مذكرات

يوميات مغربي في البرازيل (3)

ما أغراني في الثقافة البرازيلية هو جانبها الشفاف، بأن تكون أنت أنت، غير مبال بما يفكر فيه أو يقوله غيرك

عبد الرحمن بلحداد( كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

“وقد دل الواقع الراهن على أن اختلاف ” الإخوة ـ الأعداء” في القضايا الفكرية والإيديولوجية قد يكون أكثر شراسة ودموية (…). فالآخر ليس بالضرورة هو البعيد جغرافيا أو صاحب العداء التاريخي أو التنافس الدائم؛ إذ يمكن للذات أن تنقسم على نفسها ويُحارب بعضها البعض الآخر”. الكاتب حيدر إبراهيم علي، أورده الكاتب الطاهر لبيب في كتابه: ًصورة الآخر العربي، ناظرا ومنظورا إليه. ص 117 من الطبعة الأولى.

آخري لي وأنا له، لكني وإياه على خصام؛ إذ كان ملوثا بأفكار إيديولوجية، حالما بتغيير ما في بلده رآه، حينذاك، أنه يوشك أن يحدث… ليس آخري أنا ولست أنا إياه، وإني لأغبطه على ماض كان أقل ابتذالا وانحطاطا و رداءة مما هو حاضري، حاضرنا هذا… ماض لم تكن فيه مشاعر الناس بلاستيكية، أو لنقل افتراضيةولم يكن به هذا الإسهال في عرض المعلومات والتعاطي مع المعرفة… لكن و رغم أن كلا منا يتفهم صاحبه ويتعاطف معه، إلا أنني وآخري على خصام دائم وكل منا إلا ويغبط صاحبه على أمر ما:ود هو لو كان أنا، متخلصا من مشاكله العويصة تلك في أسابيعه و شهوره، بل و سنواته الأولى في البرازيل، و وددت أنا لو بقيت معه هناك، ككائنين سجيني ماض بزرقة صوفية لا يعكر صفوها رنة هاتف جوال ولا وسائل اتصال اجتماعي ولا غير هذا من تسطيح للفكر ونشر لسخيف القول… زمن ما كان لينال فيه شهرة من لم يشمر على ساعديه في كل وأي مجال… ورغم تشبت آخري، في زمنه ذاك، بالفكر العقلاني إلى درجة جد مقبولة، فإنهلم يستطع التخلص من ترسبات ثقافية مغربية، ببعد ديني، مكبلة للعقل ومثبطة للعزيمة وتصيب بسمومها المحافظين والحداثيين، ولو بدرجات مختلفة… ولهذا فإني أراني محدثا قطيعة فكرية مع آخري؛ إذ تركته، حيث هو: مُجمدا وفي نقطة زمنية من الماضي… أتأمله، أحلله، وأنسى أنه قلما أحللني، أنا الملوث بي و به… أشفق عليه أنه كان خجولا و مُعيرا الإهتمام لما يفكر فيه ويقوله غيره، حتى ممن يجدر بهم ألا يكونوا كذلك، من حداثيين لم يقلبوا الطاولة على عالمهم الصغير داخل أسرهم، فكيف لهم أن يحلموا بتغيير ما في العقليات، في القيم وفيما يترتب عن هذا وينتج عنه من تطلعات و قرارات سياسية تنبع؛ إذ تنبع، من قاعدة شعبية متحررة من قيودها، أولا، ثم ضاغطة من أجل رسم ملامح مغرب المستقبل؟!تركت آخري هناك مع من ترعبهم تلكم (حشومة وعيب وعاروغيرك يراك، وللحيطان آذان)… وتفادي انتشار الفضيحة وتجنب ألسنة الناس اللاذعة، وهلم تخلفا ولا عقلانية في التفكيرو رهنا للذات كي يعبث بها الغير… و هذا الغير ذاته يمر من نفس تجربة ذوبان الذات في الآخر، ضمن دائرة النفاق الإجتماعي عينها، والتي يُغيب فيها الناس كلهم لصالح مجتمع فاضل، متوهم لا حضور له إلا في مخيلاتهم…

