محكيات الطاكسي في زمن كورونا (9)
يوسف الطالبي
لو كان يحيا حياة سوية، لكان لا يزال في سريره حتى هذه الساعة، في أيام الآحاد، لا تبدأ المدينة في طرد النوم عنها إلا قبيل الظهر، يستغل من أنعم عليهم ذكاؤهم بوضعيات مستقرة تٌجنِبهم تقلبات الأحوال عطلة الأحد في قضاء الصباح مع أسرهم، يخرجون ببدلات رياضية مشيا أو على الدراجات الهوائية أو يذهبون إلى الصالات الرياضية أو يقصدون سوقا ما للتزود بما ينقص بالبيت، وبعد الزوال يتناولون وجبة الغذاء في بعض المتجعات العائلية الآخذة في الانتشار في ضواحي المدينة، وحدهم البؤساء من ينشطون الشوارع، حراسا للسيارات أو طاكسيات أو أصحاب عربات كارو أو عمال النظافة أو موزعي السلع على المحال التجارية أو باعة جائلين أو سائقي حافلات حضرية، وآخرين ممن لا يتيح عملهم الاسترخاء صبيحة الأحد، أما هو فقد بات يكره المفاجئ واللامتوقع، حتى عندما يرن هاتفه يهزه فزع قبل أن يرد، تلقى من الهزائم ما يكفي، لم يعد يطمع في شيء، يتمنى فقط ألا تخذله صحته وأن يظل قادرا على تأمين خبز أطفاله حتى صفارة النهاية،
كلما تقدم به العمر تغيرت نظرته للحياة من خلفه ومن أمامه، ليس ما آل إليه سببه الآخرون فحسب، كان وهو شاب يرى أنه ضحية، والآن بدأ يدرك أن له هو أيضا يدا فيما يعانيه اليوم، بدأت تنتصب أخطاؤه الجسيمة التي ارتكبها جلية أمام عينيه، واحدة من مهمات الإنسان أن يجد مخرجا من المطبات التي يواجهها، الحياة ليست زربية مزركشة ما علينا إلا أن نمشي عليها، لو كان الأمر كذلك لكان الإنسان بدون دور على هذه الأرض، ولا كان أي جدوى من وجوده.
يشعر أن نمو سنه ونضجه لم يسيرا متناسبين، فقد ظل طفلا حتى بعد العشرين من عمره، تعاطى مع منعطفات الحياة بقليل من المسؤولية، الغرور الذي تعامل به مع دراسته كان أحد أخطائه القاتلة، كان غرورا حادا، حادا بما يكفي لإصابته بجرح بليغ، ترك “سيكاتريسا” لا يخفى، كان يرى في من تأخذ منه الدراسة من رفاقه وقتا كثيرا علامة عته به، يحسب العلامات الجيدة التي يحصل عليها في الامتحانات رغم قلة الوقت الذي يخصصه للتحضير دليل نباهة فطرية. كان يزهو أيما زهو حين يضع أبوه كفه الكبيرة على رأسه وهو طفل ويقول
– هاد غليض الراس عندو الذكا
كانت كلمة “الذكا” كما ينطقها أبوه بدون همزة النهاية، تترك جرسا له مفعول السحر في نفسه.
حين يفكر في الخلاصات التي بقيت من الماضي، يجد أن أصعب ما في الأمر هو كيف يستطيع نقل خلاصات حياته للأطفال في محيطه ومنهم أبناؤه، يتألم حين يرى نفس أخطائه تتكرر أمام عينيه دون أن يستطيع إقناع مقبلين على الحياة بتفاديها، كفكرة فنطازية تمر من رأسه، يتمنى لو تُحول خلاصات التجارب محلولا يحقن للأطفال، كان وهو يتحدث لأبنائه عن ما يعتبره أخطاءه المكلفة، يمارس في نفس الآن نوعا من الكاتارسيس catharsis إزاءها. كان يود لو قال كل هذا لوائل قبل فوات الأوان.
لم يتخل وائل عن أناقته، اعتناؤه بمظهرة مسألة لا يتساهل فيها، أخذ حماما ساعة العصر، غير ملابسه ولمع شعره بدهن، وضع ساعته الكبيرة في معصمه، للأسف منذ نفذت آخر عبوة من عطره الفرنسي، الموقع من طرف إيف سان لوران yves saint Laurent، لم يعد شراءه، يصعب عليه توفير المائة أورو ثمنه بالمتجر الحر بالمنطقة الدولية بالمطار، كان موظفون تابعون للمكتب الوطني للمطارات وتابعون لشرطة الحدود يخرجونه، مقابل زيادة فوق ثمنه.
قاد السيارة في اتجاه أبواب جليز، أمام العمارة حيث تسكن، تنتظره خليلته كريمة، كانت تروقه كثيرا بقوامها الممتلئ ولبسها وطريقة تزينها، يشعر بفخر كبير وهما يدخلان مقهى أو مطعما بكفين متشابكين، كانت النسوة ترمقنها وأعينهن تراقب نظرات أزواجهن المتلصصة، وكان الرجال يسرقون النظر متظاهرين باللامبالاة، أما في الملاهي المائية فلا يمكن أن يكون مرورها غير ملحوظ بثوب استحمام إحدى قطعتيه تكاد تختفي في ثنايا جسدها. توجها إلى شارع محمد السادس هناك كانا على موعد مع هيثم وصابر، كانوا يقضون وقتا ممتعا، قبل كرونا كانوا ينهون مثل هذا الموعد بمطعم، يتناولون عشاءهم حيث يمكن أن يحتسوا بعض الجعة إلى ساعة متأخرة، في الغالب كان وائل يقضي بقية الليلة مع كريمة في إحدى الشقق المفروشة، اليوم، وبسبب انسداد أبواب الرزق، صار في الغالب يأخذها الى بيتها، ولا يقصدان الشقة إلا فيما نذر.
كان وائل وهو تلميذ ذا شخصية قيادية، إذ كلما التحق بمجموعة من أقرانه صار بسرعة صاحب الأثر الكبير عليهم، هو من يملي عليهم ما سيكون برنامج المجموعة، قد يجعلهم يلعبون كرة السلة، أو ركوب الحافلة من حي المسيرة إلى جليز أو جامع الفنا للتسكع هناك، وكان بالإضافة إلى شخصيته الحاضرة ذا بنية قوية وقامة طويلة تعطي الانطباع أن سنه أكثر مما عليه في الحقيقة، وكانت وسامته وأناقته في حدود ما يسمح به سخاء والده، بشعره الأملس الملمع دائما بدهن يجعله مسقط هوى الفتيات، فكثيرا ما اندلعت شجارات بينهن في محيطه، وكان ذلك يجر عليه كراهية بعض الذكور من سنه، منهم من لا يتقبل أن لا تقبل أي واحدة عرض حبه فيما يتنافسن على قرب وائل حتى دون أن يكون هو على علم بذلك. كان وائل نجم الإعدادية التي كان يدرس فيها قبل أن تلفظه بعد فشله في اجتياز امتحان نهاية الدروس الإعدادية، فقد كان رأس حربة فريق الإعدادية لكرة السلة، طيلة سنوات لعبه معهم لم تهزمهم أي مؤسسة أخرى، حصدوا كأس بطولة الجهة أربع مرات على التوالي، ولعبوا المباراة النهائية للبطولة المدرسية الوطنية في مناسبتين، لكن في المرتين تكبدوا خسارة لم يتقبلوها أمام مدرستين خاصتين، يقول أستاذهم المدرب أن المؤسسة الخصم تضم بين لاعبيها أبناء وزراء وبرلمانيين وأثرياء.
لم يكن فشل وائل في الانتقال الى المرحلة الثانوية سببه عوز في الذكاء، كل ما في الأمر أنه كان يجر معه إعاقة في اللغة الفرنسية وثقوبا في معلوماته في الرياضيات، لم ينتبه أحد ممن يفترض فيهم متابعته كطفل إلى ضرورة إخضاعه لبرنامج ترميم، فقد كان أبوه من ذوي التعليم المحدود جدا، كان يمتهن أنشطة طفيلية، يتاجر في كل شيء باع المأكولات والزيت واللبن والبنزين المهرب وكل ما يصادفه، كان رجلا عديم الذمة، ما تاجر إلا وغش، وما وعد إلا وأخلف، وما اقترض إلا وأضاع على الناس مالهم. وكان يوظف وائلا في احتياله على الناس، إذ طلب منه مرة أن يخلط محصول الزيت لتلك السنة بزيت قديمة وبيعها، وجعله يخلط اللبن بالماء، كان كلما طرق بابهم أحدهم جاء وراء ماله، طلب منه أبوه أن يخبره أنه غائب في سفر.
بعد مغادرة المدرسة، جرب وائل حظه مع أنشطة تجارية عديدة كان أبوه قد اقترحها عليه حتى استقر به المطاف في المطار يعمل مع وكالات كراء السيارات هناك، كان يتكفل باستقبال الزبناء الذين حجزوا سيارات عبر الأنترنيت، يحمل أمام بوابة خروج المسافرين ورقة كتب عليها اسم الوكالة واسم الزبون، وحين وصوله يقوده الى مكتب الوكالة لإتمام إجراءات الكراء، كان يتحصل على عمولة من الوكالة وإكرامية من الزبون، وكان في الوقت نفسه إذا صادف زبونا يرغب في كراء سيارة ولم يكن قد حجز قبلا، يقوده إلى إحد المكاتب حيث تكون عمولته أجزل. توطدت علاقة وائل بمسيري وكلات الكراء بالمطار بسبب ما أصبحوا يحققونه من رقم معاملات معه، فقد أظهر مهارة جديدة تنضاف إلى مؤهلاته، حيث أبان على أنه بائع جيد، ولكسب وده، باتوا يراضونه بإعطائه سيارة عندما يحتاج واحدة لسفر قصير.
توقفت الرحلات الجوية من وإلى أوربا، وتوقف نشاط المطار إلا من مسافرين مغاربة مقيمين بالمهجر أو أجانب مقيمين بالمغرب، كسد تبعا لذلك نشاط كراء السيارات، كان على وائل الذي اعتاد نمط استهلاك شجعه عليه دخله الوفير والسهل أن يجد موردا جديدا للرزق، فقد اكتسب بعض العادات الجديدة التي صارت إدمانا ولن تغطيها إلا أموال سهلة، بدأ يرتاد العلب الليلية ويكتري الشقق للاختلاء بعشيقاته.
لا يرى سمير مسير مكتب الوكالة الدولية لكراء السيارات بمراكش ضررا في أن يحتفظ وائل بإحدى السيارات المملوكة للوكالة لبعض أيام، ذلك يخفق على الأقل بعض الأعباء الناتجة عن المصاريف المترتبة عن أداء مستحقات المرآب حيث تركن وأجر من يحرسها وتنظيفها باستمرار، ثم إن وائلا يسدي بعض الخدمة للوكالة حيث ينتظر الزبائن الذين يحجزون عبر الأنترنيت، وهم ناذرون جدا، يقوم مقام سمير في تسليمهم السيارة بعد التتبث من هوياتهم وجعلهم يوقعون على عقد الكراء، وإذا تعلق الأمر بزبائن مغاربة يطلبون سيارة دون حجز مسبق، كان عليه أن يجعلهم يقدمون كفالة قبل تسلم السيارة، تكون في شكل شيك بنكي أو مبلغ مالي تحتفظ به الوكالة كضمانة لتغطية أية أضرار محتملة يمكن أن تصيب السيارة، وكان سمير يعتمد على وائل في استرجاع السيارات من مكتريها عند نهاية مدة الايجار، يلف حول السيارة للتأكد أنها لم يلحقها أي انبعاج أو كسر، وفي حالة الزبائن المغاربة الذين يستأجرون دون حجز مسبق يعيد إليهم ما تركوه ككفالة، كان وائل الذي يسكن غير بعيد عن المطار يعفي سميرا من التنقل إلى المطار للسهر على معاملات الوكالة وخصوصا منها التي تكون مواعيدها في ساعة متأخرة من الليل أو مبكرة صباحا، كان ذلك يوفر عليه الجهد ومجازفة خرق حالة الطوارئ الصحية.
لم يكن في نيتهم الاستيلاء على ما بحوزته، لكن مفعول الكحول جعل الأمور تخرج عن السيطرة، بدأ الأمر بخلاف مروري بسيط، تطور إلى تبادل الشتائم النابية فتحد فتهديد فاشتباك بالأيدي، عندما سقط الرجل مغشيا عليه انسل من جيب سترته إلى الاسفلت هاتفه من الصيحة الأخيرة للهواتف النقالة ومحفظة ونقوده، التقطهما هيثم، ركبوا السيارة واختفوا. كانت حصيلة الغنيمة خمسة عشرة ألف درهم بين ثمن بيع الهاتف والمبلغ الموجود في المحفظة، كانت كافية لتعيدهم إلى ماقبل زمن كورونا لمدة قاربت الأسبوعين. في المرة الثانية لم تسلم الجرة، استطاع شهود تدوين رقم اللوحة المعدنية للسيارة، اقترح وائل على المجموعة لما علم أن الشرطة تبحث عن عصابة تعتدي على الناس وتسلب أموالهم ومتعلقاتهم، أن يتواروا عن الأنظار.
كانت ليلة باردة، ضباب خفيف ينزل على الأرض، يبلل كل ما ترك خارجا، عناصر سد الشرطة المنصوب على مدخل مدينة بني ملال يتناوبون على الوقوف خارجا لمراقبة المرور، الضابط الذي يرأس السد غفا في سيارة المصلحة فيما احتمى باقي العناصر بالمخدع الزجاجي، صوت جهاز الاتصال اللاسلكي بقاعة الاتصالات يكسر الصمت. فجأة هرع شرطي إلى الخارج فقد لمح لوحة معدنية تشير إلى أن السيارة المتبثة عليها من مراكش، رجح أن يكون بداخلها مسافرون قصدوا التخفي تحت جنح الليل لعدم توفرهم على رخصة استثنائية للتنقل، تقييد تنقلات المواطنين للحد من انتشار الوباء منح فرصة للمراقبين للانتفاع. توقفت السيارة بأمر من الشرطي الذي طلب الاطلاع على الوثائق ورخصة التنقل، لقد صدق حدسه، المسافرون الأربعة وضمنهم امرأة بالسيارة لا يتوفرون على رخصة، في العادة، هذا صيد ثمين، ينص القانون على تغريم الأربعة ألفا ومئتي درهما، من شأن أي تسوية بين العون والمسافرين أن تجلب له ما لا يقل على أربعة مائة درهم، وجه الشرطي ضوء مصباحه اليدوي إلى داخل السيارة عبر الزجاج، أثار انتباهه أن كل ركابها لا يكاد يبلغ العشرين من العمر، طلب مده ببطائق تعريفهم الوطنية، اتصل بقاعة الاتصالات بالمصلحة الاقليمية، كانت السيارة المملوكة لإحدى وكالات كراء السيارات وسائقها وائل ومرافيقن له موضوع مذكرة بحث وطنية،