فن

Taste of cherry: الألم…الحالة الأكثر فردانية في الوجود

زكرياء ديناوي:

في تحفة “عباس كياروستامي” يتحول بطل الفيلم إلى شخصية ثانوية، وتسرد كل الحكايات من الشخصيات التي يلتقيها في الطريق. يبحث «بادي» متجولا في سيارته، عمن يقوم بدفنه بعد انتحاره، لتتضح حبكة الفيلم في أول الدقائق لكنها تعود مبهمة تدريجيا مع مرور الدقائق.

في «The Fire within» يزور “آلان” أصدقائه، بحثا عن شرارة معنى أو بصيص أمل، أما في طعم الكرز فهي جولة السيارة الأخيرة، للتسامح مع الموت، والتماس الأعذار في الاستمرار.

لا نعرف أي تفاصيل عن «بادي»، غير انه عاش أفضل سنوات حياته أثناء فترة خدمته العسكرية، والفكرة التي يعرفها المشاهد من دقائق الفيلم، انه وحيد يعيش في شقة صغيرة، وحزين لدرجة الرغبة بالموت.

تمر جولة «بادي» بثلاث شخصيات من تلات فترات عمرية مختلفة:

الشاب الصغير في بداية الرحلة، يشعر بادي بالحنين إلى أجمل فترات حياته في الخدمة العسكرية، تذكار للحنين ولنعومة الشباب، تذكير بكل رغبات العيش والحيوية التي عاشها. فهو يقلد أصوات العد للجنود في الثكنات، ويستحضر كل هاته الرغبات الضائعة. لا ينجح بإقناع الشاب ويخاطبه” انت كردستاني، يجب ان تكون شجاعا، انت من الشعب الذي قاتل في العديد من الحروب…”

ربما يكشف لنا هذا الحوار جزءا من خلفيته، فهو يشعر بالحنين في لقائه مع الشاب الصغير… فهل عانى ايضا من الحرب وعاش معاناة الفقدان؟ حيث نراه يتكلم عن حرب العراق، وحرب أفغانستان، أيضا في حواره مع الشاب الأفغاني..

أما الشاب المتعلم الأفغاني يخوض في حوار ديني مع «بادي»، انه تجسيد للأنا الأعلى، للسلطة الدينية. يعي «بادي» ان قتل النفس ذنب عظيم، لكنه لا يأتي من أجل الموعظة والنصح، كلما تناقش وعبّر عن أفكاره، تتضح رغبته بالموت من عدم قدرته على الاستمرار قائلا: “يكون وقت لا يستطيع الإنسان الاستمرار فيه، يستنزف ولا يستطيع انتظار إرادة الإله”

لا يفصح عن الأسباب لأن لا أحد سيفهمه، فهو فهم يتعلق بالإحساس بالألم. يقول «كونديرا»: “في الألم لا يمكن للقطة أن تشك بأناها الفريدة وغير القابلة للتبديل. عندما يصبح الألم حادا، يتلاشى العالمُ ويبقى كل منّا وحيداً مع نفسه. الألم هــو المدرسة الكبرى للأنانية.”

وهذا ما شعر به بادي فهو يقول: يمكنك ان تتعاطف معي، وتشفق علي لكن أن تشعر بألمي. لا”

تنطلق محاولات الشاب الأفغاني من فكرة أن القتل؛ قتل سواء كان للنفس أو للأخر، وأن الجسد هو هبة من الخالق ومجرد وعاء للروح، لكن خطاب المحاضرة هذا لا يحرك في بادي اي شيء، إنه موقن أنه يرتكب أحد الكبائر، لكنه يخفف شعوره بالذنب، من خلال فكرة تقليل الأذى، فهو ينظر للعيش كأذية للمحيطين حوله: “أن تكون حزينا هو ذنب عظيم أيضا، لإنه عندما تكون حزينا فأنت تؤدي الأخرين.. ايذاء نفسك، إيذاء عائلتك، واصدقائك أليس هذا ذنبا عظيما ايضا”.

ينظر بادي أيضا لرحمة الإله وعظمته بشكل مغاير، فهو ينظر للانتحار كرحمة من العيش ووسيلة وفرها الخالق للإنسان لينجو بها من العيش.

الرجل العجوز هو نهاية الجولة بالسيارة، وهو تمثيل للأمل في قصة مظلمة، كما يرمز للرشد والحكمة المترتبة على العيش، يقابل «بادي» رجلا قد مر من نفس تجربته. يقبل الرجل العجوز بالمهمة لحاجته للمال في تكاليف علاج طفله، لكنه يعارض أفكار «بادي»، فكيف تكون هذه المساعدة؟ لا يتطرق للبحث عن أسباب رغبته بالانتحار، لأنه يدري انها مشاكل الحياة المترتبة والخانقة ويحكي قصة طعم الكرز:

“ذاتَ يومٍ قررتُ الانتحار، و وضعتُ حبلًا في سيارتي وانتظرتُ حتى الفجر انطلقت في الظلام إلى أحد مزارع التوت القريبة، وتوقفت قرب شجرة توت. ‏رميت حبل المشنقة على الشجرة، لكنه لم يعلق بها! حاولت أكثر من مرة، لكنه لم يعلق!، فقررتُ أن أصعدَ إلى الشجرة وأربط الحبل على الغصن ِبنفسي، وألقي نفسي من فوق … أثناءَ تسلقي أحسستُ بشيءٍ ناعم تحت يدي، لقد كان حبة توت! ‏أكلت حبة التوت تلك، وكانت لذيذة جدًا، أكلت حبة أخرى، وأخرى. ‏

أثناء ذلك؛ شاهدت شروق الشمس على قمة الجبل الذي أمامي، ثم مرّ مجموعة من تلاميذ المدارس، طلبوا مني هز الشجرةِ ليسقطَ التوت، وفعلت. ثم جمعت منه للمنزل، وقررت أن أعدلَ عن الانتحار”.

تخيل؛ لقد أنقذ حياتي في ذلك اليوم حبّة توت!، في هذه الحياة، الأشياء البسيطة هي الأكثر أهمية على الإطلاق، فداخل التفاصيل، تكمن الحياة.”

 ما يجعل قصة طعم الكرز عظيمة، هو كيف تفصل الطريق للنجاة وللأمل بخطوات صغيرة واحدة تلو الواحدة،

“أكلت حبة توت وكانت حلوة ولذيذة جدا” إن المهرب من الأفكار، يبدأ بالتفاعل مع العالم المادي، وتكون حلاوة التوت صعقة من السعادة الغامرة في الروح : “شاهدت شروق الشمس” إنها اللحظة التي نلاحظ فيها الأشياء، التي تحدث كل يوم، في الأشياء العادية تكمل تفاصيل الحياة، يجب أن نندهش وأن نقدر هاته الأحداث المنسية في أيامنا الاعتيادية، الحياة تحدث كل يوم ونحن ننتظر حدوثها.

“ثم مرّ مجموعة من تلاميذ المدارس، طلبوا مني هز الشجرةِ ليسقطَ التوت، وفعلت.”

تكمن معاني العيش أيضا في خدمة الآخرين؛ فالحب يولد من العطاء ووهب الذات للأخر، إنه معنى نفتقده حين ننعزل وحين لا نشارك في العطاء، الناس للناس والحياة هي الناس وتفاعلنا مع الناس عبر العلاقات والخدمات، يرمم الروح ربما تجلب العلاقات البشرية الأدية والألم لكن الألم محتم في العزلة أيضا…

 في نظرية القنافذ لشوبنهاور، تخاف القنافذ القرب من بعضها البعض بسبب ألم الأشواك، وتخاف أيضا الم العزلة القاتل، لنختر العناق والقرب في كل فرصة أتيحت، ففي العطاء أمل ومعاني للحياة.

في نهاية نشاهد «بادي» يبدأ بملاحظة الأشياء، ينظر إلى الطائرات في السماء، والأطفال يلعبون، حيث يجسد الأطفال رمزا للأمل والإقبال على الحياة. ثم جالسا يتأمل الغروب، مقدرا هذا الجمال الخلاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى