مذكرات

يوميات مغربي في البرازيل (6)

 

عبد الرحمن بلحداد(كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

عضو مجلس الشيوخ البرازيلي: “ما هذا الهُراء، يا سعادة السفير ! احترم عقولنا، من فضلك… فالله نفسه، وعبر تاريخ البشرية كله، لم يحظ بنسبة تسعين بالمائة، فكيف يحصل عليها رئيسك صدام في انتخاباتكم تلك؟!”

 

” ومن حسن حظي أنه لا نية لدي في أن أدع نفسي أتمزق: فالأنثى الحقيقية تكسر وتُمزق، إذا أحبت”. فريدريش نيتشه. ص 75من كتابه ” هذا هو الإنسان”، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الثانية.

لم يكن صاحبنا يعلم شيئا عن عالم النساء، مثلما يجب، إلا إذا اعتُبر ذلك الحب العذري العفيف الخفيف، والذي عنه تمخضت قصائد، مجرد قصائد،وعلى هامش هامشعالمهن… وهل القصائد والقصص تشبع رغبات فتى وفتاةبهما كل عطش يشتد ويتراكم أكثر كلما لاحقتهما أعين جواسيس “الله”؟!

أما القصيدة الأجمل فهي التي كتبتها على جسد صاحبنا جميلات البرازيل، اللواتي لو كتب الحظ للفيلسوف الألماني، فريدريش نيتشه أن يكون هناك وبينهن لتمزق وتكسرقلبهالفاتنات اللطيفات من كواسر البرازيل الصغيرات ولربما اتخذت فلسفته لها منحى آخر، حتى ولم قاوم… و ذلك رغم عبقريته و عمق خبرته وكثرة تجاربه معهن… وهل كان نيتشه في بلد به لحم ساخنوطقس حار خلال السنة كلها في غالبية ولاياته ثم به كل إغواء مثلما هو شأن البرازيل! فحتى لو كانت البرازيلية في سن الثامنة عشر من عمرها فإنها تغتصبكك اغتصابا وتتحدى فحولتك بأشكال عدة. هي الفاعلة وأنت المفعول بك. وتفشل أنت كلما حاول إظهار فحولة من طرف واحد، فإذا بها تقفز من تحتك و تتدحرجت من أسفل إلى فوق كي تلقنك درسا لن تنساه: هو أنك آت من بلد أكثر الناس فيه خبرة في القبل وفي الإشباع بلذاذة الجنس ليسوا سوى متعلمين وبخبرة أقل في مدرستها هي وأمامها. كيف لا وقد ولدنا ببلد يشرب فيه الناس الخمر لا عجل ويضاجعون حتى زوجاتهم على عجل، خوفا من إحراج جارة أو جارأو كليهما أو تفاديا لتلصص صغارهم وكشفهم لهم أودفعا للإحراجلكل زيارة غير مرتقبة لأحد من أهلهم أو لطارق فضولي يطرق الباب في الساعة الخطأ، وما أكثرهم!… والحال أن صاحبنا يتذكر أنه، وهو في كامبيناس وقبل أن يسافر إلى مدينة ساوباولوومن هذه إلى برازيليا، أقول إن صاحبنا شارك في كرنفال مدينة كامبيناس. رأى آخري الناس يمشون، راقصين شاربين مُغنين، ففكر أنه لابد وأنهم ممن سيُسعدون قلبه، فمشى خلفهم وما خاب ظنه. كانوا جميعا يرتدون ملابس مُزركشة وعجيبة مخصصة للكرنفال مشاركين في احتفال مهرجاني جنوني ومهيب, وكانت ملابسهم عجيبة غريبة و منها ملابس خليجية وهندية وغيرها… و كانوا يضعون على رؤوسهم أو على وجوههم أقنعة بملامح وتعابير”وجه” مختلفة. وكانت عربات بيع البيرة والشواء وغير هذا من أكل تسير على جانبي المسيرة الكرنفالية وداخلها في تناسق تام بينها وبين الراقصين والراقصات وفرق موسيقية صغيرة ومتفرقة. وكان صاحبنا يشرب البيرة تلو الأخرى ويأكل ويرقص إلى أن اقتربت منه جميلة في حوالي التاسعة عشرمن عمرها فأتى أبويها وسلموا على صاحبنا وقدوا نفسيهما وقدموا ابنتهم ثم سهلوا كل أمر انتهى إلى إسعاد قلب صاحبنا وقلب ابنتيهما مثلما أسعد ملائكة السماء. وتلا ذلك دعوة من الأبوين لكي يذهب صاحبنا هو وابنتهما لبيتهم الجميل في حديقة بهية… جلس بها وبغيرها صاحبنا ما إن قبل الدعوة.

