الفيلسوف سلافوي جيجك: صاحب الأحلام الخطيرة ومسعف الماركسية
لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
فيلسوف البوب أو روكستار الفلسفة والثقافة، الأكثر حضورا في الساحة الإعلامية، والمثقف ذو الحظوة الشعبية والجماهيرية على منصات التواصل الاجتماعي. سلافوي جيجك Slavoj Žižek، المفكر الماركسي اليوغسلافي الذي ألف بين الفلسفة وعلم النفس ودراسات الأفلام والنثر والفكاهة. ولد سنة 1949م في سلوفينيا، الدولة الأولى التي سبقت للخروج من البلد الكبير، الذي انفصل إلى البوسنة والهرسك وصربيا والجبل الأسود وكرواتيا.
سريع الكلام.. سريع الكتابة
يظهر جيجك في مقابلاته الصحافية سريع الكلام وغزير الأفكار، لكن هذه السرعة لا تظهر فقط أثناء حديثه. بل، في الكتابة والتأليف أيضا، فسرعته الكلامية توازي غزارته الواسعة في ضم الايديولوجيا والنظريات السياسية والفكر بشكل عام. تأثر سلافوي بالفيلسوف ذو النزعة الماركسية بوجيدار ديبينياك، وألقى اهتماماته على تراث مدرسة فرانكفورت النقدية، وتابع سلافاوي دراسة الماجستير في الفلسفة سنة 1975م، برسالة حول البنيوية الفرنسية في جامعة ليوبليانا، ثم واصل دراسة الدكتوراه عام 1981م، بأطروحة عن المثالية الألمانية، وحينما احتك بتلامذة جاك لاكان، ودرس عندهم: جاك ميلر وريس وآخرون، أتبعها بدكتوراه ثانية في علم النفس، هذه المرة مع أعمال هيجل وماركس من جانب لاكاني.
يعد أحد كبار الباحثين في معهد علم الاجتماع بجامعة ليوبليانا، وعادة ما يلقي محاضرات في مدرسة Logos بسلوفينيا، وفي الآن أستاذا في كلية الدراسات العليا الأوروبية، وزائرا لمجموعة جامعات مرموقة: شيكاغو، كولومبيا، برينستون، نيويورك، مينيسوتا، كاليفورنيا، ميشيغان وغيرها، ويشغل سلافوي حاليًا منصب المدير الدولي لمعهد بيركبك للعلوم الإنسانية في كلية بيركبيك – جامعة لندن، ورئيسا لجمعية التحليل النفسي النظرية في ليوبليانا.
قدم جيجك أعمالا عديدة في؛ الفلسفة، النظرية السياسية، الايديولوجيات، الاقتصاد السياسي، الثورات، التحولات الديمقراطية والتكنولوجيا الرقمية. لتطال كتاباته النقد السينمائي والأدب، هذا بغض النظر عن مقالاته الدورية في الغارديان والفورين بوليسي وغيرها، ومن مؤلفاته؛ مرحباً في صحراء الواقع، سنة الأحلام الخطيرة2011، الفلسفة في الحاضر2013 واشترك في تأليفه مع الفيلسوف ألان باديو، بداية كمأساة وأخرى كمهزلة2015، تراجيدية في البداية هزلية في النهاية2015، العنف: تأملات في وجوهه الستة 2017، الجائحة: كوفيد-19 يهز العالم2020، كيف نقرأ لاكان 2021، ضد الابتزاز المزدوج: اللاجئون والإرهاب ومشاكل أخرى2022، وأعمال أخرى عديدة غير مترجمة للعربية.
ماركسي بعباءة محلل نفسي
يحاول جيجك انتشال الفكر الماركسي اللينيني من عمومياته المبتذلة، وظاهريا قد يبدو من المألوف في كتابات الرجل، أنها تحمل شخصيتين متباعدتين ومتناقضتين، يستدعيهما طوال الفقرات، الأول كارل ماركس، والثاني غروشو ماركس، كارل عالم اقتصاد وفيلسوف ألماني، والثاني غروشو كوميدي سينمائي، ليعبرا عن تيمة جيجك الساخرة، وفي الآن عن عمقه الفكري وقدرته في تبسيط الفلسفة والسياسة. هذا ما قد يلاحظه أي قارئ له أو أي متتبع لخرجاته الإعلامية، ونفس الأمر ينطبق على ما قالته مخرجة الأفلام الوثائقية التي أنتجت فيلما وثائقيا عن الفيلسوف اليوغوسلافي، تقول في لقاء مع صحيفة سان فرانسيسكو؛ «جيجك يحول الأفكار الفلسفية الثقيلة، إلى شيء مثير وممتع وحيوي، في مناخ مناهض للفكر».