وما أغراني ويغريني في الثقافة البرازيلية هو جانبها الشفاف هذا، بأن تكون أنت أنت، غيرمبال بما يفكر فيه أو يقوله غيرك. وهذا الغيرك يشبهك في هذا؛ إذ تنتميان لنفس الثقافة، حيث “الفضيحة الأخلاقية”، كممارسة وكسلوك، يُحتفى بها على اعتبار أنها رغبات إنسانية لا مناص من تلبيتها والأستجابة لها وعدم كبثها…  ذلك أن حياتنا قصيرة وتمر في لمح البصر، ولهذا وغيره، فليس من حق أي كان أن يسرق منا أية لحظة فيها أوأن نرهنها له، فنموت حتى قبل أن نموت…

لكنني وآخري متفقان على ضرورة استبعاد جوانب من الذكريات بالمغرب وبالبرازيل لأن استدعاءها يقتضي إشارة تلميحية، وجب تفاديها أو ذكرا لأسماء حقيقية أتحرج من ذكرها، بل إنني لن أفعل… وبهذا فإنني منتق لحوادث بعينها متعلقة بي حصرا وأخرى إيجابية في علاقة مع غيري، وليس بها إشارة سلبية له إلا وأنا ممتنع عن ذكر الإسم وتحميل المسؤولية، بل ومتجنب لذكرما يظهر على أنه سلبي ضمن العلاقات التي نسجتها في البرازيل، قدر الإمكان… يتعلق الأمر، إذن، بسرد تأويلي لما حدث، واع آنذاك والآن أن حضور الآخر في حياتنا، مهما يكن شكله و طبيعته، فإنه يساهم في إغناء تجاربنا الإنسانية، التي نتحمل، نحن لا غيرنا، المسؤولية عنه (=عن طبيعة وشكل حضور هذا الآخر في حياتنا) وعن اختياراتنا…

إن الإشادة ببلد المهجر البرازيلي وثقافته،هاهنا، لا تتم إلا عبر الوعي بتأثير ثقافات أخرى فيه، ومنها الثقافة العربية وثقافات الناطقين بالعربية و ثقافات أخرى دخيلة و تأثير بلد المهجر وثقافته، بدوره، في تلك الثقافات الوافدة. ويعتبرالبرازيل بين دول قليلة تتميز بكون ثقافته منفتحة على غيرها من الثقافات، مدمجة ثم مبتلعة للأخيرة ضمن ثقافة برازيلية واحدة بتمظهرات وملامح كثيرة، عاكسة للتعدد والتنوع بالمجتمع البرازيلي… وكان آخري يلمح هذا في كل حي وشارع في البرازيل، وخصوصا بمدينة ساوباولو(هذا هو نطقها الصحيح بالبرتغالية، رغم أن الكثير من عرب البرازيل ينطقها: سان باولو). وكانت هذه الأمور، يضاف إليها طبيعة الشعب البرازيلي، بكونه مضياف ومحب للأجانب ما جعل المسافة بين ’خري وبين الثقافة البرازيلية منصهرة، فوجد نفسه صاحبنا أنه بين أحضان بلد يشعر كل أجنبي فيه، بمن فيهم هو، أنه بلده. وتتوطد هذه العلاقة كلما كانت إقامتك بهذا البلد ممتدة زمنيا وعميقةإنسانيا. ففي بلد المهجر تمر بمواقف إنسانية كنتشاهدا عليها… مما يجعلك تتماهى مع هذا البلد وثقافته، خاصة حينما تكون متساويا مع المولودين به في الحقوق… حتى إذا نلت جواز سفره تعاظم حبك له أكثر فأكثر؛ إذ يساعدك هذا في أن تحلق إلى بلدان كثيرة… ليست بلدان المهجر متشابهة، ذلك أن المهاجر ببعضها يظل غريبا ومواطنا من الدرجة الثانية، حتى وإن نال جنسياتها… وليس هذا حال البرازيل…كانت ولا تزال هذه هي انطباعات وأفكار ومشاعر الآخر الذي كنته منذ شعرأنه لكل الأقليات في البرازيل حضوروتأثير، ويتم هذا في انسجام مع ركائز النظام العلماني لهذا البلد، المُلزم باحترام باقي أقليات، هي الأخرى تتأققلم سريعا بل تذوب في ثقافة برازيلية بها كل غنى وتعدد و تعايش ثم واستيعات للآخر؛ والذي سرعان ما يكون مُشكلا للذات، كموكون من مكوماناتها… وهل كان آخري يحلم بوطن آخر سوى هذا الذي وصل إليه؟! كلا. و تمر واحد وعشرون سنة ثم أهاجر بعد ذلك إلى البرتغال منذ سنة 2018، حاملا في وجداني وحقائبي الوطن البرازيلي الحاضن لكل من يأتي إليه ثم وطنا مغربيا نحلم به جميعا، لابد أنه آت، ولو بعد حين… واخترت أن أكون أقرب إلى بقعته من حبل الوريد..