حينها، فهم صاحبنا أنه في البلد الذي كان عليه أن يأت إليه سنوات قبل ذلك، كيف لا وأبوان ما إن رأيا تعلق ابنتهما بشاب حتى مهدا الطريق إلى قلبين وجسدين على ما تهواه نفسيهما عكس ما يحدث في بلداننا من دفع الفتيات بشتى الطرق للزواج ممن لا ترغبن فيه مُقابل تعويض مادي مباركيسمى صداق وبحضور شهود على عملية اغتصاب لإرادة حرة لفتاة، فيُغتصب بهذا الإرادة والجسد معا…!وفي مدينة كامبيناس حدثت قصص هنا وأخرى هناك لم تكن فقط ممزقة لنقاب الخجل الذي ولد به وكبرعليه صاحبنا وهو في المغرب حتى بعد كسره للأصفاد المجتمعية التي يحركها الدين والتقاليد المتوارثة الرثة، بل عملت أيضا على جعله متمكنا من عملية(تسخين الطرح) عبر تقبيل ليس مثله تقبيل ومداعبة تجعله مقتحما ومجتاحا لباقي تضاريس الجسد.

في شهر أبريل من سنة 1998، ركب صاحبنا الحافلة مسافرا من مدينة ساوباولو باتجاه العاصمة الإتحادية البرازيلية وثلاثة أشهر بعد إقامته ببرازيليا، باشر عمله كموظف بسفارة دولة قطر، وذلك في بداية شهر يوليو من السنة ذاتها. والمسافة بين مدينة ساوباولو وبين العاصمة برازيليا هي حوالي 960 كلمتر… تجاوزت الحافلة حدود ولاية ساوباولو واصلة إلى ولاية ميناس جيرايس وبعدها إلى ولاية ـوياس ثم أخيرا ولاية العاصمة الإتحادية… ومسافة طويلة مثل تلك لا يطويها سوى قراءة كتاب أو رمي شبكة لعل جميلة جالسة جوارك بالحافلة تلعق بها مُستجيبة ومُحبة، فيتعانق ويتلامس أصابع يديكما، (تسخينا للطرح)، كما نقو ل في لهجتنا، إلى أن يطفئ السائق أضواء الحافلة فتصل أنت إلى مقصدك بعد أن تطوي بك الحافلة الطريق وأنت غير شاعر بذلك وبعد أن أدفأت قلبك وأطفأت نار لهبك… لم لا، خاصة وأن صاحبنا في بلد يرتوي شعبه من لذاذة الجنس في كل ساعة ليجد نفسه بنفس العطش ما إن ينتهي من ارتوائه… ؟!لم لا و صاحبنا كان، إلى غاية تلك اللحظة، أكثر عطشا من أي برازيلي يتلقى دروسا في التربية الجنسية منذ صغره فيشبع رغباته في عمر جد مبكر بينما أن صاحبنا كان في مغربنا ذاك مُتجلببا عطشانا، كبوثا مثله في ذلك مثل “خير أمة” ثميلهث خلف فتاة مغربية، عطشانة هي الأخرى، لعله يمسك بيديها في غفلة عن أهلها وحتى عنها وعن مجتمع مكبوث يحسدك كل منهم على علاقةو لذاذة ما مادام أنه لن يغمس شيئه في الدواةفيكرهها لك، أو خوفا على زوجته أو صٌويحبته من أن تطير منه إلى آخر يُشبعها حبا وعشقا…؟!

