يوميات الطاكسي في زمن كورونا (10)
كانت أقسام مدرسة الرميلة وابن البناء المراكشي كما كل المدارس، يتجاور فيها أطفال من مستويات اجتماعية مختلفة
يوسف الطالبي
كان وميض السيارة القادمة من خلفه قويا حتى أن انعكاس الضوء على المرآة الداخلية للسيارة أثار انتباهه رغم أن الوقت كان نهارا، حين توقف على يمين الطريق، كانت السيارة المومضة قد صارت خلفه تماما، رونج روفر إيفوك سوداء بادخة. من النظرة الأولى في المرآة، استطاع التعرف على الراكبين. في كرسي القيادة تجلس ماجدة المنبهي، اسم معروف بالمدينة، تملك شركة كبيرة لاستيراد وتوزيع المعدات الطبية وشبه الطبية، لم ترث من أبيها الثروة الكبيرة التي خلفها لها فحسب، ولكن ورثت أيضا علاقات مهنية وسياسية ساعدتها على نماء وازدهار تجارتها، تحقق شركتها أرباحا كبيرة، لا تتوقف عن توسيع مجال نشاطها والبضائع التي تستوردها، من لوازم العمليات الجراحية، ومستلزمات الأطفال، والعجزة ومن يعانون مشاكل في الحركة، إلى معدات تجهيز العيادات والمصحات، وصارت أحد الموردين الكبار الذين يفوزون بالصفقات العمومية لتجهيز المستشفيات العامة، كان كل ما يَعرفه عنها هو اسمها فقط الذي تردد كثيرا في مجالس الناس، ثم رأى فيما بعد صورتها وكيلة للائحة حزب السحلية في الانتخابات. وحدث أن صادفت زيارته للتبضع من متجر تابع لشركتها وجودها هناك. ماجدة، هي ابنة الطبيب شريف المنبهي وحفيدة القايد المنبهي، كان جدها على عهد الاستعمار قائدا على مناطق المنابهة و اولاد دليم وحربيل حتى حدود مراكش، كان قائدا تحت إمرة الباشا الكلاوي، أبوها من الدفعات الأولى من الأطباء المغاربة الذين تخرجوا من كلية الطب بمونبولييه الفرنسية العريقة، بعدما أنهى دراسته في مدرسة أبناء الأعيان، أرسله أبوه في بعثة طلابية ممولة إلى فرنسا٠ لما عاد الى الوطن طبيبا، كانت الجيوش الاستعمارية قد غادرت المغرب نحو ثكناتها بفرنسا.
فتح شريف المنبهي عيادة بحي جليز بعمارة مقابلة للسوق المركزي، ذاع صيته كطبيب “يده كرحمة الله”، كانت العمارة التي اتخذ إحدى شققها عيادة له واحدة من عمارتين اقتناهما أبوه القايد المنبهي من معمر قبيل عودته مع الجيوش الفرنسية إلى بلاده، فقد واكب رحيلَ الفرنسسين الذين كانوا يستقرون بهذا الحي عرضُ وافر في سوق العقار، عمارات وشقق وفيلات بالأحياء الاروبية ووحدات صناعية ومحال تجارية وضيعات فلاحية انتقلت ملكيتها إلى مغاربة بأثمنة جد مواتية، من الفرنسيين من تخلى عنها مجانا لأحدهم، كان جل المستفيدين من الأعيان فقد كانت تربطهم علاقات اجتماعية بالمعمرين وكان لهم من السيولة ما يتطلبه اقتناص الفرصة. ومن الناس من تحدث عن وجود اتفاق بين فرنسا والوفد المفاوض على إنهاء الحماية، يحدد شروطا يجب أن تتوفر في من يستفيدون من التفويت.
كانت فئة المتعلمين قليلة بالمقارنة مع عدد المغاربة، وكان التواصل بين المتعلمين وغير المتعلمين يقضي بإيجاد لغة تضمن تأمين مرور الرسائل وإن لم تكن تقول الحقيقة، كان الأطباء ومنهم شريف المنبهي يجدون صعوبة في شرح الحالة لمرضاهم، فلجأوا إلى الاستعارة من القاموس والتصورات الشعبية، فانتشرت بين الناس أسماء أمراض لم يسمع عنها إلا في المغرب، تحدثت تلك التشخيصات عن مرضى أمعاؤهم مقلوبة، وآخرين قلبت الحمى أذمغتهم، ولما كان الناس يطلقون إسم الرئة على السل، أصبحت مريضات مغربيات يعانين من الرئة في الرحم، وفي الواقع لم يكن الأطباء وحدهم من يضطر إلى إبداع لغة تؤمن التواصل مع غير المتعلمين، فقد كانت قيادة حزب الاستقلال قد فعلت الشيء نفسه، سعيا إلى الحد من أثر الخطاب الاستعماري في الناس، مرة بتحريض الناس على عدم الاستماع للراديو لأنه من عمل الجن، ومرة بإيهام الناس أن محمدا الخامس ظهر على صفحة القمر،
في المقعد المجاور للسائق، كان يجلس الحسين، يعرفه جيدا، فقد كان مجايلا له في دراسته في المرحلة الابتدائية بمدرسة الرميلة، وفي المرحلة الإعدادية بإعدادية ابن البناء المراكشي بالحي اليهودي..منذ اختارا شعبتين مختلفتين في المرحلة الثانوية، تركه باسم الحسين، لكن في آخر زيارة للمتجر، سمع مستخدمة تناديه مسيو حسن. كان الحسين يسكن بحي القصور، وكان والده المنحدر من تافراوت يملك متجرا بساحة باب افتوح، يبيع تلك النوعية من الملابس البخسة الثمن، المصنوعة من النايلون والجيرزي، زبناؤه من التجار الذين يجولون الأسواق الأسبوعية في أحواز مراكش، وبالتقسيط يقصده زوار المدينة من البوادي أو سكان المدينة ممن يعانون ضنك العيش.