لكن آخري كان يمر بظروف صعبة، خلال الأشهر الثلاثة الأولى، ومنها كون اللغة البرتغالية كانت عائقا من أجل التواصل مع أهل البلد وكسر الحواجزبينه وبينهم. فألا تفهم لغة بلد معناه أن المسافة بينك وبينه صارت أوسع ولم تعد مسافة ثقافية، وحسب بل تشعر أنك غريب بدرجتين… وكأنك كائن آخر، لكن ليس من جنس البشر. خاصة حينما تختارالبقاء بعيدا عمن يتحدثون لغتك في بلد المهجر ذاك…فكيف الحال ولم يبق في جيب صاحبنا في شهره الثاني في البرازيل إلا عشر ريالات، تنقص كل يوم، وكان يتحسسها في جيبه، فلسا فلسا كي لا يأخذها جني ما إلى المجهول… ؟وكان صاحبنا، في بعض تلك الأيام، يقطع مسافات طويلة مشيا لمجرد أن يشتري أرخص ساندويش في المدينة…ولولا بعض التفاصيل، وخاصة حينما يتعلق الأمر بثقافات وشعوب بعينها، لأصابك اليأس، بسبب عدم فهمك للغة هي بابك الوحيد من أجل كسب قوت يومك ومن أجل فهم ما يُقال… ويشتد الأمر ويصعب كلما أتيت إلى بلد المهجر بركام من الأفكار والمعارف تحاول، عبثا، خلال أشهرك، بل سنواتك الأولى التعبير عنها بلغة بلد المهجر، بلغتهم العالمة المنمقة كي لا تضيع منك تلك الأفكار، وأيضا حتى تكون مواضيع نقاش بينك وبين من التقيت بهم من مثقفيهم…؟لكن هيهات، خاصة وأن صاحبنا احتاج لكلمات بسيطة وقليلة يستيطع عبرها وبها التعبير عن احتياجاته الضرورية اليومية… ثم ألا تفهم لغة بلد اخترته لنفسك بين غيره من بلدان ثم شعرت أنه كان حريا به أن يكون بلدك الذي ولدت به يجعل حزنك مضاعفا، راغبا في حرق المراحل، متمنيا لو صدقت نبوءات الكذابين ممن نشروا كتب من نوع تعلم اللغة كذا في ثلاثة أيام… ألا تستطيع التعبير عما يختلج في صدرك وعما تبحث عنه وعما تريده بلغة يفهما من تتحدث إليهم، يا صاحبي، لهو أمرصعب. لكن من حسن الحظ أن الشعب البرازيلي يحب الأجانب ويبذل جهدا كبيرا من أجل مساعدتهم. حيث إذا سألت البرازيلي عن مكان ما فإنه يؤجل التزاماته و مشواره ويغير اتجاهه حتى يوصلك إلى المكان الذي تبحث عنه أو، في أقل تقدير، إلى الطريق المؤدية إليه. ولقد شعر صاحبنا حتى حينما كان في مأوى الشباب بمدينة ريو دي جانيرو بضرورة تعلم اللغة البرتغالية، على وجه السرعة. مما دفع به إلى اقتناء دفتر سجل فيه، وبالإنجليزية، الجمل والمفردات التي كان بحاجة لمعرفتها، لتعلمها ثم لاستعمالها مع الناس، وطلب صاحبنا، أي آخري، بعد ذلك من موظفي الإستقبال،  بالمأوى بأن يترجموا له الكلام المكتوب إلى لغتهم البرتغالية، وهكذا كان…

