دار بابانا…مأوى مرضى السرطان ممن أتعبتهم “الرحلة”
لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء
“اضطررت لاقتسام الشقة التي كنت أكتريها رفقة طلبة آخرين في الكلية، مع أمي المصابة بالسرطان بعد قدومها من زاكورة إلى مراكش.”
بنبرة مستقرة وتعابير وجه ثابتة، يصف لنا اليزيد الذي بلغ للتو عقده الثاني، معاناة أمه في رحلة العلاج من مرض السرطان. رحلة انطلقت من زاكورة ثم ورززات فمراكش، فلا الأولى ولا الثانية تتوفران على معدات العلاج من مرض السرطان، ما يضطر كل مقيم بهاتين المدينتين ومدن أخرى تعيش نفس الحال، إلى التنقل صوب مراكش بغية العلاج. تتضاعف معاناة هؤلاء حين يتعلق الأمر بالسكن، أما أم اليزيد فقد استقبلها ابنها بالشقة التي يكتريها رفقة طلبة الكلية، حيث كان يدرس بالسنة الأولى في كلية الحقوق بمراكش. لم يكن للاثنين خيار آخر، فلا اليزيد يملك مكانا أفضل ينقل إليه أمه، ولا الأم تملك شخصا آخر يرافقها في رحلتها هذه، غير ابنها البكر. كان هم اليزيد هو أن يجد لأمه مكانا آخر تسكن فيه، بعيدا عن ضوضاء الطلبة، عل ذلك يخفف عنها ولو قليلا من مرارة المرض. أما اليوم، فاليزيد يعيش رفقة أمه ب”دار بابانا”، حيث لا شيء يشغل باله سوى كسب بعض المال من أجل تغطية تكاليف علاج أمه، أما الباقي فدار بابانا توفره لهما، من أكل وشرب وسكن، دون أي مقابل.
دار بابانا…جنة الغرباء
اللوحات المعبرة التي تزين الجدران، الابتسامات المتبادلة في كل مكان، وصلوات النزلاء، أهم ما يشد انتباهك حين تعبر هدوء ذلك الشارع إلى دار بابانا للسرطان. لن تحس أبدا أنك في مركز خاص بإيواء مرضى السرطان، قبل أن يخبرك أحدهم بذلك. بين نزلاء تتطلع أعينهم إلى شاشة التلفاز، وآخرين يصلون تضرعا وطمعا في الشفاء، وبين من استسلم لآلامه، يجلس مقرفصا دونما حركة، يفكر في مصيره، تتباين وجوه النزلاء ومرافقيهم، إذ ما إن تقتنص عيونهم وجودنا في المكان، حتى يرسموا على وجوههم ابتسامة خفيفة، تخفي وراءها قصصا مؤلمة، تحتفظ بها عيونهم، إذ لم تفلح ابتسامتهم تلك في محوه آثارها.
بدار بابانا، يفتح الباب أمام كل مريض بالسرطان غير قاطن بمراكش، ومرافقه إن اقتضى الحال ذلك، حيث ينقسم المكان لبنايتين، الأولى خاصة بالذكور، والثانية بالإناث، وكلاهما يحتوي على غرف مجهزة بأسرة ذات جودة عالية، حيث تبلغ الطاقة الاستيعابية للمركز، حوالي 80 نزيلا، كما يوفر نظاما غذائيا خاصا بالمرضى، تفاديا لأي تسمم غذائي خارجي قد يؤثر على حالتهم الصحية. ناهيك عن مرافق أخرى، كغرفة خاصة بالأطفال، تملؤها ألعاب من مختلف الألوان والأصناف، تساعد الطفل على التأقلم أكثر مع المكان، وحمام تقليدي، وأماكن أخرى تشعر النزلاء بأقصى درجات الراحة.
ولأن الدعم النفسي يبقى أهم عوامل النجاح في رحلة العلاج من السرطان، تصادف قدومنا مع إحدى حصص الدعم النفسي التي تقدمها إقبال، مستشارة نفسية. حيث يجلس مختلف النزلاء في إحدى القاعات، مستمعين ومتمعنين في نصائح إقبال للتعامل مع المرض، يتفاعلون معها، في جو يطبعه الفرح والمرح والجدية معا.
إيمان بالانسانية
بابتسامة عريضة ومهنية عالية، تتجول إيمان، ممرضة بدار بابانا، في مختلف أنحاء المركز، حيث تنهال عليها التحايا من كل جانب. هي ممرضة اختارت خوض تجربة إنسانية من هذا النوع، حيث التحقت بالمركز بعد شهر واحد من تأسيسه، ومنذ ذلك الحين، ترفض إيمان التخلي عن عملها هذا، فرغم كل العروض المقدمة إليها، إلا أنها تتمسك بمن اعتبرتهم عائلة يستحيل التخلي عنهم، تقول إيمان:”بعض النزلاء يرفضون قضاء عطلة نهاية الأسبوع رفقة عائلاتهم، ويفضلون البقاء هنا”. نسجت إيمان قصصا إنسانية مع كل نزيل وطأت قدماه هذا المكان، ولا زالت تحتفظ بتفاصيل كل واحد منهم، بين من حالفهم الحظ وتغلبوا على المرض، ومن انتظرت عودتهم طويلا دون جدوى.
مريم صاحبة الخامسة عشر عاما، أصيبت بسرطان في الحلق والتحقت بالمركز قادمة من مدينة العيون، لم تكن حالتها بالجيدة، وأطباؤها توقعوا مفارقتها للحياة في أي لحظة، أما مريم فكانت موقنة بتغلبها عن المرض، وذلك ما حدث، فبعد أن فقدت الفتاة شعر رأسها وحاجبيها حسبما تحكي لنا إيمان، استعادت شعرها بعد شفائها، وأصبحت أكثر جمالا وإشراقا.
من هو بابانا؟
تحمل الجمعية اسم أول دكتور أشعة بمدينة مراكش، الشيخ حرمة بابانا، صاحب الأصول الموريتانية. أصيب هو الآخر بمرض السرطان، وعاين عن قرب معاناة الناس مع المرض، ومنهم من يتخلى عن العلاج، لعجزه عن تأمين مسكن، ولهذا فكر في تأسيس مركز لإيواء مرضى السرطان، وهو ما نفذه ابنه علي حرمة رفقة فتيحة بلقايد، التي تشتغل اليوم كستكرتير عام ومديرة للمشروع، حيث تأسست دار بابانا في الخامس من يناير 2022، واليوم تطمح الجمعية إلى تأسيس دار بابانا 2، من أجل إيواء عدد أكبر من مرضى السرطان. كما تسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي من أجل تمكين النزلاء من العلاج دون مقابل.
“ماما فتيحة” في دار بابانا
عاشت فتيحة بلقايد، هي الأخرى تجربة السرطان سنة 2013، تجربة قاسية كما وصفتها، جعلتها تفكر في أنها ستغادر الحياة، وهي الفكرة التي تشغل بال كل مصاب بالسرطان فور علمه بذلك. واليوم هاهي فتيحة أو “ماما فتيحة” كما يناديها الكبير قبل الصغير بالمركز، تشرف على دار بابانا بكل حب وتفان، حيث لا تدخر جهدا في مصلحة الجمعية ونزلائها، بل تسخر وقتها كله لذلك، ما جعلها محبوبة من طرف الجميع، ومثلا أعلى لهم، يقدم لهم الرشد والنصح، ويغذيهم بروح الأمل.
“رحلة” العلاج
ما الجدوى من كل الاتفاقيات والاستراتيجيات إن كان مريض السرطان سيتنقل من جهة إلى أخرى أو من إقليم لآخر من أجل العلاج؟ كيف يعقل أن تتنقل أم اليزيد من زاكورة إلى ورزازات ومنها إلى مراكش، وماذا سيكون مصيرها لولا جمعية دار بابانا؟ هي فقط نموذج من مئات المواطنين والمواطنات، ممن لم تصل قصتهم إلينا، لكن الأكيد أن عددا منهم يفارق الحياة لعجزه عن تحمل عناء رحلة العلاج، ولم أسميها رحلة العلاج عبثا، بل هي فعلا رحلة طويلة تتطلب قطع مئات الكيلومترات نحو المجهول…