لم يكن على عهدهما مدارس خاصة، كانت أقسام مدرسة الرميلة وابن البناء المراكشي كما كل المدارس، يتجاور فيها أطفال من مستويات اجتماعية مختلفة، إلى نفس الطاولة يجلس أطفال من أسر إقطاعية وأبناء قضاة وكبار موظفين جنبا إلى جنب مع أقران لهم من أبناء أسر حديثة العهد بالهجرة من البادية، يمتهن أباؤهم أعمالا بالكاد تدر عليهم مصروف يومهم، لم يكن التمايز الطبقي واضحا، كان للتمايز “الطبقي” مضمون مختلف، التلاميذ ينقسمون إلى ثلاث “طبقات”، طبقة مشاغبين لا يهتمون بما يجري داخل القسم إلا إذا كان مقالبا واستفزازا وتنمرا على الآخرين، وطبقة المطيعين المجتهدين يقع عليهم الاختيار لكل المهام، وطبقة تتكون من هؤلاء وأولئك لكن القاسم بين أفرادها مختلف، ترى الطبقتين الأولى والثانية مجرد “براهش”. يتقمص المنتمون إلى الطبقة الثالثة دور الكبار في طرق لبسهم وتحدثهم، وفي فترة الاستراحة يلتئمون مجيمعات خلف المدرسة، يدخنون السجائر، وتجلس البنات فوق رُكب الأولاد، كان لا يصدق ما ينتهي إلى سمعه من كونهم يبلغون أكثر من ذلك في الاندماج، لم يكن يصدق ذلك، لأنه بدوره زعم اكثر من مرة أنه اختلى بواحدة واستمتع بها، لكن كل ذلك لم يكن إلا نسيجا من خيال.
لم يكن هو والحسين يستلطفان بعضهما، كان الحسين ينتمي للطبقة الثالثة، يرتدي سترات وقمصانا كلاسيكية، يظهر الكثير من العجرفة، ناذرا ما يجتمعان، ولا يكون ذلك إلا إذا اجتمعا صدفة ضمن مجموعة خلال الطريق من أو إلى المدرسة، وفي غياب أصدقاء مشتركين، كانا يتجاهلان بعضهما، كان يكره الحسين لأنه كان يكره تلاميذ الطبقة الثالثة، لقد حاول مجاورتهم، تمنى أن تجلس البنات على ركبتيه هو أيضا، لكنه لم يوفق فصرف النظر عن الأمر، وفيما كان الحسين يؤدي عن البنات ثمن وجبة في المحلبة بما تمتد إليه يده من صندوق متجر أبيه، قطعة خبز باريزي وجبنا وحليبا بشراب الرمان، ينخرط هو في لعبة البينو pinou، يركل حلقاته المطاطية بكل ما تأتى له من حيوية، يفرغ فيها كل مراهقته.
لم يوفق الحسين في إحراز البكالوريا، شارك في الامتحان ثلاث سنوات، إلا أنه كان في كل مرة يفشل، لم يجد في نفسه ميلا الى مساعدة أبيه في تجارته، كان يجد الدكان سجنا أو قبرا يدفن فيه الانسان وهو حي، كان لا يتحمل التعامل مع التجار المتجولين و”العروبية”، لا يرى نفسه إلا خلف مكتب. وبوساطة والده، استطاع الحصول على عمل في شركة ماجدة المنبهي.
تدرج الحسين من ساع إلى بائع فمسير متجر، أبان عن كفاءة جعلته يحظى بثقة مشغلته، أما هو فقد رفع من سقف طموحه، كان يسعى إلى الإيقاع بها في حبه، كانت تكبره بثمان سنوات، وحين التحق بالعمل معها، كانت لتوها خارجة من زواج فاشل ببنتين، لبلوغ غايته، كان يتفانى في عمله، يعمل للساعات الطوال، لا يطلب إجازات ولا يطلب زيادة في الأجر، وكان يتطوع لقضاء مآرب تخص بيت ماجدة وعائلتها، كان يسعى لأن تستأنس به بنتاها وتتعلقان به، فيما كانت هي راضية على أدائه في العمل، كم مرة عندما تهز الثمالة اتزانها، فكرت وهو يقود بها السيارة في طريق العودة إلى البيت من حفلة ليلية ريانة دعوته لقضاء الليل عندها، لكن المسافة الاجتماعية تمنعها، ليس من المقبول أن تعرض نفسها على رجل لا يناسب مركزها الاجتماعي،
ثم إن إحدى قواعد النجاح في الأعمال هي فصل ما هو شخصي عن العملي، لا يعد الخلط بينهما من المهنية في شيء. كان الصمت الذي يسود بينهما طيلة الطريق ينطق بأكثر من كلام، يشعر معه الحسين أنه بات يتقدم نحو تحقيق غايته. صارت ماجدة تهمل شكليات الإيتيكيت في معاملته، بدأت تمازحه ويضحكان معا، وتخلت عن عادة الجلوس في المقعد الخلفي.
عادت الرونج روفر من حيث أتت، و مسيو حسن لا زال هو هو، متعجرفا كما كان دائما، ترك المقعد المجاور للسائق وجلس في الخلف، عادة، النساء هن من يركبن في الخلف وإن كان المقعد الأمامي غير مشغول، لكن أن يصدر نفس التصرف عن رجل، يكون ذلك عنوان ترفع وتعال مفرطين، كانت الكمامة تخفي أكثر من نصف وجهه، أما هو فلم يحب أن يتعرف عليه مسيو حسن سائقا لسيارة الأجرة، الكمامة التي يحتفظ بها دائما تحت ذقنه تحسبا لأي مراقبة، جذبها نحو الأعلى حتى رموشه وتبثها بنظارتيه لتساعده على الاختباء. كان مسيو حسن يقصد مقر الشركة الجديد بالحي الصناعي، فمنذ زواجه من ماجدة، وبعد أن وسعت نشاط الشركة ليشمل استيراد وتوزيع الأدوية، لم يعد المقر القديم بحي جليز كافيا، اشترت مقرا جديدا بسيدي غانم، يضم مكاتب ومستودعات، وبنت به غرف تبريد، إذ أتاح لها تحرير الاستثمار في قطاع الصحة وفتح الولوج إليه على غير الدكاترة إمكانية المرور إلى السرعة القصوى، فقد صارت مساهمة في أكثر من مصحة من المصحات الخاصة التي كان التحرير وراء إنشائها، وضعها كبرلمانية وكعضو بالمكتب السياسي حيث تجتمع مرتين في الشهر مع أعضاء آخرين استوزروا باسم الحزب، ولأن الأمين العام كان صديقا لوالدها، فقد توسط لها لدى وزير الصحة الذي له عليه جميل أن صار وزيرا، ثم إن الأمين العام كان يشعر أنه ملزم بمراضاتها بعد أن أسقط إسمها من لائحة الأشخاص الذين يشارك بهم الحزب في الحكومة. حظيت شركة ماجدة المنبهي برخصة امتياز agrément للمشاركة في طلبات عروض الاستيراد لفائدة الدولة، كان ذلك نقلة نوعية في نشاط الشركة.
رست على شركة المنبهي صفقة استيراد أجهزة التشخيص السريع لفيروس كورونا، جهاز صغير كذلك الذي يستعمل في كشف الحمل عند النساء، دفع الضغط الكبير على مختبر باستور ومختبرات التحليل المركزية إلى التفكير في بدائل، قررت الوزارة شراء أجهزة صغيرة ووضعها رهن إشارة المستشفيات، وجعلها متاحة بالصيدليات أمام عموم المواطنين، كانت الحكومة متوجسة من ضعف الطاقة الاستيعابية للمستشفيات العمومية ونذرة أسرة الإنعاش، وضعف قدرتها على استقبال محتاجين لإجراء التحليلات، كان القلق يعم من أن يصل الوضع هنا في المغرب ما وصلت إليه دول مثل إيطاليا واسبانيا وفرنسا، دول سجلت أرقاما كبيرة جدا في عدد حالات الإصابة بالعدوى وعدد الوفيات رغم توفرها على بنية استشفائية مهمة مقارنة بالمغرب.
كان مبلغ الصفقة أربعين مليار درهم، جلبت مقابلها الشركة للبلاد أجهزة على وشك انتهاء الصلاحية، إذ لم يمر على تخزينها أقل من شهر حتى صارت غير قابلة للاستعمال، كلف الجهاز الواحد منها ضعف ثمنه أربع مرات حين يكون صالحا للاستعمال، أما بالمواصفات التي في ذلك الذي اقتنته شركة ماجدة المنبهي فقد يكون الثمن واحدا من عشرة.