ما إن وصل صاحبنا إلى البرازيل حتى شعروكأنه ولد بهذا البلد، وكأن ولادة ما روحية توشك أن تعلن عن نفسها… حيث يتعلق الأمر بإيقاع آخر للحياة يكاد يغيب فيه الدجل والخرافة، لولا بُقع صغيرة مخصصة لهذا ولا تبرح مجالها الضيق في معابدها وبين أهلها….

والحال أنه لا مفر للإنسان من أن يرافقه، حتى في كبره، الطفل الذي كانه، يوما ما، فتستمرمعه و داخله أحلام الرعب التي رافقته منذ الصغر و تكررت لسنوات إلى أن كبر. ويحدث هذا حتى ولو كان هذا الإنسان متحزما بكل أدوات التحليل العقلاني وغير مؤمن بالماورائيات؛ذلك أن الطفل الذي يسكنه ويرافقه يؤمن بها، ولو على نحو ما…. وهذا كان الحال مع صاحبنا، أي آخري الذي كنته، في بعض المرات، حينما كان يعيش في المغرب حتى بعد كبره….؛ ذلك أن السياق الثقافي كان يساهم في هذا…. لكن هذا الأمر قد تغير في البرازيل، ومنذ اليوم الأول الذي وصل فيه صاحبنا إلى هذا البلد. حيث إنه لا الجن المغربي ركب معه الطائرةو لا تلكم الـ عائشة الـ قنديشة استطاعت ذلك…؛ ذلك أن صاحبنا ورغم الجوع و ظروفه القاسية تلك، فقد صارت أحلامه شبه وردية لا يعكر صفوها سوى التفكير، وخلال ساعات النوم، في إيجاد حلول ما لليومالتالي…

ويتذكرصاحبنا جيدا أنه قد وصل للبرازيل في زمن كان فيه كيلوغرام واحد من لحم البقر بسعر أقل من ريال برازيلي ونصف الريال، أي حوالي 15 درهم مغربي، بينما كان سعره في المغرب متجاوزا لهذا بأربع مرات، وكان سعر دجاجة مشوية تزن 2 كيلوغرام وفي مطعم ما هو ما بين 15 و 20 درهم مغربي ثم كان سعر قنينة بيرة برازيلية من حجم 600 مليلتر هو خمسة دراهم مغربية، هذا عدا أمور أخرى…يُضاف إلى هذا أن صاحبنا، القادم من بلد بين الرجل والمرأة فيه ألف ألف ستار، كان في بلد السامبا مُحاطا بكل بهاء وجمال في بلد حر، متحرر، متعايش ومحب للحياة، فعاش حياته هناك كأجمل قصيدة شعرلم يخطها قلم شاعر…  وقد انشد صاحبنا إلى البرازيل لما رأى فيه من تعلق شعبه، بل تشدده في كل ما له علاقة بالنظافة. ذلك أن من عادة الشعب البرازيلي الإستحمام لأكثر من مرة في اليوم وحتى بائعوا الطعام المتجولون يتشبثون بشروط صحية في النظافة صارمة فيما يبيعونه للناس في الشارع من مأكولات وساندويشات….

وكان كلما ضاق صدر صاحبنا وانسد الأفق في وجهه إلا وخرج إلى جادة الجمهورية أو إلى براسا(ساحة) دا سي أوإلى المركز الثقافي البرازيلي أو إلى المركز الثقافي السوري أو إلى جادة باوليستا، حيث توجد فرق موسيقية برازيلية وبيروفية وغيرها وعروض ترفيهية وأسواق موسمية صغيرة لمنتجات مدن أخرى وآلاف الآلاف من المارة الذين قرأ عبر ملامح وجوههم إمكانية لانفراج و نجاح ما، مما كان يبهج قلب صاحبنا ويجعل روحه خفيفة…

