جان غرولو: لا لمدام بوفاري،نعم لحوار المنهج
لو سات أنفو محسن برهمي:
كانت العلاقة بين الأدب والسينما أشبه بتوأمة بين الفنين، فالروائيون يقدمون رؤيتهم للعالم في أعمالهم، وكتاب السيناريو يضيفون رؤاهم إلى هذه الأعمال ويحولونها إلى واقع يتحرك على الشاشة الفضية،لذلك نقترح عليكم قراء لوسات أنفو الأعزاء هذا المقال من مجلة الحياة السينمائية، عدد 37، ربيع 1990، للتعرف على علاقة السينما الفرنسية والأدب.
لست كاتبا ولا صحفيا، ولكن سبق لي أن كتبت في الاعداد الاولى من “كراسات السينما”. أنا رجـل عروض: في المسرح، والسينما، والتلفزيون. ومن وجهة نظري ليس هناك اختلاف جوهري بين السينما، والمسرح، والتلفزيون. أما الأدب فهو مختلف بالطبع… عندما أكتب السيناريو، لا يأخذني الحوار فقط، بل واهتم أيضا بإمكانيات العرض، حتى أنني في الواقع لا أفصل الواحد منهما عن الآخر.
في فترة من الفترات عملت موظفا في مكتبة “بالم ” في ساحة سانت سوبليس. وكان ريفيت يتردد إليها. كان ذلك في عامي 1948 و1949. ويومها تشكلت مجموعة شبايرول، غودار، تروفو، ريفيت، وغيرهم. كان النادي السينمائي في الحي اللاتيني يعرض أفلاما أمريكية لم تكن تساير ذوق تلك الفترة، وكنا نحبها كما كنا نذهب بالطبع إلى مكتبة السينما.
تركت العمل في المكتبة، وذهبت لأعمل كممثل في عام 1956 جاء إلى باريس روسوليني حاملا معه مشاريع تتعلق بتنفيذ أفلام عن الواقع اليومي في فرنسا. التقاه تروفو وعرفنا عليـه. وتحددت المشاريع.
حبي للسينما نشأ معي:
ولدت سنة 1924. كنا نقطن آنئذ في فوانتاني سوبوا، وكان لي جد رائع اعتاد على أن يصطحبني معه إلى السينما منذ كنت في سن الثالثة. وكان لنا جار يعمل مخرجا ويملك استوديو للرسوم المتحركة في جناح فونتاني. من هنا جاء للسينما. وتوالت التواريخ بعد ذلك: أول فيلم اذكره هو ” سفينة نوح” للمخرج كورتز. وفي السابعة من عمري شاهدت فيلم “كينغ كونغ” عدة مرات. كان ذلك هو الزمن السعيد حيث كان في مقدور الأطفال أن يشاهدوا أفلام الرعب. ثم عشت مع أفلام شابلن. لقد انغمس في هذا الجو أشخاص قلائل من جيلي. وربما كان تروفو واحدا من هؤلاء.
ثم عشت في «انجير»، ورأيت أثناء الاحتلال كل أفلام العهد النازي، لم تكن جميعها أفلاما تافهة، فقد كان فيلم «تيتانك»، على سبيل المثال ، فيلما هاما. عندما بلغت العشرين من عمري، استدعي والدي للعمل في باريس فلحقت به. كنت أذهب إلى كل مكان، حتى إلى المنتديات، ولكنني لم أتوقف عن أن أكون قبل كل شيء هاويا للمسرح.
أثناء ذلك حققت أول أعمالي ككاتب سيناريو مع ريفييت. كان الفيلم سيحمل اسم “المتدينة” ويعالج النزاعات العنصرية التي كانت سائدة في المدينة الجامعية. فقد كانت فرنسا آنذاك فريسة لكل أنواع الصراعات الاستعمارية.
وقد أدرك روسوليني أن هناك مشكلة طلابية، ذهبنا بعيدا في العمل إلى حد تقطيع المشاهد استعدادا للتصوير. لكن الشجاعة خانت منتج روسوليني فلم تنجز المشاريع، وذهب روسوليني إلى الهنـد أما فيلمي أنا وريفيت فعرض جزء منه في فيلم “باريس لنا”.
في تلك الاثناء عشت تجربة مثيرة وذلك بتمثيل مسرحية «مأساة في طولون» في الارياف. كان هنري ماتان يومئذ في السجن. نظر جماعة «كراسات السينما» إلى التجربة باهتمام. وكان ريفيت معجبا بفكرة عرض المسرحية: كان يكتشف الناس أكثر من خلال عرضها. ثم أنجزنا الفيلم عن المسرحية، وأصبح المحتوى أكثر عمومية، واهتممت أنا بشكل خاص بالجانب الواقعي.
من ديديرو الی ستاندال:
اقترح علي تروفو أن أعمل معه في فيلم “جول و جيم”، لم أبدأ العمل ككاتب سيناريو محترف إلا منذ عام 1963 مع مخرجين مختلفين، ليسوا جميعا من الموجة الجديدة. هناك بالإضافة إلى الأعمال التي تم انجازها، أعمال كثيرة لم تر النور. تعاونت بشكل أساسي مع ريفيت في “باريس لنا” ومع تروفو في “جول وجيم” وفي “الطفل الوحشي” ومع إنريكو في “عودة الشبح” ومع روسوليني في “فانينا فانيني”و “اعتلاء لويس الرابع عشر للعرش” ومع غودار في ” الجندب الصغير”.
لم يكن العمل يختلف جذريا على نحو دائم، ولكن القصة كانت تختلف بقوة من فيلم إلى آخر. أحيانا يقوم كاتب السيناريو بالمبادرة. وهذه هي الحال بالنسبة لفيلم ” المتدينة”. كنت أقوم بجولات مسرحية، وقد سئمت ذلك. وأعتقد أن موكلير هو الذي لفت انتباهي إلى ” المتدينة”. وقد سحرتني الرواية كانت فيها حوارات رائعة، وكان عملي هو إعادة صياغة حوار ديديرو.
في البداية أعددت مسرحية عرضها مسرح مرسيليا المعاصر، فاهتم ريفيت بالأمر. ثم تحولت المسرحية إلى الفيلم. أردنا أن يقرأ الناس ديديرو. لم نكن نريد تلك النهاية، ولا ذلك الانتحار الرومنطيقي المزيف. كنا نود تقديم تلك المرأة التي ظلت منغلقة على نفسها حتى نشوب الثورة والتي رفضت ـ عندما جاءتها الحرية -لحظة علمنة الإكليريكية ـ الخروج من عزلتها. لم تكن مشاركتي في فيلم “المتدينـة” هامـة وحسب، بل وكنت على نحو ما صاحب الاعـداد الاصلي للقصة.
حصل هذا الأمر في أفلام عديدة، كما جرى بالنسبة لفيلم «عودة الشبح». كذلك عرضوا علي رواية «نقش على السجادة» لجويس لأقراها وأرى إن كان يمكنني اعدادها للتلفزيون، ولكنني لم أستطع فعل شيء، إذ كانت تجريدية جدا. وعلى العكس من ذلك رأيت القصة الأولى استثنائية، فتخيلتهـا سينمائية، بل ومخرجة على يد انريكو لما فيها من جو بريطاني جديد، لذلك عرضتها على انریکو، فوافق على إخراجها.
بعد ذلك سنحت لي فرصة أن اعرض على روسوليني قصة “اعتلاء لويس الرابع عشر للعرش” في البداية فكرت بريفيت، لكنه لم يوافق حيث كان قد مل مما في “المتدينة” من ملابس وديكورات داخلية. من حسن الحظ وافق روسوليني على اقتراحي. ومن حسن الحظ أن ذلك كان لا ينسجم مع توجهاته في ذلك الوقت.
اختلفت طريقة العمل لدى روسوليني. فقد قام بالإخراج منطلقا مما كان يتوفر لدينا، ولكنه فكر بأن يعمل بالأسلوب اياه الذي كان يعتمده لويس الرابع عشر بتحويل مهجريه ونادماه الى خدام يعملون لديه.
كنت أعددت لروسوليني قبل ذلك “فانينا فانيني”؛ وهو العمل الوحيد الذي أخذته عن ستاندال، ولكنه كان مختارات من ستاندال، فبعض المشاهد مأخوذة من “دیر بارما” وبعضها من “الحفل” وبعضهـا من “الأحمر والأسود”. وكان اعدادا تطلب مني جهدا كبيرا ومع ذلك لم يرد اسمي في ثبت أسماء العاملين في الفيلم.
عندما يريد كاتب السيناريو أن يعد للسينما كتابا ما عليه في الواقع أن يعمل على نحو مضاعف بحيث ينسجم مع الكتاب ومع المخرج في آن معاً.
صديقي تروفو:
بقي أن أتحدث عن تروفو. لقد تعارفنا منذ عشرين عاما. وبعض مراحل حياتنا مشتركة تقريباً. أعددنا معا سلسلة عملين هما ” جول وجيم” و”الطفل الوحشي”.
ما إن يعرض علي عمل حتى اعرف ماذا ينتظر مني. فبالإضافة إلى أنه يطلب مني أشياء محددة، فهو يقرأ العمل ويختاره. ويشير الى كل كلمة أو جملة أو مقطع يبدو سينمائيا بالنسبة له. يعطيني الكتاب وقد أشار فيه إلى كل ذلك. فأبدأ العمل، ويكتب هو ست أو ثماني صفحات، أحيانا يعترض، فنعاود القطع واللصق من جديد، وتكون نتف الاوراق هذه عبارة عن روائع صغيرة لا بد من رؤيتها كأوراق جاهزة وأخيرا نحصل على النص. وغالبا ما يعمد تروفو حتى قبل المونتاج الى حذف مشهد أو اضافة آخر. عادة اكتب أكثر مما ينبغي، وهذا ما يسميه روسوليني «بالخلفية العامة». أحيانا لا تعطي صفحة ما أكثر من حركة أو تعبير. هذا لا يضيف شيئا، ولكن لا بد من عمله، ونحن لا نقطع النص معا سواء كان السيناريو أم الحوار، وفق ما هو متبع. ولكن يظل تروفو مؤلفا كبيرا.
لست صاحب مزاج معقد أو دقيق، وليس لدي سبب لأكون كذلك. إن كلمتي “اخلاص” و”خيانة” تجاه الأدب لا تعنيان شيئاً بالنسبة لي. في الواقع ما يزال أغلب الناس يعتقدون بتفوق الأدب على السينما. ومن هنا تأتي أعمالهم “مخلصة”. أما بالنسبة لي، فهذا لا يعني شيئاً هناك ببساطة نصوص أرفض أن أتبناها، مثل “مدام بوفاري”. ليس فيها ما يمكن أن يجعلني اضعها كعمل سينمائي، ذلك أنها من أدب الاكسسوارات. في حين أرى منطقياً أن اتبنى أعمالا مثل “حوار المنهج” أو “تظاهرة الحزب الشيوعي”، فهذه يمكن عملها سينمائياً.
على أية حال يصبح الفيلم بعد أن ينجز موضوعاً قائماً بحد ذاته. أنه يوجد بالتوازي مع الكتاب، ولكن ليس هناك شيء مشترك بينهما. فالكتاب مادة، وليس هناك اختلاف بالنسبة لي أن أعمل فيلماً بالانطلاق من مادة الطبيعة أو مادة ملموسة أو مادة مطبوعة، فكلها شيء واحد، وليست هناك مشكلة في الإعداد.