يوميات مغربي في البرازيل (5)
قال لي صاحب الفندق "الأديان، يا ابني، صنع بشري، فلا تأخذ أيا منها على محمل الجد"
عبد الرحمن بلحداد (كاتب مغربي مقيم في لشبونة)
” وبلادنا في ليلها الدموي جوهرة تُشع على البعيد، على البعيد
تُضيء خارجها
وأما نحن، داخلها
فنزداد اختناقًا”. الشاعر محمود درويش.
” إنني لا أحب أن أتنكر لعمل بعد القيام به، بل أفضل أن أفصل مبدئيا النهايات السيئة والنائج عن مسألة القيمة (….) بل إن عملا قد أخطأ الهدف يبدو لي جديرا بالتقدير، بالذات لأنه أخطأ الهدف؛ إن هذا للما يوافق قيمي الأخلاقية أكثر”. نيتشه. ص 37من كتابه ” هذا هو الإنسان”، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، الطبعة الثانية.
إن صاحبنا، والذي كان عالمه الفكري والقيمي والحياتي، ومنذ سنة 1987 و إلى غاية 1995، عالما أبعد ما يكون عن كل إيمان ديني،أقول إن آخري ذاك قد وصل للبرازيل بإيمان مسيحي استقدمه معه من المغرب. ذلك أنه ظل مؤمنا بالمسيحية في صيغتها الإنجيلية فيما بين سنتي 1995 و 2002، خصوصا بعد تجربة فقدان أبيه و ظروف فقر مدقع، بعد ذلك، وسط أسرة بها عدد كبير من الإخوة والأخوات… يُضاف إلى هذا أن السياق الإجتماعي المغربي، بتزمته الديني وانغلاقه أفقه سياسيا واقتصاديا، كل ذلك ساهم بأن جعل صاحبنا يؤمن بالمسيحية في صيغتها الإنجيلية، و ذلك بعد تعمق ودراسة في كتب شتى، لكن جلها كان بلون إيديولوجي، عقدي استلابي واحد…ولم يكن صاحبنا لينكر أنه وجد في تلك التجربة الروحية مبتغاه وظنها من قبل نابعة من مصدر إلهي لا شك فيه، خصوصا بعد حالات مما يشبه تنويما مغناطيسيا قام به، على وجه الخصوص وليس حصرا، قس ـ ساحر مصري رهيب استقدمته الكنيسة المغربية للمغرب وكان ذلك القس من سحرة فرعون، أو هكذا يُخيل لمن التقوه وكانوا مُهيئين نفسيا لتصديق دعاويه… ذلك أنه، أي القس المصري، كان يصلي لأجلنا، كمغاربة، صلاة روحية عميقة وما سبق ذلك من أناشيد دينيةغاية في الروعة، متحدثا بما يُوهم الإنجيل مؤمنيه به و يتوهمه كل مسيحي أنها لغات الملائكة، وكانت في حالتنا منطوقة بلسان قس، تعلمناها بعد ذلك منه ومن غيره وهي الوهم والتضليل الذين أدخلهما الرسول بولس إلى المسيحية… وتمر على صاحبنا بضع سنوات في البرازيل ليكتشف أن إيمانه كله و كتابه المقدس لم يكن سوى توهمات وخزعبلات يصدقها كل من كان مهيئا نفسيا وقبلا للتصديق… و رغم كل شيء، فإني لا أزال أتفق مع صاحبنا أن المرور من تجارب فكرية ودينية وغيرهما لهو أفضل بكثير من الركون لكل موروث وكل ما هو مُتاح وجاهز سلفا… وكيف لصاحبنا أن يتحسر على تجربة روحية مثل تلك وقد منحته فرصة لكي يقرأ مرات كثيرة، بل ويدرس كل أسفار الكتاب المقدس، حرفا حرفا ومن سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، مستوعبا لنسق ديني مهم (لم ينشأ عليه)من داخله هو كنسق وبعيدا عن القراءة الخارجية التعسفية، المُغرضة والموروثةمن ثقافتنا الإسلامية في تأولها للنسق الديني المسيحي وغيره، أي فهم الأخير انطلاقا من أفكار دين آخر، ينافسه ويُقدم نفسه على أساس أنه يتجاوزه…!
أتذكر أن صاحبنا، خلال أشهره الأولى تلك، كان يشعر بالكثير من الحنين لتجربة النضال الجامعي مثلما أنه شعر بالكثير من الحنين لأناشيد روحية مسيحية كان يرددها مع مغاربة(من خلفية إسلامية ثم اعتنقوا المسيحية) وأجانب، مسيحيين جلهم كان يقطن بـ المغرب، و ذلك سنيتن قبل مغادرة صاحبنا لبلده سنة 1997… وكان صاحبنا كلما شعر أن البرازيل بلغته وثقافته سيبتلعه ابتلاعا وأنه قد ينسى لغته ولهجته وماضيه، ردد في داخله أو بصوت يصل إلى أذنيه، شعارات جاميعة كان يرفعها مع رفاقه داخل أسوار الجامعة بجامعة القاضي عياض بمراكش، تُرافقها أناشيد مسيحية جميلة، هي الأخرى، مما كان يسبب معارك فكرية تكاد تتحول إلى عراك بالأيدي بين يسوع المسيح و كارل ماركس(الشاعر الذي كانه صاحبنا في المغرب لم يكن متعصبا لماركس وللماركسية قط)، مما كان يضطر آخري، غير ما مرة، لفض النزاع بين قادمين من عالمين مختلفين ومن حقب تاريخية جد متفاوتة كي ينخرط صاحبنا في حروبهما و بدلا عنهما… إذ كان كل منهما، أي ماركس والمسيح، يحاول السيطرة على مساحة أكبر بجغرافيا قلب وعقل صاحبنا. وقد حدا هذا الأمر بصاحبنا إلى أن يرسل ماركس والمسيح إلى العدم كي يحيا الإنسان داخل آخري ذاك… ولم يكن صاحبنا ليتمكن من ذلك إلا بصفة تدريجية، خاصة وأنه أخذ معه كتبا وأشرطة تدعم طرفي النزاع… وكان من يطلق عليه المسيحيون ب يسوعالمسيح ساكنا بقلب وفكر صاحبنا، مراقبا له هو والآب والروح القدس، أي ذلك الإله – الثلاثة في الواحد الأحد، والذي كان يتجسس على آخري منسماواته العلىهو كإله، بل كان يُحصي على صاحبنا أنفاسه ويحركه كدُمية، ما عدا خلال ساعات يومية كانتتحضر بداخل صاحبنا أفكار قرأهاو أخرى استشفها، شعرا أو نثرا، وهي لـ سلامة موسى، لـ نيتشه، لـ طه حسين، لـمحمد عابد الجابري، لـ ماركس، لـ محمود درويش، لـ صادق جلال العظم، لـ نزار قباني، للـروائيالسوري حيدر حيدر ، للكاتبةالمصرية نوال السعداوي، للكاتبالمصري فرج فودة وآخرون… وكان ذلك وغيره مما ساعد صاحبنا على طرد تٌرهاته المقدسة الوديعة تلك، فصار مستمتعا بالنظر لكل ما ومن هو جميل، ومنه جميلات بلد متحرر و مرح، وصل إليه صاحبنا لتوه بعطش سنين من الكبث الجنسي، تُرافقه أعطاب نفسية جرها صاحبنا معه، قهرا لا اختيارا، من ماضيه التعيسفي بلد يؤجل فيه شعبه الإستمتاع بالحياة وملذاتها إلى ما بعد ولوج العدم….
استمر صاحبنا في عمله كنادل بفندق نعومي بلازا بميدنة كامبيناس، التابعة لولاية ساو باولو لمدة ستة أشهر وكان كل عمال الفندق وحتى رب العمل يطلقون على صاحبنا اسم عبدو…و انتقل صاحبنا عبدوخلال الأشهر الثلاث الأخيرة منها إلى نظام الدوام الليلي، مفضلا هذا الأمر كي يستطيع (صاحبنا)ممارسة عمله بشكل طبيعي وحتى يتعلم اللغة البرتغالية، بعيدا عن قرقعة الصحون وضجيج العمال وطلبات كثيرة آتية من الزبائن خلال ساعات النهار وقلة خبرة صاحبنا بسبب قيامه بعمل لم يقم به من قبل قبل ذهابه للبرازيل…. وكان صاحب الفندق، أي السيد حبيب رجلا سوريا من خلفية مسيحية، في حوالي السبعين من عمره. وكان شبه “مدمن” على ممارسة الرياضة، و خصوصا لعبة التنس، بينما أن ابن أخته، أي رجل الأعمال أديب حنا في حوالي السادس والخمسين من عمره ف ذلك الوقت، وكان رجلا يحب قراءة الكتب، مهتما بالأدب الفرنسي ويتحدث بلغات عدة، منها اللغة الروسية…
ويتذكر صاحبنا أن السيد حبيب(ويدعوه كل عمال الفندق ب: حبيبي)، أي صاحب الفندق بمدينة كامبيناس بولاية سو باولو، كان جالسا بمطعم فندقه، والذي يومذاك كان ممتلئا عن آخره بأغنياء المدينة و نزلاء الفندق وكان صاحب الفندق مُحاطا بأصدقائه العرب، مستمتعين بألوان من العزف لفريق موسيقي عربي مع رقص عربي يرافقه… وكان على المائدة التي بها صاحب الفندق كل أنواع الطعام والخمرو مشروبات أخرى، فأوحت قنينة خمر لصاحب الفندق أن يدعو آخري محدثا إياه، جرى بينهما هذا الحوار في المكان عينه، وبعد استراحة الفريق الموسيقي:
هو، أي السيد حبيبي: أهلا عبدو! زميلتك المغربية (فلانة) عزباء ثم مغربية مثلك وأرى أن كلا منكما يُناسب الآخر، فإذا وافقت على الزواج منها، بعد أن توافق هي، فإنني سأتكلف بكل تكاليف الزواج.
صاحبنا (آخري الذي كنته): أنا مسيحي وهي مسلمة ولا أريد الزواج إلا من مسيحية(حقيقة، قصد بها الآخر الذي كنتهما يلي: لا أرغب إلا في جميلات الفندق من زميلات و جميلات مدينة ساو باولو…).
صاحب الفندق: ما هذا الكلام، يا ابني؟!! لقد قطعوا جلدة من عضوك الذكري ذاك، وإذن فأنت مسلم مثلها.
صاحبنا (آخري): هههه… السيد حبيبي! أنت تعلم أنني لم أكن من قرر قطع تلك الجلدة ولا أنها تعكس ما في الرأس من أفكار.
صديق، لصاحب الفندق: أنا من خلفية مسيحية، يا ابني، و كل كلام المسيح هُراء في هُراء، ما عدا قوله المتكرر ذاك: ” من له أذنان للسمع، فليسمع”.الأديان، يا ابني، هي صنع بشري، فلا تأخذ أيا منها على محمل الجد.
وكان آخري يعلم أن الحب لا دين له سوى دينه هو كحب، لكنه رفض عرض الزواج ذاك لأنه لم يتم عبر علاقة حب، يليها ما يليها من قُبلات ولمسات والتلذذ بسمكة، بعُقد نفسية أقل، تُنعش قلبه وهي في البحروقبل ان تعلق بشباك صياد ماهر. وقد يلي تلك القبل واللمسات أو لا يليها اتفاق على علاقة وارتباط ما….لكن ما العيب أن يفكر صاحبنا مثل ومع محمود درويش في معرض حديثه عن أمه وبلسانها؟ إذ يقول هذا الأخيرعنها:
” تقول لي مثلاً:
تزوّج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحيّ
لكن، لا تصدّق أيّة امرأة سواي”.
ولأنه لم يكن بحوزة صاحبنا، أي آخري الذي كنته، وثيقة الإقامة البرازيلية، فإنه لم يكن لديه حساب مصرفي في بلد، أي بـبرازيل من الصعب أن تجد واحدا أو واحدة منهم يُخرج أو تُخرج ورقة مالية من جيوبهما في الشارع إلا إذا كانت من فئة عشر ريالات فما أقل، أي ما يقابل عشر دولارات، بحسب سعر الصرف في ذلك الحين والذي كان فيه سعر الريال بنفس قيمة سعر الدولار. فكيف الحال بصاحبنا الذي ما إن يفتح فمه لكي ينطق كلمة باللغة البرتغالية حتى يفهم لص ما أنه أجنبي، مما يعني أنه فريسة من السهل الإنقضاض عليها، فإن صرخت طلبا للنجدة، لم يفهم الناس ما تقوله الضحية !… استلم صاحبنا راتب شهره الأول من عمله، أي حوالي 560 ريال برازيلي عبر شيك مصرفي منحه له قسم الموارد البشرية بالفندق الذي كانيعمل به، وكانت كل ورقة مالية أو أغلبها، مما منحه البنك المستلم للشيك،هي من فئة خمسين ريال. فكر صاحبنا لتوه أن يستأجر شقة لوحده، وجدها ، بعد بضعة أيام من البحث بشارع كورونيل كيرينو، الموجود بحي كامبوي، كأشهر حي بمدينة كامبيناس. وكان سعر الشقة هو 220 ريال برازيلي. ابتهج قلب صاحبنا أيما ابتهاج أنه، ولأول مرة في حياته، سيكون له سكن لوحده، أي برتوش لوحده ولشاب في عمره…، ينام فيه مثلما ولدته أمه وقد يذهب من سريره إلى المطبخ أو إلى الحمام دون أن يراه أحد من أهله وجيرانه في المغرب، ثم قد يأتي بسمكة يأكلها وتأكله في سرير يسع سبعين من الحور العين في جنة البرازيل، اشتراه صاحبنامع بعض أغراض البيت الأساسية، مثلما اشترى جهازا كبيرا كمسلجة موسيقى و راديو في ذات الآن كي يستمتع بما استقدمه وما اشتراه في البرازيل من أشرطة وأقراص موسيقية لـلسيدةفيروز، لـ مارسيلخليفة لـ الشيخ إمام، لـ محمد عبده و لـ وديع الصافي.
ما إن وصل صاحبنا للبرازيل، و خصوصا ما إن وجد أول فرصة عمل له، حتى أحدث له بدعة، لم يعهدها في المغرب، بأن صار ينتقل من حانة إلى أخرى من حانات مدينة كامبيناس خلال يومي عطلته الأسبوعية. وفي يوم من الأيام، ذهب صاحبنا إلى الحانة الأولى، فاستمتع فيها بمحادثة الناس وحديثهم فيما بينهم، ملتقطا جُملا برتغالية من هنا وأخرى من هناك، ثم مُستمتعا بأغاني لمغنيي الحانات …بعد ذلك، ذهب صاحبنا إلى حانات أخرى، وانتهى به الأمر إلى أنه نسي عنوان بيته مثلما نسي اسم الحي الذي يسكن به… حاول رواد وعمالالحانة مساعدته، لكن دون جدوى، رغم أنه وصف لهم المكان بلغة برتغالية ركيكة. علم بأمرصاحبنا كل النُدل وكل العاملين بالبار مثلما علم بأمره كل زبناء الحانة، فصاروا جميعا يضحكون أن صاحبنا يطلب منهم إرجاعه إلى بيت لا يعرف هو أين يوجد ولا اأنه تذكر اسم الحي أو اسم الشارع… تذكر صاحبنا، لتوه، المثل المغربي (اللي تلف يشد لرض)، فقرر، ترك زبناء البار لحالهم ولمواضيعهم وشؤونهم الخاصة، وانزوى في المكان الخلفي للبار، بعيدا عن ضجيج الناس، ثم شرع يكتب قصيدة، كانت هي هذه القصيدة:
وحيد، انت يا انا، في البرازيل
و تدري انك فيه
تبحث عن آخرك
وعن وطن بديل
يحملك الليل بيد من جعة
يرميك إلى حانة العتمة
وهذي السرفيجا* تؤانسك
وتابى ان تناى عنك
وتدري: فيها الموت وهي الحياة
ليتك، يا خمرتي، تحملين الي اخبارا
عن امي الحزينة
عن بلدي الحبيب
وعن أصدقائي الأعزاء.