   ولم يمر الشهر الأول على صاحبنا في البرازيل حتى شعر أنه لابد من استغلال كل دقيقة وكل مناسبة من أجل تعلم لغة البلد. وكان بعد شهره الأول يمر من جادة باوليستا وبالشوارع القريبة منها، من الجهتين، ويمسك بكل ورقة ترويجية لمدرسة ما أو لكنيسة أو لمنتوج ثم يحاول قراءتها وطرح أسئلة فضولية بلغة برتغالية ركيكة لأجنبي قادم لتوه للبرازيل. وكان صاحبنا يسمع الأجوبة عن أسئلته ممن منحوه الورقة، مع أنه بالكاد كان يلتقط منها كلمة مفهومة أو اثنتين، وذلك حتى يعود نفسه على النطق الصحيح ثم كي يتذكر كلمات إضافية يسجلها في دفتره مع ترجمتها ونطقها الصحيح…  وكان بعض المروجين يفهم قصده منذ اللحظة الأولى، فيبتسم ثم يسايرصاحبنا في مهمته، بل وينطق كل كلمة برتغالية، قطرة قطرة، بكل أصواتها حتى يتمكن آخري من فهم مضمون ما يُقال وتكراره بعد ذلك… وكلما كان المروج مروجة، أي فتاة إلا وانفتح قلب صاحبنا أكثر لأن صبرها ورغبتها في تعليمه، بالإضافة إلى صوتها العذب، اللطيف، الرقيق، وكان هذا، غالبا ما يتم في تناسق تام بين رقة تفيض من عينيها وسحر منبعث من حركة يديها ووجهها، وهو أمر ينذرفي بلدان عدة…

وكان ذلك مما يجعل كلامها في أذن صاحبنا كطعم الماء العذب الزلال في الفم… فيجعله ينسى، ولو لحين، مآسيه تلك… ولأن آخري كان منتشيا بالجمال الذي كان حوله ولأنه اتى للبرازيل  شهرين بعد إكمال التاسعة والعشرين من عمره، فإنه تمنى ما يتمناه غالبية مهاجري البرازيل، أي لو أنه أتى للبرازيل بسنين من عمره أقل، خاصة أنه شعر أنه بين شعر مرح، مضياف، حر وجد متعايش….  ولأن صاحبنا كان بحاجة لمن تؤنس عليه وحدته، فإنه كان يتمنى لو تقع في شباكه واحدة من جميلات ساو باولو، خاصة من كن تمرن بذلك الشارع الذي يقصده الناس، أجانب وبرازيليون، من كل صوب وحدب. وهذا وأمور أخرى مما كان يخفف على آخري مأساته، التي اجتهد كي لا يكشفها لغيره، لا ممن تعرف عليهم فصاروا أصدقاء له إلى غاية يومنا هذا ولا من غيرهم. وكيف لصاحبنا أن يفكرفي ربط علاقة بفتاة برازيلية وهو في عراك يومي مع قوت يومه؟

ولم يكن صاحبنا، أي آخري، ليكون منتشيا بالجمال الأنثوي لولا أمور منها أن ولاية ساو باولو، والتي يبلغ تعدادها أكثر من 44 مليون نسمة، تستمد هذا الجمال منها ثم، وخصوصا من سكان ولايات محيطة بها، منها الولايات الثلاث بالجنوب البرازيلي (ولاية بارانا، ولاية ريو غراندي دو  سول ثم ولاية سانتا كاتارينا) حيث يوجد برازيليون ذوو أصول ألمانية وإيطالية وبولونية، على وجه الخصوص ثم ولاية ميناس جيرايس والتي بها نوع من الجمال المتميز والقريب من الجمال العربي ثم ولاية إسبيريتو سانتو، وأخيرا ولاية ريو دي جانيرو…. علما أن هناك امتزاج واختلاط عرقيين بين سكان هذه الولايات وسكان ولاية ساو باولو، تحديدا، لما لهذه الولاية من أهمية و وزن اقتصاديين في كل البرازيل، مما يدفع بكثيرين للعيش والعمل بهذه الولاية وبعاصمتها ساو باولو، على وجه الخصوص…

وفي شهره الثاني في بلد المهجر، أي في أكتوبر من سنة  1997،  شعر الآخر الذي كنته أنه لابد من إيجاد مخرج ما من الأزمة، خاصة وأنه ظل لثلاثة أيام عجاف متتالية بدون حتى قطع البسكويت التي كان يوزعها على ساعات يومه.

اشتد الجوع على  صاحبنا في اليوم الأخير من الأيام الثلاثة العجاف، فإذا به يذهب إلى حي 25 مارس، العربي من أجل اللقاء بسوري كان، وقتذاك،  يدرس اللغة العربية بنادي حمص الكبيرالشهير بجادة باوليستا(تكلف ببنائه وتمويله أبناء الجاليتين: اللبنانية والسورية من الميسورين )، لعل لهذا الأستاذ مخرج من الأزمة عبر اقتراح فرصة عمل ما، في مجال التدريس على وجه الخصوص أو أي عمل آخر… وفي حي 25 مارس في ذلكم اليوم، وخلال حوالي الرابعة مساء، أحس صاحبنا بدواخ شديد وارتطم جسده بعمود كهربائي و كاد يقع أرضا ورأى أمامه كنيسة عربية كاثوليكية، مكتوب على بابها باللغة العربية” القداس سيكون يوم الأحد”، فرح صاحبنا وفكر في داخله: يا لسعادتي! فقد فهمت معنى ما هو مكتوب باللغة البرتغالية…!! والحال أن شدة الجوع جعلت صاحبنا يتخيل أنه قرأ جملة غريبة عنه، ظانا أنها كانت مكتوبة بالبرتغالية ففهمها لتوه دون أدنى صعوبة. التقى صاحبنا بالأستاذ السوري، والذي، أي هذا الأخير، ما إن رأى آخري حتى فهم أنه كان في حالة جوع شديد، فدعاه لوجبة غذاء باذخة  في مطعم عربي عوضت، ليس فقط الأيام المتواصلة الثلاثة من الجوع، بل حتى من أياما سبقتها، كان طعام  صاحبنا خلالها وفي اليوم كله لا يتعدى قطع بسكويت خلال اليوم الواحد ليؤخر سنودويشا خفيفا واحدا إلى اليوم الموالي…

بعد ذلك بحوالي أربعة أيام – مرت هي الأخرى صعبة مثلما كان من قبل- إذا بصاحبنا والذي كان يتوارد على المركز الثقافي السوري من أجل قراءة مجلات وكتب عربي، يجد أول فرصة عمل له في البرازيل كنادل في فندق من درجة خمس نجوم يملكه رجل سوريوتم الأمر عبر وساطة مدير المركز الثقافي السوري آنذاك، وهو رجل أديب وإعلامي، والذي ما إن أخبره موظف بالمركز أن آخري يكتب شعرا حتى طلب مني إلقاء قصيدة عليه، وهكذا كان، فإذا بالمدير يتصل على صديقه، أي صاحب الفندق ويطلب منه منحي فرصة عمل، كانت هي الأولى في البرازيل، بمدينة كامبيناس البعيدة عن مدينة ساوباولو، عاصمة الولاية،  بنحو تسعين كيلومتر، وهي، أي مدينة كامبيناس، تعتبر ثاني أكبر مدينة بولاية ساولو باولو، بعد ساوباولو العاصمة. وكانت فرصة العمل تلك ما أنقذ صاحبنا  من مصيركان مجهولا صعبا…  منحني مدير المركز الثقافي السوري، مشكورا، حينذاك 100 دولار وكان هذا المبلغ  مما ساعد صاحبنافي الوصول إلى مدينة كامبيناس و دفع إيجارغرفة ببيت كبير… ليبدأ مشوارا آخر، ترك فيه صاحبنا مستقبله المظلم وتعاسته تلك خلف ظهره، إلى حين، وذلك في مستهل شهره الثالث في البرازيل…

عبد الرحمن بلحداد (كاتب مغربي مقيم في لشبونة)

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى