نيتشه في ذكراه
لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء
في سبتمبر 2001، أصدرت مجلة إبداع عددا خاصا حول نيتشه في الذكرى المئوية لوفاته، واليوم نخلد الذكرى 123 لرحيل الفيلسوف الألماني، لذلك اخترنا لكم إحدى المقالات التي وردت في العدد 9 من مجلة إبداع لصاحبها السيد نفادي، والتي نشرت بعنوان “أوراق فلسفية عدد خاص في الذكرى المئوية الأولى لوفاة الفيلسوف الكبير فريدريش نيتشه”:
.. ذلك الفيلسوف العملاق الى ولد في «ريكن» وهي مقاطعة بروسية بالمـانيـا، في الخامس عـشـر من أكتوبر عام ١٨٤٤، وكان أبوه لدفيج نيتشه قسا بروتستانتيا وابن قس برواتستانتی، كما كانت أمه أيضا ابنة قس بروتستانتي. ومن ثم فـقـد نشأ نيتشه نشأة دينية، وعرف منذ صغره بتدينه وتقواه، ويروى عنه أنه كـان قـادرا وهو في السـادسـة من عمره على أن ينشد آيات من الإنجيل وتراتيل دينية بطريقة تكاد تثير البكاء الأمر الذي جعل أصحابه يلقبونه بـ « القس الصغير».
وفي عام 1858 التحق نيتشه بمدرسة «بفورتا»، وعلى مدى ستة أعـوام خـضـع فـيـهـا لـتـقـاليـد هذه المـدرسـة ونظامـهـا الـصـارم الذي خضع له من قبله نوفاليس وفيتشه ورنكه وشليجل، حصل في نهايتها على تقدير جيد في اللاهوت والأدب الألماني والكلاسيكي بينما حصل على تقدير «ضعيف في الرياضيات والرسم.
وكان نيتشه معجبا أشد الإعـجـاب بالشـاعـر الألماني الشهير فردریش هیلدرین. ولاسيما بمسرحيته (إمبادوقليس) التي تمجد الإنسان بوصفه مقدسا وتتغنى بالحياة على الأرض. وفي العام ١٨٦٤ التحق نيتشه بجامعة «يون» ودرس اللاهوت وفقه اللغة الكلاسيكي في البداية، ولكنه في عام 1865 انصرف عن دراسة اللاهوت ولحق بأسـتـاذه الـمـفـضل في جـامـعـة اليـبـتـسـج). وقبل أن يحصل على درجـة الدكـتـوراه عرضت عليه وظيفة أستاذ بجامعة مدی «بازل»، فأصبح أستاذا لفقه اللغة وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وظل يدرس في هذه الجـامـعـة على تسعة أعوام، منذ 1869 حتى عام ١٨٧٩ حينما اعتزل التدريس بسبب مرضه وضعف صحته، حيث أنه في سنة ١٨٧٦ ظهـرت عليـه أعراض مرض «الزهرى الوراثي» كما أنه سبق أن أصيب عام ١٨٧٠ بمرضى «الدوسنتاريا» و« الدفترياء وبعد اعتزاله التدريس ظل مـتنقـلاً بین نروما وجنوا ونيس وسيل ماريا يعمل الفكر ويكتب مـصـارعا علتـه عشر سنوات فـلا هـو يبـرأ منهـا فيحيا ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت، إلى أن جابته سنة 1889 مـقـدمـة للجنون فـتـواري سنة ١٩٠٠ بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة وإرادته الوثابة الجبارة.
أما عن فلسفة نيتشه فيمكن اختصارها في عبارتين له، يقول في الأولى منهـمـا: «إنني أحب الـحـيـاة وحـدهـا حـبا عـمـيـقا، ويقـول في الثـانيـة: «أناشدكم يا إخواني أن تظلوا أوفياء للأرض»، ومن ثم فقد رأی نتشه أن الميتافيزيقا تقف عائقا في سبيل «الحياة». ومن هنا حاول نيتـشـه أن يسـتـأصـل كل مفاهيم الميتافيزيقا: العقل والوجود والذات والـجـوهـر والعليـة والـغـائيـة والثنائية التي تميز بين عالم حقيقي وعالم ظاهري، ويؤكد نيتشه أن مـفـهـوم الميتافيزيقا عن «العقل» ونظرتهـا التي تمـيـز بين «عـالـم حقیقی» و«عالم ظاهری» صنمان من أصنام الفلسفة التي يجب أن تنتهى تماما، وهو ما عبر عنه في كتابه (أفـول الأصنام)، في مـقـدمـة هذا الكتـاب لا يتكلم عن مـفـاهـيم الميتافيزيقا ومشاكلها، كما درج على ذلك الفلاسفة الذين سبقوه ، وإنما يستهل مـقـدمـتـه بالكلام عن «البـهـجـة»، ولا يتكلم عن إعـادة تأسيس الميتافيزيقا، بل يتكلم عن إعادة تقييم كل القيم التي ستحقق في رأيه بهجة الحياة.
ولقد رأی نیتشه عدوه الرئيسي في روح الـجـدية التي تبـدو في الأخلاق أو في العلم و في غيرهما من مـجـالات، ولكن الانتصار على الجدية لا يعني رفضها لصالح نزوة عـابرة بل يعني أن نتـجـاوز هذه الجدية إلى التحليق الحقيقي الذي يكون انتصاره رقصا حـرا، ولاشك أن يطل نيتشه على الميتافيزيقا من نافذة الأخلاق، ويستهدف من نقدها تأسيس اخلاق جديدة لا ميتافيزيقا جديدة وبهذا الموقف يختلف نيتشه تمـاما عن كانط الذي ينتـقـد الميتافيزيقا التقليدية من أجل ذلك فيربط برباط وثيق بين «الحكمـة والحياة»، ويؤكد في حوار يدور بين الحكمـة والـحـيـاة أنه يحب الحكمة لأنها تذكره بالحياة. ومن ثم قد راح يبحث في قيمة الحياة الإنسانية وكيفية تبريرها على النحـو الذي يدفع الإنسـان إلى الإقبال عليها والإبداع فيها من أجل إثرائها وتنميتها والعلو بها. وراح عن يؤكد قيما جديدة ومختلفة تماما عن قيمنا التي ألفناها، وأعتقد أن هذه القيم الجديدة تحقق الحياة القوية الثرية التي ينشدها، وتخلق الإنسان الأعلى الذي يصبو إليه.
ويذهب نيتشه إلى أن الفلسفة في حقيقتها ليست تعبيرا عن موقف ابـسـتـمـولوچي من الوجـود، بل هي اصلا تعبير عن موقف أخـلاقي. ولعل ذلك هو الذي جعله يقـول: «إن طلب المعرفة لذاتها، هي الشرك الأخـيـر الذي تنصـبـه الأخـلاق للإنسان». ولقد حاول نيتشه تعرية القيم الأخـلاقـيـة التي أمن بهـا الإنسان منذ مئات السنين، وكشف الزيف، الذي تنطوى عليـه فـمـا الحب الذي بشرت به المسيحية في رایه، سوى تعبير عن الحـقـد الكهنوتي الدفين، وما الإيثار الذي دعت إليـه إلا أنانيـة مـسـتـتـرة. أما الدافع الحقيقي الوحيد الذي يكمن وراء كل سلوك إنساني فهو إرادة القوة..