* السرفيجا(كلمة برتغالية معناها )= البيرة
ما إن انتهى صاحبنا من كتابة قصيدته هذه وشرب آخر زجاجة خمر حتى أوحى إليه إله ما من الزجاجة باسم الشارع و اسم الحي الذي يسكن بهما، فوصل إلى بيته غانما سالما.
وكان عمل صاحبنا بعد اختياره لنظام الدوام الليلي يُدر عليه علاوات، غالبها كان يتم بالدولار الأمريكي أو بالمارك الألماني من طرف زبناء أجانب من ألمانيا، من الولايات المتحدة الأمريكية، من كندا، ومن الأرجنتين على وجه الخصوص… عمل صاحبنا بالفندق بمدينة كامبيناس لمدة ستة أشهر،فترك عمله بعد حوادث شغل متكررة أنهكته واستلم بعدها شيكا بمبلغ 1230 ريال برازيلي، أي حوالي المبلغ ذاته بعملة الدولار الأمريكي، كتعويض عن فترة الخدمة رغم أنه كان مجرد مهاجر غير شرعي، ثم رجع إلى مدينة ساو باولو ثانية…
استأجر صاحبنا غرفة بناسيون مجاور للبانسيون الذي كان يسكن به قبل ذهابه إلى مدينة كامبيناس، حيث إن البانسيون قريب من جادة باوليستا، وبينما كان يمر من هذه الجادة في تلك الأيام، أي في حوالي شهره التاسع في البرازيل، أي في شهر أبريل من سنة 1998،حتى تعرف على مغاربةيسكنون بحي سانتو أمارو بمدينةساو بولو ذاتها، وهو حي كبير من حجم مدينة صغيرة، بل يعتبر كذلك. وحينما ذهب صاحبنا إلى ذلك الحي والتقى بحوالي ست مغاربة منهم، وجد أحدهم يبكي، وهو من مدينة مكناس، إذ رفض المغاربة الآخرون منحه حقيبتيه و طردونه من البيت، متهمين إياه بسرقة أغراضهم وأموال واحد منهم. توسط صاحبنافرجعت للمغربي الذي كان يبكي أغراضه و دعاه صاحبنا لكي يسكن معه بغرفته بالبانسيون. خلال الليلة الأولى التي نام فيها المغربي المكناسي بغرفة صاحبنا كان هذا الأخير خائفا من أن يُسرق ماله، أي كل التعويض الذي منحه إياه الفندق الذي كان يعمل به عن فترة الخدمة، خاصة بعد اتهام المغاربة للمغربي المكناسي، وهو يعرفهم ويعرفونه، لكن يظهر أن صاحبنا فكر مع الفيلسوف نيتشه، إذ وصف هذا الأخير الشخص ذي التكوينة الجيدة بأنه ذلك الذي يُحول الصُدف الكريهة لصالحه…وهذا ما حدث بالفعل، ذلك أن صاحبنا ما إن استيقظ من نومه هو والمكناسي حتى أخبر هذا الأخير آخري الذي كنته بوجود فرصتي عمل في سفارتين عربيتينفي العاصمة برازيليا لمن لديه شهادة جامعية ويتحدث اللغة العربية واللغة البرتغالية. و كان هذا المغربي الذي أخبر صاحبنا بهذا الأمر يسكن في مدينة برازيليا، مما سهل على صاحبنا الذهاب إلى برازيليا ومشاركة مغربي آخر من مدينة الرباط، صديق للمكناسي، دفع نفقات إيجار بيت المغربي الرباطي وتكاليف أخرى ثم السكن هناك لمدة شهر إلى أن استأجر صاحبنا شقة له بعد ذلك…
في برازيليا، أي في العاصمة والتي سيقطن بها آخري لمدة خمس عشرة سنة بعد ذلك، ظل صاحبنا في أول سفره إليها لقرابة ثلاثة أشهر وهو يطرق أبواب السفارات العربية، كأمل وحل وحيدين لمن لا يملك وثيقة الإقامة البرازيلية وحتى لغته البرتغالية كانت بحاجة لسنوات أخرى من التحسن من أجل تحصيل وظيفة ما تناسبه… وبعد أن فقد صاحبنا الأمل وكان ما لديه من نقود يوشك أن ينقضي، نصحته موظفة مغربية بالسفارة المغربية في مقهى جلس فيه وإياها، بأن يذهب للسفير المغربي ويطلب تزكيته لكي يعمل في سفارة قطر. وألحت الموظفة على صاحبنا بألا يخبر السفير المغربي (رحل إلى الهناك، سلام ورحمة لروحه)أو غيره بهذا الأمر، وهذا ما كان….
وصل صاحبنا إلى السفارة المغربية حوالي العاشرة صباحا، واستقبله السفير المغربي، ليجري بينه وبين السفير هذا الحوار:
السفير المغربي: اجلس ثم قل لي لماذا أتيت إلي؟(بغض النظر عن أي شيء، لأسباب عدة، أستطيع القول مع غيري من مغاربة البرازيل إنه كان سفيرا متعاطفا، خدوما وجد متعاون مع الجالية المغربية في البرازيل أكثر من أي سفير، و ذلك خلال الثماني سوات التي قضاها هناك في عمله).
صاحبنا: هذه، يا سعادة السفير، صورة من شهادة الإجازة الجامعية، وأوشكت سفارة قطر أن تمنحني وظيفة، لكنها ألحت على ضرورة حصولي على بطاقة إقامة برازيلية، علما أنني أحد ثلاثة من إخوة ببيتنا في المغرب، خريجو الجامعة وليست هناك فرص عمل في المغرب، فقررت عدم مزاحمة غيري من المغاربة هناك، من خريجي الجامعات في فرص عمل قليلة لأعداد كبيرة من العاطلين عن العمل.
بدا لي، حينها، أن كلامي كان بحسب ما يريد أن يسمعه السفير وأن هذا الأخير ارتاح له ولي، فإذا به، أي السفير، يمسك ا سماعة الهاتف ويتصل على السفير القطري، وهو يقول له: كيف حالك، سعادة السفير…؟ لي طلب ولا أريد منك أن ترده، ذلك أن مغربيا رشح نفسه للعمل بسفارتكم فأرجو منك منحه تلك الوظيفة الشاغرة، كسكرتيرإداري ومسؤول عن العلاقات العامة بالسفارة…
و هذا ما تم وكان… حيث حصل صاحبنا، أي حصلت على الوظيفة الإدارية التي تناسبني في اليوم التالي من اللقاء مع السفير المغربي، براتب جيد ومدفوع بالدولار الأمريكي ولم يكن لدي في البرازيل سوى ثلاثة عشرشهرا….
عبد الرحمن بلحداد
يتبع