ملحمة الصيادين التقليديين في رحلة البحث عن رغيف العيش
يُمنون النفس مع إطلالة كل يوم جديد بصيد وفير ينسيهم مرارة الجهد المضني
حسن البوهي
يُيمًمون وجوههم صوب الامتداد الأزرق، ألفوا رذاذ البحر وتلاطم الأمواج، يشاكسون أعماق المحيط لعله يجود عليهم في لحظة رضى ما يسدون به رمق أسرهم المعوزة، سحناتهم مخضبة بلون مغيب الشمس، ألفوا هدهدات الأمواج العاتية وهزيز الريح الضارية…هم الصيادون التقليديون، رغم تحديث تقنيات الصيد العصري إلا أنهم ما زالوا يخوضون مهمة الصيد بتقنياتهم البسيطة، لا يغنمون كثيرا من البحر، فهذا الأخير قد أمسك عنهم جزالة ثرواته لما يزيد عن العقدين، يُمنون النفس مع إطلالة كل يوم جديد بصيد وفير ينسيهم مرارة الجهد المضني، وهم في انتظاريتهم تلك بين اليأس والأمل يُعيدون نسج تفاصيل قصة زميلهم العجوز “سانتياغو” ذلك الصياد الذي صوّر معاناته الكاتب الكوبي المشهور “إرنست هيمنغواي” في أيقونته الإبداعية “الشيخ والبحر”.
الداخل مفقود… والخارج مولود…
ببشرة سمراء، خطت عليها نوائب الزمن تجاعيد غائرة، يتحدث الرايس “أحمد البعمراني” في عقده السابع عن تفاصيل حياته مع البحر بميناء مدينة الصويرة، الذي صادر منه عنفوان شبابه دون أن يحظى بعائد مادي مناسب يكفل له العيش الكريم، يتحدث الرايس بمرارة ونحن لا نكاد نتبين مخارج الحروف بشكل واضح “فتحت عيني على البحر منذ عامي 14 دخلت المرسى وهناك تلقيت أدبيات الصيد وتدرجت في المهام إلى أن أصبحت رايسا…مهنة الصيد البحري لا يُقبل عليها إلا من تتوفر فيه قوة البنية مع سرعة البديهة ورباطة الجأش” لا مجال للخوف والتردد في عالم الصيد التقليدي، ولا مناص من الحذر الدائم فالبحار الذي يمخر بزورقه التقليدي البسيط عباب البحر، يستدعي أن يتوخى الحيطة واليقظة الدائمة، ذلك أن البحر على حد قول مهنيي الصيد: “الداخل إليه مفقود، والخارج منه مولود”.
التقينا في مرسى الصويرة الرايس “لحسن بنها” رب أسرة مكونة من 5 أفراد، دأب على العمل في الصيد التقليدي أزيد من 40 سنة، يتذكر بنوع من الحنين أن سنوات السبعينات والثمانينات وحتى تسعينيات القرن الماضي كان البحر معطاء ويجود عليهم بكميات وفيرة من الأسماك، غير أنه في العشر السنوات الأخيرة تراجع محصول الصيد بشكل كبير، ولا يسعفهم في تدبر ضرورياتهم المعيشية التي أصبحت مستعصية مع غلاء الأسعار، يستطرد الرايس لحسن في القول أنه يُشغّل معه 5 صياديين في قاربه التقليدي، وهو مطالب بتوفير مصاريف أكل مجموعته وواجبات البنزين التي تقدر بحولي 1500 درهم، إذا غنموا من البحر كميات مهمة من الأسماك وناذرا ما يحدث ذلك فإنه يستخلص 40% من القيمة المالية لمبيعات الأسماك فيما يقتسم الصيادون فيما بينهم الباقي، أما إذا لم يجد عليهم البحر بالأسماك فإنه يتحمل لوحده خسارة الجولة البحرية. وأضاف المتحدث أنه بالإضافة إلى الصيادين الذين يوجدون معه في المركب يشتغل معه أشخاص آخرين تتلخص مهمتهم في تجهيز معدات الصيد، وإعداد الطُعم، ورتق شبكة الصيد…وغيرها من الأعمال الأخرى، مقابل تعويض يقدر بنصف أجرة “البحري” أو الصياد التقليدي.
رداءة الأحوال الجوية…عطلة إجبارية عن العمل
خبروا بحكم المراس والتجربة أحوال الجو ومتغيراته، لا يحتاجون إلى المعدات التقنية والآليات المعلوماتية العصرية لاستشراف أحوال الطقس، يكتفي الصيادون التقليديون بحواسهم الخمس التي تشكل نواة محرارهم البيولوجي، ونادرا ما تخونهم فراستهم البحرية في الاستدلال على رداءة الأحوال الجوية من عدمها، رغم ذلك فإنهم يحرصون أكثر من غيرهم على تتبع نشرات الأحوال الجوية باهتمام بالغ.
