القفز من السطح أو لقمة سائغة للمنزل: قصتي مع الزلزال
لوسات أنفو؛ عادل أيت واعزيز
بينما كنت أقرأ رواية ” متاهة الأرواح”، لكارلوس زافون فوق سطح المنزل، وفي صمت قريتي المطبق – تازناخت القصبة – وهدوءها التام ليلا. أخذ السطح في لحظة يرتج وحده، ظننته انفجارا لقنينة غازية في المطبخ. ولأني كنت وحيدا في المنزل أنذاك، أطللت برأسي نحو الأسفل، فلم أرى أي دخان أو نار تخرج من النوافذ. وفي لحظة، أصبح المنزل كله يتحرك ويهتز كأنه اسفنجة، وكأني على لوح تزحلق أو تزلج، والسطح يمتدد أكثر، كأنه فقاعة توشك أن تنبجس.
أسرعت لشرفة قريبة مني، وجميع الأفكار تتداعى من حولي، كما يكاد المنزل يتداعى أيضا، ويهدهدني وأنا أشد يديّ على الحائط الذي يرتد كله. وأنا أفكر في القفز من على الشرفة، وبدون التفكير فيما ستؤول إليه الأمور فيما بعد، أرى كومة من التراب في الأسفل، أظنها ستخفف من وطأة القفز وأنا في الطابق الثاني.
فجأة، عاد كل شيء لما هو عليه، إلا الصمت، وبدأت أسمع صراخا من هنا وهناك. أفكار العدم والحياة كلها تقصف بذهني، هل أسرع في الهبوط وأخرج؟ أم أضع كل هذا جانبا وأقفز من السطح؟ ولكن ماذا سيحدث إذا أسرعت في الهبوط على الدرج، وأكون مجرد كيس بيولوجي لاحياة فيه، والأسقف الإسمنتية كلها قد تتهواى عليه، هل سأنجو؟
مرعبة تلك الفكرة التي قد تجعلك بين الحياة والموت، وتتحول من مجرد فكرة إلى حدث. الأفكار والأحاسيس كلها تستهلكني، وأنا لا أقدم على أي حركة. كم هي مستعصية وجافة تلك الفكرة التي قد تعيدك لأشلاء أمام انهيار كلي لمسكنك، فتكون ضحية الغرف والحمامات والمطبخ والسطح أيضا، بل ضحية خرسانة ممتلئة بالرمل والزلط والحديد. وأنت وجها لوجه أمام البقاء، أمامي نتيجتين حسميتين؛ قد أنعدم أو أكون عاهة، تتشتت أعضائي بين لوازم المنزل، وتصبح مثلها تماما، بلا حياة.
الساعة تشير إلى الحادية عشر والربع ليلا، لو استمرت الهزة الأرضية لقفزت، لكني تخلصت من الفكرة، وأسرعت في الهبوط مسرعا، تاركا كل شيء خلفي إلا هاتفي، الوحيد الذي سيعرف من خلاله أهلي وأصدقائي أني على قيد الحياة، وبه سأعرف إن كانوا أيضا بخير.
وأنا أهرول هربا وهبوطا من فناء وشيك، ودَّعت كل شيء قد يكون ثمينا وذا قمية، بل لم أفكر في أخذ أي شيء غير جسدي، تركت جميع الشواهد هناك، تركت كل الوثائق والبطائق؛ الهوية والمالية، ومتاهة الأرواح التي أقرأها.. ولكوني حافي القدمين، لم أشعر بهما إلا حينما وصلت الدرجة الأولى من مخرج المنزل، وأنا أسقط سقطة بعد تزحلق حقيقي انزلقت فيه كاد يسبب لي بكسر في إحدى اليدين أو ضربة موجعة في الرأس، نجوت مجددا، بدون كسور سوى ألم خفيف بظهري، لم أحس به إلا بعد أن تملصت بي رهبة الهزة.
لشدة الخوف وارتعادي، نسيت إلى أي اتجاه يمكن أن ينفتح فيه قفل الباب، دورت المفتاح يمينا، فأوصدت الباب مجددا على نفسي! لن يتركني هذا البيت وشأني إلا بعد أن يلتهمني كليا. فتحت الباب وخرجت مسرعا من كارثة محققة.
أرى الناس يقذف بهم جميعا خارجا عن مساكنهم، كأن وحشا في الداخل يطاردهم، وحش الزلزال المباغث والمدمر، الذي لم يعلن عن قدومه. تنفست الصعداء بصعوبة، وحتى تأكدت من أن لا جدار ولا بيت أمامي وخلفي، قعدت فوق حَجَرٍ بعيدا عن المنزل، أرمقه من بضعة أمتار، وأفكر أني كدت أكون بين الفينة والأخرى في العالم الآخر. تحدثنا أنا وبعض الخارجين عن هذا الإمر، لنكتشف أن الزلزال طال المغرب كله، بعد أن شاهدنا منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث عن الأمر من مدن مختلفة.
طمأنت في اتصال أولي على الأسرة والعائلة، كلهم على ما يرام، لكن الخوف ظل متمسكا بهم، تتبعت أخبار الأصدقاء على صفحاتهم، ثم استبشرت قليلا، وتابعت بعض الاخبار، وتأكدت أن النكبة فعلا ستتضح معالمها غدا في الصباح، وهكذا كان.
كم هي بئيسة وعنيفة هذه الطبيعة التي تحرك الكون كله. فبعد فيروس كورونا الذي أدخلنا لبيوتنا رغما عنا، هاهي مجددا تلتحف الزلزال وتخرجنا قسرا منها. وتحطم جميع مآلاتنا وأحلامنا وإنجازاتنا، وتهشم أوهامنا من جديد في السيطرة عليها، كما وخزت نرجسيتنا وغرورنا من جديد. ولايسعنا نحن البشر الضعفاء إلا الدخول مع هذه الطبيعة، في علاقة أخلاقية وتكنولوجية ومعرفية لم نعشها من قبل. هكذا كانت قصتي معه، مع هذا المقتحم الذي يُسَمّونه زلزالا، والذي لم يطرق أبوابنا. ونقلني في هنيهة، من متعة قراءة الرواية، إلى ثخوم العدم واللاشيء، وجعلني أعيد التفكير مجددا في الأسئلة التي أعيش من أجلها، بل قلب جميع مفاهيمي للحياة، وهل فعلا تستحق كل هذا العناء الذي نكنها لها؟