وكان صاحبنا في طريقه إلى برازيليا يقرأ مقالا مطولا وشيقا لـلأنثروبولوجي الفرنسيكلود ليفي شتراوس، انتهى من قراءته ومن سوء حظ صاحبنا أن رجلا لا سمكة لذيذة هو من كان جالسا قربه… لكن من حسن حظه أن الحافلة كانت مريحة ومُكيفة وبماء معدني بارد ومجاني و رهن الإشارة في ثلاجة خلفية… في طريق السفر إلى برازيليا بدأت التذكرات تنساب على صفحة مخيلة صاحبنا…. تذكرآخر جلسة بار له مع صديقه، أستاذ اللغة العربية، أبو علي السوري(اسمه الحقيقي هو آخر…) وكيف أن الأخير صار يضحك إلى أن أدمعت عيناه وكاد الدم يقفز من وجهه الذي تطرد البيرة شحابته عنه ما إن يمتلىء بها امتلاء… ذلك أن صاحبنا سرد عليه قصة الأخير مع فتيحة كأجمل فتاة بحي سيدي يوسف بن علي وكيف أناثنين من صديقي آخري، أبناء حيه و رفيقيه في النضال، هما محمد و إبراهيم، اقترحا أن يقرأ صاحبنا كفوف ثلاث مراكشيات، كانت فتيحة الأجمل بينهن على الإطلاق. خمن صاحبنا أن الحافلة، المنطلقة من موقفها قرب الحي الجامعي بـ جامعة القاضي عياض، واصلة إلى بيته بمنطقة سيدي يوسف بن علي دقائق قلائل قبل الإمساك بكفي فتيحةالناعمتين الساخنتين والتلصص على عينيها من باب إيقاعها في أحابيل الإغواء لعلها تولع به وتصطلي بنار حبه… وقراءة الكف هذه لم تكن إلا تلفيقا من صديقي ـ رفيقي صاحبنا لعل الفتى الخجول الذي كانه ينزع عنه حجاب الخجل ذاك، فيقتحم عالم النساء، ممارسة لا شعرا… ادعى أحد الصديقين أن صاحبنا بارع في قراءة الكف وأن تنبؤاته لم يكذبها واقع الأحداث قط. أمسك صاحبنا بكف فتيحة وأسعفه في تجربته تلك ما شاهده وحفظهمن ساحري ساحة جامعة الفناء، الشقيقان السوسيان من (أبناء منطقة سوس)، فاقتلع آخري من كف فتيحة ما قدرأنه عدد إخوتها من بنين وبنات، فأقسمت هي أن ” نبوءة” صاحبنا صادقة. بعد ذلك، سرد لها آخري طبيعة علاقتها بأبويها، كل على حدة، فأكدت هي أن كلامه صحيح ثم خمن صاحبي أنه لابأس من سرد واقعة ما مستقبلية، ذلك أنه لا نبي دون معجزات… فأخبرها أن جدها سيتوفاه الله في ذلك الأسبوع… بعد أسبوع من قراءة الكف، تأتي فتيحة مكسورة القلب إلى صاحبنا- الذي علمته ثقافة التعاسة أنه لابأس من نشر خبر تعيس- وكانت هيمُجهشة بالبكاء ثم مرتعدة أمام النبي الذي كانه آخري ذاك…ثم أقسمت أن جدها قد توفي، حقا وصدقا. قدم صاحبنا لها التعازي وفكرلتوه أن الخبر قد يكون صحيحا أو أن فتيحة لربما تكون قد قتلت جدها في الوهم كي تستمتع بقراءة  كفها وباقي تضاريس الجسد…  … حينها، عاتب آخري نفسه أن نبوءته تلك لم تكن مائدة نازلة من السماء، بل فاجعة تحل ببيت وتجعل قلب عصفورة جميلة به حزينا منكسرا…لكن أن ينكسر القلب ويحزن له أقل حدة وقيمة من تلك الشهوة متراكمة مزعجة ثم متفجرة في أحلام الليل على ما لا يُحمد عقباه… ما إن أكمل صاحبنا سرد قصته هذه لـأبو عليحتى صدرت عن هذا الأخيرقهقهات أخف في ضجيجها من الضجيج المنبعث من زوايا عدة بالبارالذي كانا معا به. يُخرج أبو علي رسالئل تتخللها أشعار تلقاها من حبيبته الدمشقية والتي تعيش بسوريا، فيجري هذا الحوار بينهما:

صاحبنا: كان بإمكانك الإكتفاء بهذا الجمال البرازيلي المحيط بك عوض، يا أبو علي.

أبو علي: البرازيليات لليلة واحدة أو لأسبوع، في أكثر تقدير، أما السورية فللعمر كله.

صاحبنا: أنت تقول هذا لأنهن هناك ولأن بك حنين إلى بلدك وإلى ذكرياتك ولو انتبهت لوجدت أن في برازيليات للعمر كله…

أبو علي: هذا صحيح، لكن كيف لي أن أجد برازيلية تكتب لي قصائد شعر بالعربية وأفعل أنا ذات الأمرثم إن سوريات البرازيل قد المستحقات لقلبي قد تخاطف عليهن ميسورو البرازيل من الجالية العربية ؟!

يواصل صاحبنا شرب كأسه من البيرة و يصب كأسا لصديقهأبو علي، يتذكرهذا الأخيرأن خمرته الأخرى، أيماحيا البرازيل(تُصنع من قصب السكر وهي أنواع كثيرة وجيدة وتُستعمل من أجل إعداد المشروب الروحي البرازيلي كايبرينيا المشهور عالميا)، الـ كاشاسا المصاحبة للبيرة، قد انتهت، فينادي على النادل، قائلا له في مزيج بين العربية والبرتغالية:

أبو علي للنادل: مايس أوما (أي واحدة أخرى)، يا حمار.

صاحبنا: حرام عليك، أبو علي. مو هيك تحكي مع إنسان يخدمك و ما في بينك وبينو عداوة.

أبو علي: أنت شايف أني أوجه هاد الكلام بس للنادل غير المسؤول ثم إن وصفي لو بالحمارهو من باب المحبة الممزوجةبمزحة سمجة، شيئا ما لعله يركز على خدمتي دون تأخر، عطشي و ولعي بها يكرهان الإنتظار… ثم صدقني، يا عبد الرحمن، أن النادل فاهم أني شتمتو، لكنو ابتلعها لأني من السبعينات وأنا زبون لكل بارات ساو باولو وكلهم يدعوني ابن العم، كما ترى ويعرفون ما أريد، حتى قبل فتح فمي، لكن هذا حمار فعلا…

آخري: هذا لا يبرر كلامك هذا واستغلال كون النادل لا يعرف عبارة (يا  حمار) بلغة لا يفهمها.

أبو علي: بعدك جديد في البرازيل، يا عبدالرحمن… هذا الشعب يشتم كل منهم نفسه ويشتم غيره ما دمت تشتمه وأنت مبتسم فكل شيء ماشي. هو يفهم أنك تمزح معو ما في مشكلة… أنت حتشوف أنو فالمرة الجاية لن يتأخر عن تلبية طلبي لأنو حيتذكر كلمة حمار….

صاحبنا، أي آخري الذي كنته: هههه. ربما يكون كلامك صحيحا…هذا إذا لم يتفل النادل على طعام قدمه لك بشكل متخفي ويكون بهذا منتقما منك شر انتقام.

