة رجال التعليم لم ينعكس إيجابا على السوق الثقافية بقدرما انعكس على سوق الاتصالات و العقار و السيارات .
يشير ذلك إلى حقيقة جارحة هي أن مسلسل التنمية معطوب لأنه يؤمن سيادة كائنات تزحف على بطونها بلا حلم و لا روح و لا أمل . عقيدتها الوحيدة هي الاستهلاك و تقديس الثروة . إنها تؤمّن مستقبلا لمجتمع بلا طاقة و لا قدرة على المقاومة وبلا استماتة تحررية .
عندما نعاين القاعات السنمائية تحتضر ينبغي أن يكون ذلك مؤلما لكل أنصار التنوير و التحديث ، لأن في ذلك احتضار لقيمة تقدير الحياة و تمجيدها و تفريط في الحق في الحلم ، أي حقنا جميعا في أن نكون أحرار..