في ذكرى وفاته: نجيب محفوظ… الفيلسوف
كان باستطاعته أن يكون ضمن أبرز الفلاسفة العرب لو لم ينجدب إلى الرواية
عبد الإله إصباح
ليس غريبا الحديث عن نجيب محفوظ الفيلسوف، فهو خريج قسم الفلسفة، وكان بصدد تحضير رسالة ماجستير في أحد مواضيعها غير أنه انصرف عنها واتجه إلى الإبداع الروائي. وكان قبل التفرغ كليا لجنس الرواية قد نشر مجموعة من المقالات والدراسات الفلسفية وهو بعد في العشرينيات من عمره. وقد تناول في هذه الدراسات مجموعة من القضايا والمباحث التي شغلت الفلاسفة على مر العصور. ويمكن الوقوف على بعض انشغالاته واهتماماته من خلال عناوين بعض هذه الدراسات مثل: احتضار معتقدات وتوالد معتقدات- تطور الفلسفة إلى ماقبل سقراط- فلسفة سقراط- ماذا تعني الفلسفة- البراجمتزم والفلسفة العملية- فكرة النقد في فلسفة كانط- الله – فكرة الله في الفلسفة – نظريات العقل- اللغة. يتضح إذن من هذه العناوين أن نجيب محفوظ عاش قلقا معرفيا منذ شبابه المبكر، و هو ما دفعه إلى البحث والخوض في قضايا متشعبة تكشف عنها عناوين أبحاثه. ويمكن القول أنه كان باستطاعته أن يكون ضمن أبرز الفلاسفة العرب لو لم ينجدب إلى الرواية ويصبح علما من أعلامها الكبار على الصعيد العالمي.
غير أن هذا الانصراف إلى الرواية لم يقطع صلته بالفلسفة، بل بقي على صلة وطيدة بها من خلال
نهج في القول الروائي يستحضر القضايا الفلسفية عبر بناء شخصيات قلقة لا ترتاح إلى ما هو سائد من معتقدات دينية تكلست وأصبحت حاجزا أمام التطور المعرفي والعلمي للمجتمع.
لقد ألح نجيب محفوظ على هذا النهج في القول الروائي في المرحلة الرمزية من مساره الإبداعي، اعتقادا منه أن التوسل بالرمز يمكن أن يجنبه رقابة رجال الدين والمؤسسة الدينية، ولذلك أتاح لشخصياته التعبير عن أفكارها ومواقفها الفلسفية بقدر معتبر من الحرية، وعبر هذه الشخصيات مرر نجيب محفوظ تصوره للحقيقة التي لا تكون كذلك إلا إذا كانت علمية، إذ هي الحقيقة الوحيدة والمؤكدة في عصر العلم، عصر انفرد بانبياء جدد محتلفون تماما عن انبياء الأديان، بدءا بكوبرنيكوس الذي أزاح الأرض عن مركزية الكون مرورا بداروين الذي ابطل مركزية الإنسان ثم فرويد الذي أبطل مركزية الشعور.
وفي إطار هذه الحرية التي اتاحها نجيب محفوظ لأبطال رواياته، كان لفكرة الله نصيبا من المعالجة من زاوية نظر تتجرأ على وضعها موضع مناقشة من حيث التصور والوظيفة والجدوى. فإذا كان الله قد اوجد العالم وأوجد الإنسان، فانه ترك هذا العالم لمصيره دون أن يتدخل فيه مرة أخرى. هذا التصور لفكرة الله جعلت أحد أبطال رواية ” حكايات حارتنا “يستنتج ان الإنسان هو الصانع الوحيد لمصيره. يقول في إحدى تأملاته :” لا شك سبحانه قرر أن يتركنا لأنفسنا بلا اتصال ولا عناية” ثم يضيف ” فالإيمان بالله يقتضي الإيمان بتجاهله لعالمنا، كما يقتضي هذا الاعتماد الكلي على النفس وحدها “
هي إذن شخصيات متسائلة، وأحيانا متمردة، لا تستسيغ الأجوبة الجاهزة لرجال الدين، ومنها من لا يرضى وضعية الفقر والقهر التي يجد نفسه ضحية لها، فيسائل أسبابها الاجتماعية ويرفض مبرراتها الدينية التي تعتبر ذلك قدرا مقدرا لا فكاك منه. بطل إحدى الروايات التي اقتبس منها سيناريو فيلم ” التوت والنبوت ” يوجه سؤالا إلى امه وهو في فورة غضب من وضعية القهر التي يعانيها ” ما يجنني هو لماذا ربنا خلق الغني والفقير، لماذا لم يخلق كل الناس أغنياء، لماذا؟ لماذا؟ “
الحيرة والقلق والبحث عن معنى للوجود، ذلك هو مدار العالم الروائي لنجيب محفوظ في مرحلته الرمزية، حيرة وقلق قد تجد لها بعض الشخصيات حلولا في ابتكار نظرة جديدة للإسلام تتأسس على الارتكاز إلى اجتهاد خلاق يجعل الإسلام متصالحا مع العصر. فبطل رواية ” رحلة ابن فطومة ” يذهب في رحلة ألى أوروبا وينزل ضيفا عند إحدى الجاليات، يدور حوار بينه وبين أفراد هذه الجالية يستشف منه أنهم اهتدوا اعتمادا على اجتهادهم و على العقل إلى إسلام منفتح ومتسامح مع العادات الأوربية، جعلهم لا يجدون حرجا في الاستمتاع بالنبيذ والاستلذاذ بمذاقه. العبادة نفسها ينظر لها بمنظور جديد، وذلك عندما يصبح اللاهوت الوحيد المبرر هو لا هوت العمل، العمل بما هو الصلاة اليومية للإنسان المعاصر.
اعتقد نجيب محفوظ أنه سيكون بمنأى عن المنع والتضييق إذا التجا إلى الرواية للتعبير عن هذا القلق الفلسفي، ولكنه للأسف سرعان ما عانى من منع روايته ‘ أولاد حارتنا ” وتم تكفيره وتعرض لمحاولة الاغتيال نجا منها بأعجوبة. وذلك هو قدر أي مفكر أو فيلسوف اختار أن يفكر ضد ما هو سائد ، وأن يدعو إلى عقيدة جديدة هي عقيدة العلم والعقل، في مواجهة الجهل والخرافة