أبو علي: مستحيل أن يقوم بهذا، سيضع نفسه مكاني، فهذا الشعب يحب النظافة، بل و مهووس بها ثم إنه إن قام بها يكون قد قطع رزقو عنو لأن زبونا أو عاملا ما سيراه وأكون أنا قد أخذت تعويضا سخيا من صاحب البار حتى ما يسكرو لو المحل ويضطروه إلى غرامة ثم تعويض لي أسخى…

أبو علي السوري هذا هو أستاذ لغة عربية كان حينها في حوالي السادس والأربعين من عمره ولا يمل الإنسان من مجالسته. وصل إلى البرازيل في سبعينات القرن الماضي ويعرف مدينة ساوباول، دربا دربا و شارعا شارعا، أو هكذا تخيل آخري الذي كنته…. علما أن سائق طاكسي له خبرة ستة وأربعين سنة في المهنة وفي هذه المدينة تحديدا، وحينما تاه بصاحبنا في الطريق، قال بأن سنوات تجربته ليست كافية من أجل حفظ شوارع و أزقة مدينة بحجم بلد، كما الحال مع مدينة ساوباولو… كان أبو علي ضعيف البنية، شيئا ما، شاحب الوجه وشبيها بالراحل حافظ الأسد. ما إن تجالسه حتى تتأكد من أن كل الناس في مدينة ساوباولو يعرفونه، من برازيليين وعرب… كان وخلال كل ساعات اليوم وكأنه بكأس خمرته في قُبه، حيثما ذهب يصبه ويقوم بذلك وهو يارس عمله كأستاذ حر سواء في البارات أو في مؤسسات عدة لمدراء شركات من أصل عربي… كان أبو عليينتقل من بار إلى بار بمحفظة جلدية قديمة، بل شبه متهالكة بلون بندقي وبها رسائل من حبيباته بسوريا وبضع قصائد تلقاها من بعضهن مثلما أن بها مذكرة متوسطة الحجم كان يسجل عليها (حتى بعد ظهور الهواتف الذكية استمر أبو علي على حاله هذا لأنه يثق أكثر بالورق…)هواتف كل تلامذته الذين كانوا يتعلمون منه اللغة العربية مثلما كان يسجل بها هواتف كل أصدقائه ومعارفه… ويُخيل لك أن محفظته استقدمها معه من سوريا ولا يريد أن يفرط فيها لسبب ما، ربما لأنه يشتم فيها عبق بلده… كان أبو علي يجلس في البار، مُمسكا مسبحته مستغفرا لربه بين الحين والآخرثم متحدثا عن الإسلام، داعيا تلامذته له، بين رشفة بيرة وأخرى( الجالية الإسلامية في البرازيل، عمومالا تتتعصب للدين وهي متكيفة مع الثقافة البرازيلية، بل ما إن تنتهي صلاة الجمعة حتى يذهب بعض أفرادها لبارات أمام المساجد، بكشل عادي…).  وكانأبو علييصلي في مسجد السنة مثلما يفعل ذات الأمر في مسجد الشيعة في كل جمعة وبشكل تناوبي. وكان الأستاذ أبو عليهذافي بعض المرات يتعمد المزج بين اللغة البرتغالية واللهجة السورية، على النحو الذي يقوم به بعض عرب البرازيل. وكنت ترى أن أصحاب المحلات التي بها خمور، من مخابز ومطاعم و بارات  يحبونه مثلما يحب الزبناء أيضا. كانوا جميعا يتعاملون معه بأريحية وبعضهم من الزبناء يستطيب مجالسته ومبادلته الحديث، لما له من قصص مشوقة ومتابعة لكل ما يحدث من حوله ولأحداث البرازيل وبلدان أخرى… وكان صاحبنا لا يمل من الجلوس مع صديقه أبو علي واستمرت العلاقة بينهما لسنوات طويلة إلى أن غادر صاحبنا البرازيل ليسكن بالبرتغال سنة 2018.

وصل صاحبنا إلى محطة الحافلات بمدينة برازيليا وقبل استئنافه لعمله في سفارة قطر، كان صاحبنا يسكن في بيت مغربي من نواحي الرباط لنطلق عليه اسم ميلود ويسكن به المكناسي، سالف الذكر ولنطلق على هذا اسم حميد… وكان البيت يقع في مدينة أوكسيدنتال والتي توجد على أطراف ولاية العاصمة الإتحادية، والتي عاصمتها برازيليا، وتابعة، إداريا، لولاية ﮔـوياس، لكنها على الحدود بين الولايتين، أي أنها على الحدود بين ولاية العاصمة الإتحادية و ولاية ﮔـوياس ويبعد عن مركز العاصمة برازيليا بـحوالي ثمانية وأربعين كلمتر…بقي صاحبنا بهذا البيت لمدة شهر لينتقل بعد ذلك إلى بيت آخر في نفس الحيليظل به لمدة شهرين…

وما إن شعر صاحبنا بالحاجة للسكن قرب سفارة قطر وفي حي السفارات حتى انتقل إلى هناك. ذلك أنه استأجرشقة في حي السفارات بـبرازيليا، واسم ذلك الحي هولاـو سول وكله فلل فخمة وقصورباذخة وكانت به آنذاك ثلاث أو أربع بنايات فقط، رغم شساعة مساحته وكان صاحبنا يسكن بإحداها بشقة بها إطلالة على منظر جميل لنهر برازيليا والذي كان يبعد عن البناية بحوالي مائتي إلى ثلاثمائة متر فقط… وكانت الشقة التي استأجرها صاحبنا مفروشة عن آخرها، بها هاتف منزلي تابث و وتتكون الشقة من غرفة كبيرة وصالة ومطبخ ثم حمام وكان موظف بسفارة قطر هو من أجرها لصالح صاحبنا، لكن باسم محاسب السفارة السوري، ذلك أن صاحبنا لم يكن بعدُ حاصلا على الوثائق البرازيلية…والتي حصل عليها ثلاثة أشهر بعد ذلك، أي في شهر أكتور من سنة 1998، وبعد صدور عفو رئاسي برازيلي لصالح كل المهاجرين غير الشرعيين في البرازيل من أجل تسوية أوضاعهم…

باشر صاحبنا عمله بسفارة دولة قطر في مستهل شهر يوليو من سنة 1998 وتم تخصيص مكتب مجهز، مُكيف ومرتب له يعمل فيه لوحده وبمعزل عن باقي الموظفين وعمل وفق ظروف عمل جيدة ومُريحة. ثم كلف السفير القطري صاحبنا بأن  يساعد مترجم السفارة في الترجمة وكتابة التقارير السياسية والإقتصادية. ولأن مهمة مثل هذه صعبة، خاصة وأنه لم يكن لصاحبنا سوى إحدى عشر شهرا في البرازيل، مما يقتضي إلماما باللغة البرتغالية المكتوبة، فإن صاحبنا اقترح على السفير أن يبدأ عمله في السفارة ساعة ونصف قبل مجيء الموظفين وأن يتأخر في السفارة إلى الوقت الذي يناسبه. قبل السفير بالأمر. ولأن بيت صاحبنا كان قريبا من السفارة، فقد كرس كل جهده لقراءة كل التقارير والكثير من الجرائد والمجلات السابقة على فترة استئنافه لعمله، مما سهل عليه عمله وجعل السفير يرتاح لمردوديته وللتقارير والترجمات التي كان يُعدها، مستعينا في ذلك بقاموس عربي برتغالي كان صاحبنا قد أخذ صورة عنه في المركز الثقافي البرازيلي بشارع فيريرو ب ساو باولو والقريب من جادة باوليستا.

استمر عمل صاحبنا في سفارة دولة قطر لمدة تسعة أشهر لأن السفارة أنهت أنشطتها الديبلوماسية حينذاك كرد فعل ديبلوماسي بسبب رفض البرازيل آنذاكفتح سفارة له في قطر(فتحها البرازيل في العاصمة الدوحة بعد ذلك، أي في سنة 2005 وتم إعادة فتح السفارة القطرية  البرازيل في السنة ذاتها). استلم صاحبنا تعويضا جيدا عن فترة الخدمة في شهر أبريل من سنة 1999 وبالدولار الأمريكي، مما ساعده في القيام بأول سفر له للمغرب، وذلك في الخامس عشر من ماي من سنة 1999. بعد عودته من المغرب، عمل صاحبنا لفترة وجيزة كموظف استقبالات في فندقينبالعاصمة برازيليا تزوج من برازيلية كانت بينهما علاقة لأكثر من سنةواستمر ذلك، أي الزواج، لقرابة ثلاث سنوات ثم عمل كأستاذ للغتين: الفرنسية والإنجليزية مع حكومة ولاية العاصمة الإتحادية بعقد سنوي لينتقل بعد ذلك إلى عمله كمترجم رسمي لسفارة العراق، أشهرا قليلة قبل العدوان الأمريكي الذي شنته الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، وذلك في سنة 2003. وقد ظلت السفارة العراقية في البرازيل هي الوحيدة التي تعمل في كل القارة الأمريكية، مما كان يضطر الصحافة  الأرجنتينية، الأمريكية ومن غيرهما من بلدان تُجري مقابلات مع السفير العراقي، هذا عدا ذكر كل القنوات التلفزية والصحف والمجلات البرازيلية. وكان صاحبنا يقوم بعمله في الترجمة الكتابية والشفاهية، ليل نهار بسبب ضغط العمل جراء التهديدات والإستعدادات الأمريكيةالتي انتهت باحتلال العراق و تدميره…

ومن أهم أحداث تلك الفترة(تفاديت هنا ذكر أي أمر له علاقة بأسرار العمل، حيث كانت هناك أحداث متلاحقة وكثيرة وبعضها حساس…) فإن صاحبنا قام بترجمة شفاهية للسفير العراقي في مجلس الشيوخ البرازيلي خلال مدة ساعتين ونصف تخللتها فترة استراحة واحدة. وخلال فترة الإستراحة تلك، ذهب صاحبنا إلى أحد مراحيض مقر مجلس الشيوخ البرازيلي الباذخ فتبعه رجل كان ينتظر فرصة الإختلاء به أو بالسفير العراقي، فإذا بذلك الرجل الغريب الأطوار وعند مغسلة المرحاض يعرض على صاحبنا المترجم نقل خبرللسفير العراقي عن إمكاية تزويد العراق بأسلحة الدمار الشامل كي يدافع عن نفسه ضد عدوان يوشك أن يقع… خمن صاحبنا أن الشخص جاسوس غربي ولابد، فتركه لحاله ولم يجبه وخرج من المرحاض مُهرولا ثم سرد كل ما حدث للسفير العراقي الذي، بدوره فهم أنها وقيعة من أجل الإيقاع به وربما حتى ببلده…

رجع صاحبنا إلى قاعة مجلس الشيوخ لكي يُكمل عمله في الترجمة، فإذا بالسفير العراقي يصل إلى هذه الفقرة لكي يُترجمها له صاحبنا، وهي:

السفير العراقي: إن العراق بلد حر، مثل البرازيل وبه أديان و مذاهب وأعراق عدة (… )والسيد الرئيس العراقي،صدام حسين تم انتخابه بنسبة تسعين بالمائة.

انتهى السفير من سرد فقرته تلك ثم جاء دور آخري الذي كنته فترجم كل الكلام ثم عوض عبارة “تسعين بالمائة” بعبارة “أغلبية ساحقة” (كي لا يضحك على السفيرأعضاء مجلس الشيوخ). فهم السفير أن المُترجم الذي كنته قد أحدث تغييرا،  التفت  السفيرباتجاه صاحبنا بنظرة عتاب وأعاد (السفير)الكلام لكي تتم ترجمته حرفيا و دون إجراء أي تغيير. فهم صاحبنا ما يريده السفير فترجم الكلام حرفيا، و”على نفسها جنت براقش”…فإذا بعضو من أعضاء مجلس الشيوخ ينزعج، يضحك ثم يوقف السفير والمترجم لكي يعرض مداخلته، قائلا فيما قال: ما هذا الهُراء، يا سعادة السفير ؟! احترم عقولنا، من فضلك… فالله نفسه، وعبر تاريخ البشرية كله، لم يحظ بنسبة تسعين بالمائة، فكيف يحصل عليها رئيسكصدامفي انتخاباتكم تلك؟!ضحك كل أعضاء مجلس الشيوخ وكل الصحفيين والصحفيات الذين كانوا بعين المكان.

عبد الرحمن بلحداد

  يُتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى