الرئيس التونسي السابق منصف المرزوقي (4): بن علي شخص ضعيف وجبان، ولا يستطيع التغلب على جبنه ليواجه الشارع
واجب كل مواطن إنهاء نظام الاستبداد عبر العصيان المدني
لوسات أنفو: حمزة الضيفي
- بعد أن كنت ناشطا في حقوق الإنسان، قررت في سنة 2001 تأسيس حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية”، ما هو العامل الرئيس الذي دفعكم إلى ذلك؟
كنت مقتنعا بضرورة وجود حزب ديمقراطي قوي يواجه النظام، بل يشكل بديلا منه. على أرض الواقع لم يكن إلا عدد قليل من مناضلي الحزب في داخل تونس عند سقوط النظام. عدت آنذاك من فرنسا، وقمنا بتجميع المناضلات والمناضلين. شاركنا في انتخابات المجلس التأسيسي في عام 2011، وتحصلنا على المرتبة الثانية، وهذا هو الذي ساقني إلى رئاسة الجمهورية.
- دعوت في عام 2006 إلى العصيان المدني ضد نظام بن علي. ألم تتخوف من ردة فعل عنيفة من النظام؟
قلت في برنامج تلفزي على قناة “الجزيرة” تم بثه من باريس، إن واجب كل مواطن إنهاء نظام الاستبداد عبر العصيان المدني، إذ إن النظام لن يرحل عبر الانتخابات، لأنها أساسا مزورة ولا تعبر عن إرادة الأمة. وأكدت في البرنامج رجوعي الوشيك إلى تونس لأنني في هذه الفترة قررت الاستقرار في فرنسا بسبب مضايقات النظام، إذ من غير الممكن المزايدة على الناس ودعوتهم إلى العصيان المدني وأنا في فرنسا. وقبل سفري بيوم، أقمت حفلا دعوت فيه أصدقائي لتوديعهم، إذ كنت أتوقع اعتقالي بعد الوصول إلى أرض الوطن.
عند وصولي إلى تونس بسلام فوجئت بوجود عدد من الصحفيين، وتوجه أحدهم إلي بسؤال: “ما رأيك في عدم تعرضك للاعتقال؟”، فأجبته قائلا: “بارك الله فيك على هذا الخبر الطيب. ما هو الجرم الذي اقترفته حتى يتم اعتقالي؟”.
عدت إلى المنزل وقد كان الناشط السياسي محمد عبو معتقلا في سجن المدينة الكاف الذي تعودت دخوله، كما كان أخي معتقلا فيه مع عدد من الأصدقاء. وقد تعمدت أن تكون زيارة محمد عبو في السجن أول نشاط أقوم به.
رافقني إلى السجن كل من الصحفي سليم بوخدير وسامية عبو زوجة محمد عبو، إضافة إلى سمير بن عمر الذي كان يقود بنا السيارة. أوقفتنا الشرطة في الطريق مرات عديدة، وفي المرة الأخيرة أخبرونا أن السيارة تحت طائلة الحجز، فقررنا أن ننتقل إلى الكاف مشيا حتى نصل إلى السجن. اجتزنا حوالي 6 كلم، والشرطة تتبع خطواتنا. وعندما اكتشفوا أننا مصممين على الزيارة أطلقوا سراح السيارة. أكملنا الرحلة، لكن عند وصولنا للسجن تفاجأنا بعصابة من “بلطجية”، وكأن النظام أراد أن يظهر لعامة الناس أن سكان المدينة انتفضوا ضد “الخونة”. عندما بدأ الضرب صعدنا سريعا إلى السيارة، لكنهم لحقوا بنا، وحاولوا قلب السيارة. كدنا نموت لولا تدخل الشرطة التي أعطت إشارة التوقف للبلطجية.
- ماهي الظروف التي سبقت اندلاع الثورة؟
أهم حدث هو احتجاجات الحوض المنجمي سنة 2008 التي استمرت ستة أشهر، وكنت من داعمي هذه الاحتجاجات وقد ساهمت في تنظيم وقفات في باريس تضامنا مع الحراك. كنا نجتمع ونتظاهر في منطقة محطة كورون.
- انطلقت شرارة ثورة الياسمين من مدينة سيدي بوزيد، بعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه. هل كنت تتوقع انهيار نظام بن علي على خلفية هذا الحادث؟
لم أكن أتوقع أن حادث استشهاد البوعزيزي سيكون نهاية نظام بن علي الذي دام أكثر من ثلاث وعشرين سنة، لسبب بسيط يتمثل في أن مثل حادث البوعزيزي سبق أن تكرر عدة مرات، من دون أن يثور الشعب.
وأنا في منفاي الباريسي عصر قلبي لما علمت بموت البوعزيزي محروقا، وبحكم ممارستي الطب أعرف مقدار الألم الفظيع الناتج عن الحروق البليغة. قلت آنذاك في سريرة نفسي: مع كل ذلك سيواصل نظام البوليس اللعين حكم تونس وقمع شعبها، لكن الأحداث المتتالية باغتت النظام وكشفت عن هشاشته. وأكدت الثورة التونسية الفكرة القائلة إن غضب الشعوب لا يقاس.
- في 14ٍ يناير 2011 فر بن علي إلى السعودية. هل كنت تتوقع هروبه؟
بن علي شخص ضعيف وجبان، فمن الطبيعي أن يستسلم لخوفه، ولا يستطيع التغلب على جبنه ليواجه الشارع، ولذلك كنت متأكدا من الوهلة الأولى أنه عندما فر إلى السعودية لن يعود إلى البلاد بعد مغادرتها.
- عند هروب بن علي هل كنت لا تزال في فرنسا؟
نعم كنت في تلك اللحظة في باريس بالمستشفى وأتابع التطورات. قمت بتسجيل شريط مصور لبثه على “يوتيوب” في 13 يناير بمساعدة زوجتي في أحد مستشفيات باريس مباشرة بعد أن أجريت عملية جراحية. أخبرتني زوجتي حينذاك بخطاب بن علي إلى الشعب التونسي، فاقترحت عليها أن تقوم بتصويري لأحذر الشعب من كذب الرجل وعدم مصداقية كلامه، كما حثثتهم على مواصلة الثورة حتى سقوطه. حاولت زوجتي في أثناء تصوير الشرطة إخفاء وجودي في المستشفى، إذ كنت أرتدي لباس النوم، كما أن آلة التنفس كانت خلفي. لا زلت أعود إلى ذلك الشريط ولا أتمالك نفسي من كثرة الضحك.
بعدها عدت إلى تونس في 18 يناير 2011 واستقبلت بترحاب كبير في مطار قرطاج، وحملت على الأكتاف وسط تجمع كبير من المناضلين الحقوقيين وكنت أتخوف من تمزق الجرح لأنني لم أتعاف بعد.
- هل كان بينك وبين حركة النهضة أي تنسيق على ترتيبات المرحلة الانتقالية؟
لم يكن بيننا أي ترتيبات. كما قلت لك عدت إلى تونس في 18 يناير بينما حطت الطائرة التي أقلت راشد الغنوشي الذي كان في المنفى في 30 من الشهر نفسه. زرت الغنوشي لأهنئه بالسلامة، ومنذ تلك اللحظة لم ألتقه إلا بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، أي لم نلتق مدة تزيد على ثمانية أشهر.
أجريت انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011. ولما أعلنت النتائج كانت المفاجأة: فوز حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أترأسه بالمرتبة الثانية بعد حركة النهضة. وبحكم طبيعة النتائج انطلقت المشاورات مع النهضة، وكان من بين ما نتج عنها توافق الترويكا. وللإشارة فإن جزء من حركة النهضة كان يرفض أن أكون رئيسا للجمهورية، حمادي الجبالي مثلا اعترض على اسمي. إذ كانت المراهنة أكثر على مصطفى جعفر.
- لماذا رفضوا رئاستك للجمهورية؟
أرادت النهضة أن تؤسس نظاما برلمانيا للسيطرة على مفاصل السلطة، بالإضافة إلى التحكم بشخص الرئيس بعد الاستيلاء على مفاصل سلطاته، وهو ما لا يمكن أن أقبل به. لطفي زيتون مثلا، وهو قيادي بارز في حركة النهضة صرح بأنه مع خيار ترؤس الباجي قايد السبسي الجمهورية.
وبعد المشاورات اتفقنا على أغلب النقاط، ومنها أن رئاسة الحكومة ستؤول إلى النهضة بينما أنا سأتولى رئاسة الجمهورية. لكني تفاجأت فيما بعد بمضمون المسودة التي جاءت بها النهضة، والتي خصت أغلب الصلاحيات المهمة برئيس الحكومة، وكأن رئيس الجمهورية مجرد رمز لا دور سياسيا له. اتصلت آنذاك بمدير مكتبي وأخبرته بإيقاف المشاورات مع النهضة وإعلان انسحابي من الترشح لرئاسة الجمهورية.
ولم أتراجع عن هذا القرار إلى بعد إحقاق نوع من التوازن في السلطات بين رئيسي الجمهورية والحكومة. باختصار شديد، العلاقة مع النهضة لم تكن سلسلة كما يظن أغلب الناس، وهو ما تأكد مع حكومة الجبالي الذي لم أكن على وفاق معه.