“رداءة الأحوال الجوية تساهم في تعميق معاناتنا المعيشية” عبارة وردت على لسان الرايس “سعيد القماري” – ممثل الصيادين بغرفة الصيد البحري وأمّن عليها باقي الصيادين التقليديين، فكتل ضبابية عابرة أو زخات مطرية متناثرة وما يرافقها من ارتفاع أمواج البحر يرادفها في واقع الحياة اليومية للصيادين عطلة إجبارية عن العمل تتراوح بين 10 أيام إلى 15 يوما أو أكثر في الشهر وبمعدل سنوي تقريبي لا يتجاوز 120 يوما، يتذكر “الرايس اسعيد” أن أعلى معدل للعمل في مسيرته المهنية لم يتجاوز 18 يوما في أحد أشهر أوائل سنوات ثمانينات القرن الماضي، ولم يستطع تجاوز هذا الرقم في الوقت الحالي، ذلك أن اضطراب الأحوال الجوية في الفترة الممتدة بين شهر مارس و15 شتنبر من كل سنة تدفع الصيادين إلى الأخذ بمبدأ السلامة وتجنب الإبحار في يوم تنبؤ بشائره الأولى بسيناريوهات غير محمودة العواقب، ويكاد يجمع الصيادون التقليديون أن الصيد في يوم مكفهر هو بمثابة “شؤم” قد لا يسلمون من تبعاته السلبية، فإذا لم تكن هناك خسائر بشرية فإن الخسائر المادية ستكون حاضرة لا محالة، وغالبا ما تسفر الجولة البحرية القصيرة عن استهلاك كميات كبيرة من البنزين تتجاوز معدل الاستهلاك في الأيام العادية، وإتلاف نسبة مهمة من المعدات والتجهيزات ك”السنّارات، شبكات الصيد، والمحرك…
قوارب صغيرة تجابه جبروت الأمواج
توقفنا عند جماعة من الصيادين يستعدون للإبحار، استفسرناهم عن مشاكلهم المهنية فكان ذلك كافيا لكي يؤجلوا مهمتهم البحرية حتى حين، بادرنا أحدهم بالقول “مشاكلنا يصعب عدها، وقد يستغرق حديثنا عنها يوما كاملا أو أكثر، وإذا بدءنا من وضعنا الحالي وسط هذه “الفلوكة”، يمكنك أن تلاحظ مدى صغر حجمها، التي لا تسعفنا للتحرك بأريحية أثناء الصيد”، ذلك أن مساحتها الاجمالية لا تتعدى 2.40 مترا عرضا و5 أمتار طولا، ويضطر فريق صيد مثلا مكون من خمسة أشخاص إلى العمل في ظروف مرهقة تتطلب بدل مجهودات مضاعفة، وعند العودة إلى المرسى يصادفون إكراهات أخرى مرتبطة بصعوبة التفريغ وعدم وجود رافعات تمكنهم من نقل قواربهم التقليدية من حوض الميناء إلى الأماكن المخصصة لها، فيستعينون بسواعد باقي زملائهم الذين يساعدونهم على دفع قواربهم التقليدية من الحوض في الأسفل إلى الرصيف في الأعلى، أما إذا كان رجوعهم إلى المرسى ليلا ولم يجدوا العدد الكافي من زملائهم فإنهم يضطرون إلى تركها في مكانها، وهو ما يلحق بها أضرارا بليغة تمتد في أسوء الحالات إلى تحطيمها إذا كانت الأمواج قوية، علما أن مصاريف تجهير قارب تقليدي تتراوح بين 140.000.00 و130.000.00 درهم.
ضبابية المستقبل
سألنا “الرايس لحسن منها” – في عقده السادس، نشأ وترعرع بالميناء منذ ربيعه 14 – ما إن كان سيشجع ابنه على امتهان الصيد البحري، فكان جوابه بالنفي، مستطردا “لا أريد لإبني أن يشرب من نفس الكأس الذي تجرعت مرارته” فمهنة الصيد التقليدي، لم تعد كما كانت في السابق، ولا تكفل العيش الكريم، لذلك يفضل عدد من الصيادين أن يتوجه أبناؤهم صوب التكوين الحديث، ليحظوا بمستقبل أفضل، من جهة أخرى أفاد صيادون آخرون أنهم أضحوا مجبرين على الاستمرار في امتهان الصيد التقليدي لأنهم لا يُجيدون ممارسة حرف أخرى بديلة، وأضحى حاضرهم ومستقبلهم متأرجحا تأرجح حركات المد والجزر، فيما استطاع قلة قليلة منهم الاشتغال مياومين أو رجال أمن خاص لدى بعض دور الضيافة خلال فترة المد السياحي بمدينة الصويرة التي تتزامن مع أشهر: دجنبر، مارس، أبريل، يونيو يوليوز وغشت، ولم يجد صيادون آخرون خيارا أخر من هجرة الصويرة والالتحاق بمدن مجاورة تتوفر بها فرص شغل أفضل.
حسن البوهي