اشتهر المثقف الماركسي، بقراءاته التفسيرية لرائد التحليل النفسي سيجموند فرويد، وقدم طروحاته وتحليلاته للأوساط العلمية بفرنسا، وحين عاد إلى سلوفينيا ساهم في تأسيس الحزب السلوفيني الديمقراطي، وخاض منافسة في الانتخابات الرئاسية للبلاد وحل في المركز الخامس.
جعله العيش في نظام استبدادي يتحكم في حياة الفرد وخصوصيته، أكثر قدرة وحكمة في التحليل السياسي والفلسفي للأنظمة ومفاهيم الإنسانية الكبرى، من نقد النظام الرأسمالي إلى الثورات والاحتجاجات والانتفاضات العالمية الأخيرة، من ثورات الربيع العربي، حتى حركة ”احتلوا وول ستريت”، ثم رؤيته للحركات التي تصدرت هذه الثورات.
إيمان جيجكي خالص
جيجك شخصية غير مكترثة، بدءا من لباسه العادي والبسيط الذي يظهر به دائما، فالرجل يحمل فكرة أن الفلسفة لا تحتاج لربطة عنق وتسريحة شعر، إن هذه اللامبالاة تتجلى أيضا في عيينة من أفكاره التي يعبر عنها في حواراته، وفي أحدها يقول جيجك أنه لا يكون في قمة السعادة إلا في لحظات نادرة لا يستطيع تذكرها، وأن خوفه الأكبر يكمن في استيقاظه يوما بعد مماته، وينحو مع سوفوكليس حين قال: «أن الحظ الأعظم يعود لمن لم يولد بعد»، بتأكيده أن ما يمكن أن يغيره في الماضي لو سنحت له الفرصة ستكون ولادته. لكن الأمر الذي يحزن جيجك غير ذي مرة هو هيمنة آفة الجهل ورؤيته للأغبياء سعداء، هذا مع إيمانه القوي والسري أن الوجود موجود للتأمل فيه، وأن الفلسفة هي الحب السرمدي في حياته، كيف لا، وهو يصف أن أغلى ممتلكاته ومشترياته الأعمال الكاملة لهيجل، هذا الايمان الجيجيكي يوازيه إيمان خاص بأن الشيوعية ستنتصر يوما ما، فقد أصيب فيما مضى بخيبة ما أسماه ألان باديو «الكارثة المبهمة» في القرن العشرين، حينما فشلت الشيوعية فشلا ذريعا.
أيديولوجيا متبصرة
شكلت الأيديولوجيا محط اهتمامات جيجك، وخاصة في جانبها الرمزي/اللغوي، وكفيلسوف للمعرفة، حاول رصد السياسة في الأدب والسينما والمجال البصري بشكل عام، وعكف على تعقب الثقافة الجماهيرية لدى مجموعة أعمال لمخرجين من بينهم: روبرتو روسيليني Roberto Rossellini، ألفريد جوزيف هتشكوك Alfred Joseph Hitchcock، وريدلي سكوت Ridley Scott… ويختزل مفهومه للأيديولوجيا على أنها «بناء الهوية الذاتية عبر اللغة». وهي على حسبه كما في الأدبيات الماركسية التقليدية، انعكاس علاقات القوة المسيطرة على المجتمع، ويقصد جيجك بأيديولوجيته، هوية الفرد في المجتمع الرأسمالي التي تضمن ديمومة الأخير، من خلال استمرار علاقات الإنتاج/القوى إلى اللغة، في علاقة تبادلية تنتج فيها العلاقات اللغة، كما تنتج اللغة العلاقات، لكن هذه الأخير تكبح المجتمع حريته، بمعنى آخر: لا قمع دون أيديولوجيا، لأنها تنتجه فقط ولا تحميه.
مشرحة جيجك للرأسمالية
يتعاطى سلافوي جيجك مع الرأسمالية بنفس هادئ، يختلف مع ما يكتبه المفكرون اليساريون، ولأن حلمه بعيد المنال، فإنه يفككها ويحللها ويشتتها كأنها دائمة، كعجوزة شمطاء تناولت إكسير الخلود. وأمام عجز الحركات والأحزاب اليسارية العالمية عن تولي السلطة، فإنه يقرن نقده للنظام الرأسمالي، بنقده لليسار العالمي، الذي لم ينجح في تقديم بديل سياسي واقتصادي رغم هزات الرأسمالية وأزمتها، وفراغ سلطة القوى اليمينية، واليمينية الأخرى في المعارضة. وينظر جيجك أن لكل الانتقادات التي توجه للرأسمالية وكافة تجلياتها سقف لا تتجاوزه، ومرد هذا السقف عند سلافوي، هو الطابع الديمقراطي الذي تحظى به الرأسمالية باسم محاربة التجاوزات، وتوزيع السيطرة الديمقراطية الليبرالية على الاقتصاد، أي أنه يمكن أن نلمس كتابات وتحليلات عن حالة العمال في المصانع، التلوث البيئي، تشغيل الأطفال… لكن في رأي جيجك، لا يجرأ النقاد من الاقتراب من منظومة الدولة القومية البورجوازية الحديثة، التي تتكأ عليها الرأسمالية، وهي بتعبير سلافوي ”البقرة المقدسة” التي لا يقترب منها حتى الراديكاليون من أمثال: احتلوا وول ستريت و المنتدى الاجتماعي العالمي. وبالتالي يقر جيجك على أن الأزمة الاقتصادية الراهنة للرأسمالية واتساع هوة الفقر بين الأفراد والدول، هو نتيجة تولي اليمين في أغلب دول العالم للحكم، وتراجع اليسار في العشرية الأولى لبداية الألفية.
يساري ينكدها على اليسار
في حوار خاص له، ما يفتأ الفيلسوف الماركسي يتحدث عن سقوط الأنظمة اليسارية وعدم قدرتها طرح بديل سياسي، فقد انتهت كل المشاريع اليسارية والشيوعية القديمة، ليس فقط الستالينية إنما حتى في الدول التي يبدو أنها تحمل مشروعا شيوعيا، كالصين التي يعمل (الشيوعيون) في السلطة، مجرد مديرين فعالين لرأسمالية جامحة ومنتجة، أي أن اليساريين قبلوا بنموذج الدولة الديمقراطية الليبرالية بعناصر ثورية بسيطة، فالرأسمالية آلة تعمل بجنون، ولم تعد تحتاج للديمقراطية لتواصل دورها.
التناقض الصارخ الذي يلمحه جيجك في الرأسمالية، أن المال والاستثمارات تتحرك بشكل مرن بدون قيود في السوق الحرة العالمية، لكنه في الوقت نفسه تكبح تحرك البشر، فاليمين يأمر بطرد اللاجئين والأقليات من بلدانهم، فهذا الأمر بالنسبة لسلافوي شكل جديد للعنصرية أقرب لأن تكون موضة. ويعرف جيجك على أنه ناقم حتى اليساريين، فتشبته بنزعة ثورية راديكالية طموحة، فجميع المكاسب والإصلاحات التي تخرج من فوهة الرأسمالية والدولة البورجوازية، كلها هشة يعبر جيجك، مادامت لم تقم بتدمير الرأسمالية. فجميع الانتفاضات والثورات العالمية، والربيع العربي إحداها، اندلعت على يد البورجوازية الصغيرة، من الشرائح الوسطى والطبقة المتوسطة، وفشلت لأنها لا تملك بديلا سياسيا تحرريا وديمقراطيا، ويشير اليوغسلافي الماركسي، إلى فكرة فذة تصف كرنفالية الاحتفال بذكرى هذه الثورات وصمة عار وعيب وأسر، دون تطويرها لحركة ثورية جذرية ممتدة لها تمثيل تنظيمي حقيقي.
هكذا، يهتم المفكر السلوفيني بحاضره، عائدا إلى عشرات الأحداث والأزمات التي تتوالى على العالم بدءا من أزمة الرأسمالية إلى احتراق الغابات وتضاؤل رقعة الأمازون إلى النووي الإيراني، مروراً بتداعيات كورونا، محاول تقديم إسعافات أولية للماركسية والأنظمة اليسارية العالمية، لكن مواقفه أحيانا تكون غريبة وغير متوقعة، خصوصا بدفاعه عن شخصيات سياسية واسعة كوزير المالية اليوناني السابق يانيس فارو فاكيس صاحب «المينوتور العالمي» أو وصفه للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بصاحب الجاذبية الشعبية والجماهيرية، إلى هزيمة اليسارية هيلاري كلينتون، التي كان فرحا بهزيمتها.