في ذكرى رحيله: رسالة من إدوارد سعيد لصديقه توني تانر في حب الحياة وإنكار الواقع
"أما الجزء الأسوأ، فهو وأنني «غير قادر على إنتاج المناعة»، وهو التعبير الطبي الملطف عن كون المرء هشا وقابلاً للاختراق أمام أي حشرة عابرة او جرثومة بغيضة"
لوسات أنفو، اقتراح: إلياس أبوالرجاء
في الذكرى العشرين لرحيل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، اخترنا لكم هذا النص من أرشيف المجلة الثقافية في عددها 71، الصادر في يناير 2008، والذي كتبه محمد شاهين باشا، حيث يقف عند الرسالة التي بعث بها إدوارد سعيد لصديقه توني تانر، قبل سفره إلى كينغز لإلقاء سلسلة المحاضرات التذكارية بجامعة كيمبريدج.
قبل نحو عشر سنوات، اختارت كلية الأدب الإنجليزي في جامعة كيمبردج إدوارد سعيد ليلقي سلسلة المحاضرات التذكارية التي خصصتها الجامعة لإحياء ذكرى الناقد والشاعر الكبير ويليام إمبسون William Empson ، وهو خريج الكلية نفسها التي قررت إحياء ذكراه سنويا بدعوة واحد من كبار نقاد العالم ومفكريه ليتحدث حول أحد المحاور المعرفية، ألقى إدوارد سعيد في تلك السنة سلسلة من المحاضرات عن الأوبرا، والتي قامت جامعة كيمبردج بعد ذلك بجمعها وإصدارها مطبوعة في كتاب. وخلال إلقاء سعيد محاضراته، كانت القاعة تضج بالحاضرين الذين كانوا يتقاطرون من كل أنحاء بريطانيا للاستماع إلى المحاضرات التي كانت تحظى بتغطية صحافية كثيفة باعتبارها حدثاً ثقافياً بارزاً.
أما توني تانر Tony Tanner، فهو صديق حميم. وقد ذكر لي في غير مناسبة أن حضور إدوارد سعيد إلى کیمبردج في كل مرة يزور فيها بريطانيا كان من بين أغلى أمنياته، حتى تحقق له ذلك في تلك السنة بمناسبة إحياء ذكرى إمبسون، وحدثني توني تانر بالهاتف بعد ذلك، وهو في غاية التأثر، عن قدوم إدوارد سعيد إلى كلية كينغز كيمبردج، حيث يقيم تانر.
اتصل بي إدوارد سعيد هاتفيا قبل سفره إلى كينغز، وأخبرني أن أطلب من المسؤولين في كلية كينغز توفير ثلاجة صغيرة له في مكان إقامته ليحفظ فيها ادويته، وعندما استوضحت، أعلمتني مساعدة عميد كلية كينغز بأنهم جهزوا له فعلا سكناً مريحاً بالقرب من صديقه توني تائر، وفيه ثلاجة، بل إنهم أصلحوا مصعد المبنى بعد أن كان مهملاً حتى يتمكن إدوارد سعيد من استعماله. وفوق ذلك، فرشوا له السجاد الأحمر.
عن فترة تواجد ادوارد سعيد 4 كينغز، كان مما قاله البروفيسور جون بیر John Beer إنه كان يتمشي ذات يوم في حرم كلية كينغز في جامعة كيمبردج، وتملكه شعور ببالغ الاعجاب والسرور عندما شاهد ادوارد سعيد يتمشى على البساط الاخضر، ووصفه بعبارته الجميلة:
“كان يسير على المسطح الأخضر مثل ملك”
أما البروفيسورة جوليان بير Gillian Beer، رئيسة كلية الأدب الإنجليزي، فروت لي قصة حديثها على الهاتف مع إدوارد سعيد وهي تدعوه إلى الحضور لإلقاء سلسلة المحاضرات المذكورة، كانت قد هاتفته بينما يتلقى إحدى دورات العلاج في المستشفى، واستمر الحديث بينهما زهاء نصف ساعة قبل أن يؤكد لها سعيد حضوره. وعندئذ، سقطت سماعة الهاتف من يدها من شدة الإنفعال، كما تقول.
فيما يلي، نص رسالة من أوراق توني ثانر الخاصة. وهي رسالة كان إدوارد سعيد قد بعث بها إليه قبل ذهابه إلى كينغز لإلقاء محاضراته، والتي زودني بها ثانر مشكوراً:
عزيزي توني،
“لا أستطيع أن أعبر لك عن مدى سروري بتسلمي رسالتك الأخيرة. أشكرك بالغ الشكر على الكتابة إلي والتفكير بي، وأنا أكتب إليك لأعرب عن بالغ سروري حقاً لانك ستكون قد عدت، كما آمل، من رحلتك إلى أستراليا ونيوزيلندا عندما أكون (أو، أخطط لأن أكون) في كيمبردج.
كنت أتواصل مع جوليان بير Gillian Beer خلال الفترة الأخيرة بخصوص المواعيد، وبما أنني لن أنتهي من التدريس حتى الأول من آب، فقد اتفقنا على وجوب حضوري عقب ذلك مباشرة، أي منذ السادس من آب فصاعداً، ليس واضحاً لدي بعد متى ينتهي الفصل الدراسي لديكم، أو بالأحرى متى يكون من غير المناسب القاء المحاضرات، وسأكتب إليها حول ذلك قريباً. لكنني أخطط، على أي حال، للمكوث في كيمبردج لأسبوعين أو ثلاثة خلال شهر أيار، وهو أمر رائع بما أنك ستكون هناك أيضاً، إنني لن أكون – كما يمكنك القول – بصحبة العائلة، وهكذا، وفي حال استطعت أن ترتب لي إقامة في كلية كينغز، فإنني لن أرغب شيئاً أكثر من ذلك. أمل ألا يتسبب لك ذلك بأي إزعاج أو بتجشم العناء.
مشكلة حياتي الرئيسية بالطبع هي هذه المحنة التي تلازمني. لقد استطاعوا السيطرة على المرض نفسه إلى حد كبير، وهو ما يعني ثلاث دورات من العلاج الكيماوي في كل سنة، لكن كل ما يجري بين هذه الدورات (بالإضافة طبعا، إلى الأعراض الجانبية المباشرة المصاحبة للعلاج الكيماوي) هو ما يجعل حياتي هذه الأيام متسمة بهذا البؤس، ينبغي علي أن أذهب إلى المستشفى كل أسبوعين، ويتم إعطائي علاجا للمناعة مرة في الشهر؛ كما يتحتم علي أن آخذ تلك الحقن الممضة التي يجب أن أحقن بها نفسي أربع مرات في الأسبوع، أما الجزء الأسوأ، فهو وأنني «غير قادر على إنتاج المناعة»، وهو التعبير الطبي الملطف عن كون المرء هشا وقابلاً للاختراق أمام أي حشرة عابرة او جرثومة بغيضة, كنت دخلت المستشفى مرتين هذا العام (كانت أحداهما في أواخر آب عندما كتبت المسودة الأولى) حيث كنت أعاني من ذات الرئة، وهناك، كادوا يقتلوني بكل نوع متوفر من المضادات الحيوية التي يمكن أن تخطر ببالك في عصر الفضاء، والتي كانوا يعطونها لي 24 ساعة في اليوم بغية النيل من العدوى المفترضة. أما فيما عدا ذلك، فإن الحياة تظل رائعة بحق.
ما زلت أمارس ذلك القليل من الترحال، لأنني أستمتع به فحسب، يبدو أنني أتمتع بمنطق النعامة في حدوده، وهو ما أوصي به بقوة كوسيلة للتحايل على أقصى حدود هذه الفوضى الجسدية الهائلة التي تسكنني على نحو لا مفر منه (الإنكار، هي الكلمة التي يستخدمونها أحياناً بخصوصي)، لكنك ستتفاجأ بكم أستطيع أن أكون نشطاً مع ذلك، سواء في تقمص منطق النعامة أو في كل شيء. أجدني وأنا أشرع بالتدريس ثانية في الفصل الثاني. هل ذكرت لك أنني أمل بإلقاء المحاضرات التي طلبت إلى ومطبعة جامعة كمبريدج Cambridge University Press، إلقاءها عن الأوبرا؟
أرجو أن تظل على تواصل معي من آن لآخر، وأعلمني بأي حال عن موضوع كلية كينغز. ربما تستطيع أن تزودني يوماً بانطباعك عن ج، بير التي لم ألتق بها بعد.
طلبت إلى مريم أن أبعث إليك بتحياتها، وأنا أبعث إليك بتحياتي بالطبع، كما دائماً، من إدوارد.”
إدوارد
لدى قراءة هذه الرسالة، يخطر للمرء أحياناً أن يتأمل احتمالات حياة إدوارد سعيد لو لم يكن محكوماً بقدر الرحيل وتجربة المنفى، لكن ذلك يظل تأملاً عدمياً لان سعيد كان هو هو، ذلك المهاجر للبعد الذي لم يعد بأسره مكان لأنه «خارج المكان»، والمفتون مع ذلك بالأمكنة الجديدة والترحال: «ما زلت أمارس ذلك القليل من الترحال، لأنني أستمتع به فحسب. ربما يكون صحيحاً أن الحنين يظل دائماً لأول منزل. أما عندما يصبح المنزل الأول موصداً دون صاحبه، فإن الأماكن كلها تصبح مجرد أماكن؛ موضوعات للاستكشاف ومحطات للعبور.
وإذن، فإن من المفهوم أن يصبح السفر قدر سعيد وهاجسه، والذي اعتنقه ربما بسبب ذلك الإنكار، أو منطق النعامة، ليتحايل على الشعور بفقدان المكان الخاص. ولم يقتصر هذا الإحساس على المكان الفيزيائي، ففي حقل النظرية، نجد سعيد وهو يقول بسفر النظريات والأفكار، تماماً مثل الناس، من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، ويكتب عن ذلك مطولاً في مقالته الشهيرة «النظرية المرتحلة، -Travelling Theory. وفي حقول المعرفة، نراه وهو ينظر، بل ويتنقل هو نفسه، بين حدودها المصطنعة، وينتقد المسافة بين نخبة العارفين، وبين العوام، وباختصار، كره سعيد فكرة الحدود لأنها تقف دون الانتقال الحر للفكر والجسد على السواء، وهو ما جعل منه عقلاً موسوعياً وكوني المنظور والرؤية.
أما المسألة الثانية اللافتة في رسالة سعيد، فهي حبه للحياة، وقدرته على مقاومة المرض باستراتيجية مبتكرة: لا بأس أحياناً، في نظر سعيد، بأن يدفن المرء رأسه في الرمل، وبأن يعمد إلى «إنكار» الواقع، لأن غير ذلك ربما يقعده ويسلمه إلى حس بالعدمية والاستسلام. هكذا استطاع سعيد أن يواصل عطاءه بكامل الطاقة في سن مرضه المزمن والميؤوس من شفائه، فيكتب مسودات محاضراته وهو في المستشفى، ويواصل اتصالاته وتحضيراته لأسفاره ومحاضراته وهو لا يعرف ما يخبئ له الغد، ولا يريد أن يعرف، وهو المعروف بشغفه بالاستنطاق والاستشراف.
يقول الإعلامي الشهير ديفيد بارسامیان في تقديمه لمقابلات كان قد أجراها مع إدوارد سعيد:
على نحو ما، وفي خضم انشغالاته وفي أوقات فراغه يستطيع رجل النهضة والتنوير هذا أن يجد الوقت ليعزف البيانو ويكتب عن الموسيقى والأوبرا، وهو متأثر جداً بالشاعر أيمي سيزير، ويحب أن يقتبس من شعره:
لكنما عمل الإنسان لما يبتدئ بعد،
وإنما يتبقى عليه أن يقهر
كل القسوة الهاجعة في حنايا هواه
ما من سلالة تملك للجمال احتكاراً،
للفكر، ولا للقوة…
وهناك مكان ومتسع للجميع
حيث ثمة موعد مع الانتصار.
“…منذ أوائل التسعينيات، بدأ إدوارد سعيد يصارع مرض سرطان الغدد الليمفاوية، وكان يمضي الوقت بين المشافي وخارجها، إما على وشك البدء في دورة من العلاج أو بصدد الانتهاء منها، وتمكن خلال ذلك كله من الكتابة وإلقاء المحاضرات. إن خصومه يريدونه صامتاً، ولكنه يقول في واحدة من المقابلات التي يضمها هذا الكتاب: “ذلك ما لن يحدث إلا إذا مت”