عندما أنقدت الثورة البلشفية روسيا من ديونها
لوسات أنفو : أيوب داهي
يعقد البنك العالمي و صندوق النقد الدولي, اجتماعاتهما السنوية للمرة الثانية في منذ تأسيسهما في القارة الافريقية. و تنعقد هذه الاجتماعات في مراكش بالمغرب بين 9 و 15 اكتوبر 2023.
موقع لوسات أنفو يقدم سلسلة حلقات يسلط فيها الضوء على تجارب عدد من الدول مع ديونها اتجاه المؤسسات المالية العالمية و كيف استطاعت أن تتبرأ منها و تسترجع سيادتها.
في هذه الحلقة الاولى سنحط الرحال بروسيا و سنتطرق لتفاصيل تبرؤ هذه الدولة من ديونها اتجاه عدد من العواصم الغربية.
هزت ثورة أكتوبر 1917 التي قادها الحزب البلشفي أركان النظام الدولي, معلنة قيام أول دولة شيوعية في التاريخ. سبقت هذه الثورة حركة إضرابات بموسكو شهر اكتوبر 1905 ثم انتشرت بعد ذلك كالنار في الهشيم على امتداد تراب الامبراطورية القيصرية الروسية. و خلفت هذه الحركة ولادة مجالس السوفييتات الروسية و مجالس العمال و الفلاحين و الجنود.
بعد اسقاط القيصر و الاستيلاء على السلطة, قامت الحكومة السوفيتية في فبراير 1918 بالتبرؤ من ديونها الموروثة عن عهد القيصر, استثار هذا القرار ادانة بالإجماع من قبل حكومات القوى العظمى.
يقول ليون تروسكي الذي ترأس سوفييت سان بطرسبرغ ” جرى القاء القبض علينا في اليوم التالي لنشر ما أطلقنا عليه ( البيان المالي) الذي يعلن الافلاس الحتمي للنظام القيصري: لقد أعلن بصورة قاطعة أن ديون آل رومانوف لن يعترف بها الشعب حين يحقق النصر”.
لعبت ادانة الطبيعة غير الشرعية و الكريهة لديون القيصرية دورا أساسيا في ثورتي 1905 و 1917. و دخلت الدعوة للامتناع عن سداد الديون حيز التطبيق العملي أخيرا في مرسوم التبرؤ من الديون الذي تبنته الحكومة السوفيتية شهر فبراير 1918.
علقت الحكومة السوفياتية سداد الديون الخارجية في بداية يناير 1918, و في أوائل شهر فبراير عام 1918, أصدرت مرسوما يتبرأ من جميع الديون القيصرية و كذلك الديون التي تعاقدت عليها الحكومة المؤقتة من أجل مواصلة الحرب بين فبراير و نونبر 1917.
و في الوقت نفسه قررت مصادرة جميع أصول الرأسماليين الاجانب في روسيا و ضمها للملك المشترك الوطني.
وضعت الحكومة السوفييتية, بتبرأها من الديون, موضع التنفيذ القرار الذي اتخذه في عام 1905 سوفييت بيتروغراد و الاحزاب المختلفة التي أيدته. أثار هذا احتجاج عواصم القوى المتحالفة العظمى بالإجماع.
أدت دعوة الحكومة السوفياتية للثورة الاشتراكية في العالم بأسره, و تبرأها من الديون التي تطالب بها القوى العالمية المتحالفة, و اجراءات التأميم, الى اعلان الدول الغربية الشروع في عمل عدواني هائل ضد روسيا السوفياتية للإطاحة بالحكومة الثورية و استعادة النظام الرأسمالي. بدأ التدخل الاجنبي صيف عام 1918 و انتهى في اواخر عام 1920 بعد ان ادركت العواصم الغربية استعادة روسيا السيطرة على مناطقها.
كانت الحكومة الفرنسية الاكثر معارضة للحكومة السوفياتية, من جهة لأنها كانت تخشى من تسلل الحركة الثورية التي استهلها الشعب الروسي الى فرنسا, و من جهة اخرى فقد شكل قرار التبرأ السوفياتي من الديون ضربة أوجعت الدولة الفرنسية لان معظمها كان بحوزة فرنسيين.
منذ عام 1918, جرت محاصرة روسيا من قبل القوى المتحالفة, و كانت الحكومة السوفياتية مستعدة لدفع الذهب لاستيراد البضائع التي تحتاجها بشدة. لكن و لا واحدة من البنوك الكبرى و لا أي حكومة في العالم كانت قادرة على قبول الذهب السوفياتي. و في الواقع اعتبرت العواصم المتحالفة ان الذهب الروسي كان يجب ان يمنحها لتعويض الرأسماليين الذين صودرت ممتلكاتهم في روسيا و لسداد الديون أيضا. كانت هذه عقبة من الصعب للغاية التغلب عليها بالنسبة للتجارة الروسية.
رغم ان الحكومة السوفياتية قد تبرأت من ديونها في فبراير سنة 1918, فقد استمر تداول السندات الروسية حتى سنوات 1990, ففي عام 1919 وضعت الحكومة الفرنسية لائحة بأسماء حائزي السندات الروسية في فرنسا, و اعلن مليون و ستمئة ألف شخص الاحتفاظ بهذه السندات.
دفعت الحكومة الفرنسية, خلال الحرب الفائدة المستحقة لكل حامل سند. ثم جرت اضافة مبلغ الفائدة الذي دفعته الحكومة الفرنسية بدلا من الامبراطورية الروسية الى الدين المستحق على روسيا. كانت الاطاحة بالقيصر الروسي في فبراير 1917 خبرا سيئا بالنسبة للحكومة الفرنسية التي وضعت امالها على الحكومة المؤقتة بعد أن أكدت انها ستحترم الديون المتعاقد عليها مع القيصر. لكن الامور ستسوء عندما استولى البلاشفة على السلطة في اكتوبر 1917. و عندما علقت الحكومة السوفياتية سداد الديون في فبراير 1918, دفعت الحكومة الفرنسية الفائدة على السندات الروسية لحامليها.
اقترحت الحكومة الفرنسية, في سبتمبر 1918, تبادل السندات الروسية مقابل سندات ديون فرنسية. فقد أصبح بإمكان حاملي سندات روسية الحصول على سندات قرض جديد تطرحه الحكومة الفرنسية, و نهجت سلطات روما و لندن و واشنطن نفس الشيء حيث بادلت السندات الروسية بسنداتها المحلية.
في ابريل و مايو 1922 انعقد مؤتمر رفيع في جنوة, كان الهدف منه اقناع روسيا السوفياتية الاعتراف بالديون التي تبرأت منها عام 1918 و التخلي عن دعواتها للثورة العالمية. انتهى المؤتمر بالاختلاف و تشبت الوفد السوفياتي بخيار التبرؤ.
أرسل الوفد السوفياتي ردا, في 11 مايو 1922, يؤكد فيه فشل مفاوضات جنوة و يؤكد مجددا و بقوة الحق في التبرؤ من الديون حيث نصت الرسالة أن :
” أكثر من دولة من الدول الحاضرة في مؤتمر جنوة قد تبرأت في الماضي من ديون و التزامات تعاقدت عليها. و صادرت أكثر من دولة او احتجزت ممتلكات رعايا او رعاياها دون موضوع النبذ المطبق على روسيا السوفياتية.”
و هكذا و حتى بعد ست سنوات من تفكك الاتحاد السوفياتي أي عام 1997 و قع بوريس يلتسين اتفاقية مع باريس لوضع حد للنزاع على السندات الروسية. قدر المبلغ الذي حصلت عليها فرنسا ب 400 مليون دولار أي حوالي 1 في المئة من المبالغ المطلوبة من روسيا السوفياتية و هو معدل تعويض هزيل جدا يدل على انه يمكن لأي دولة ان تتبرأ من ديونها دون أي ضرر حقيقي.