تخلى عن العالم من أجل طنجة: الموسيقي والكاتب الأمريكي بـول بولـز
لـوسات أنفو: عادل أيت واعزيز
تتمثل العلاقة بين الشرق والغرب، كمساحة واسعة، تتفاعل فيها الأمكنة والأزمنة، في حدود الإتصال والإنفصال. يمتهن فيها المسافرون قياس المساحات؛ كُتَّاباً وفنانين وفلاسفة ورواد. فهناك من يسافر ليحترق بأشعة الشمس، وهناك من يحترق وهو في طريق السفر. أحد هؤلاء الذين حوَّلوا رَحلاتهم إلى هجرة أنطولوجية وثقافية؛ الموسيقي والكاتب الأمريكي بـول بولـز، الذي عاش طفولته ويفاعه الأول بمدينة نيويورك سنة 1910م، وأمضى بقية حياته بمدينة طنجة.
حياة لاتفتأ على التوقف
وسط حيّز مأهول فقط للكبار، بين عائلة تهتم بالثقافة والفنون، بدأت فكرة بول بولز عن العالم تتشكل. وهو يقضي طفولته حينا بين الآلات والأسطوانات الموسيقية، وبين الإنغماس في الرسم ومشاهدة الأفلام السينمائية وكتابة القصص الميلودرامية، وفي الليل تُسْمِعُهُ والدتُه كتابات إدغار الآن بو وأرثر ماشن وأندري جيد وآخرون من هذه الطينة. متنقلا بين أقاليم عالم الثقافة والأدب والفن.
هكذا كانت طفولة بول بولز، مفعمة كلها بالألوان والحياة، وعلى طريقته الخاصة، موهوبا، مسكونا بالتأليف الأدبي والموسيقي والمسرحي. فكانت رغبته في النشر، رغبة تفرض نفسها بكل الأساليب المتاحة في نفسه. ولأن تصوره كان منافيا لكيفية وصول الشباب في مقتبل عمره إلى الكلية – كلية فرجينيا- فإنه تخلى عن الدراسة فيها سنة 1929، وبدأ ينتقل بشكل متواصل في أحضان الطبيعة، فها هو في شرق الولايات المتحدة الأمريكية، وتارة في سويسرا وبواديها وأريافها.
وحيث أنه ليس للسندبادي بولز، خريطة أو طريق محددة للعالم يسلكها، شكلت له زيارته الأخيرة لباريس عام 1931م، آفاقا جديدة، وجسرا ستعبُرُها روحُه المُتَوثِبة. بعد أن كان لقائه بالكاتبة الأمريكية جيترورد شتاين، التي اقترحت عليه وعلى صديقه آرون كوبلاند؛ أحد أهم ما أنجبت الولايات المتحدة في الموسيقي والتأليف، أن يتخلوا عن فكرة قضاء الصيف بـسانت جين دولوز، والتفكير للسفر لمدينة طنجة.
هكذا يريد أن يعيش الشاب بول بولز، أن يسافر بدون توقف، ويكتب ويؤلف الموسيقى بدون توقف.
بول بولز اتصالا ووصلا
وهما على متن باخرة “إيميرتي”، كانت كل الأشياء التي تقع في عين كوبلاند عادية، تبدو لبولز غريبة ومدهشة.
واقترابا من طنجة، حيث يبدأ سحر المكان في إطلاق سراح بول، يسجل في سيرته الذاتية، بدون توقف؛« جعلت إحساسي بالوجود في العالم ينهض جزئيا على اعتقاد غير معقلن مفاده، أن بعض الأماكن على سطح الأرض تحتوي على قدر أكبر من السحر قياسا بأماكن أخرى. لو سألني سائل عن المقصود بهذا السحر لربما وسعت من مدى الكلمة حتى تحيل إلى الترابط السري بين عالم الطبيعة ووعي الإنسان، ممر سري لكنه يتجاوز أقانيم الذهن، يضيف قائلا؛ «كأي شخص رومانسي، كان يراودني إحساس غامض بأنه خلال فترة من حياتي، سأصل إلى مكان سحري سيغدق على خلال تجربة الكشف عن مكنوناته الحكمة والانتشاء، لما لا الموت».
وقبل أن يكرس هذا الترحال البولـوزي اتصالا بالمكان، اتخذ في الأول استقراره، مسارا لزيارات متعددة وخارجية. فصار يتردد غير ذي مرة مدينة فاس، وكانت سنة 1947م، قد جمعته علاقة مع الفنان والكاتب المغربي أحمد اليعقوبي، الذي شارك ولازم بولز في إقامة معارض موسيقية ومسرحية، وترجمات يخوضها بول لأعماله وقصصه للغة الإنجليزية، فكان بفضل بولز أول مغربي تقتحم لوحاته متحف نيويورك، ليس اليعقوبي وحده، فبعد أن تعرف أيضا على الفنان والقاص المغربي محمد المرابط، الذي يعاد الفضل كذلك للمترجم بولز في التعريف به وسط الساحة الثقافية الغربية، بترجمة أعماله وقصصه. وسبق أن أُعدت ترجمات بولز حفظا لإرث رواة طنجة من الضياع.
كان مكوث المغترب الأمريكي بول بولز عابرا في بدايته، لكن ظلت دائما طنجة تستحوذ على تفكيره، حتى بعد أن جاب مراكش وفاس وصفرو والدار البيضاء والجزائر وتونس… كان مشدودا بين الشرق والغرب بين قارتين عبر طنجة، كانت بمثابة المكان الذي يرغب أن يكون فيه دائما، رغم تعرفه وكتابته عن مختلف الإثنيات، من أمريكا اللاتينية إلى شمال إفريقيا، ومن آسيا إلى أوروبا.
صارت شوارع المدن عند الموسيقي بول شأنا شخصيا، وخريطة لمجاله الداخلي، أراد أن يثبت في مناخه الثقافي والأدبي السائد أنذاك في أمريكا و أوروبا، ذاته المبدعة وانكبابه على روح العصر. وقليل من سارتر يكفيه ليصيغ وجوديته فيما يؤلفه، كان اللقاء بجون بول سارتر وحديثهما عن جان جينيه، محطة إعجاب بولز بكاتب الغثيان والعدم والوجود.
بين السفر والكتابة تسكن جين بولز
في فترات مظطربة ومربكة، كانت اللقاءات التي جمعت بول بولز بالكاتبة الأمريكية جين آور بولز، قطارا سريعا لزواجه منها، فبين حب طنجة وفاس وأمريكا يوجد حب جين. فكلاهما يختبران ردود فعلهما المشتركة إزاء المدن، وإزاء الكتب. كان بقاؤهما معا ترويضا لقلم جين لتصدر أعمالا كـ؛”سيدتان جادّتان” عام1943 في جنس الرواية، و”رغبات مسالمة” في القصة القصيرة، أما في المسرح فأصدرت “في بيتها الصيفي”. وفي محاولة منهما للعيش بالموسيقى والتأليف، لايفتأ أسبوع بالإنقضاء حتى تراهما متسكعين حول العالم. قبل أن يستقرا بطنجة، كان ارتباطهما في الأول بالحزب الشيوعي الأمريكي 1939-1938، له تبعات لمشاكل ظلت تلاحقهما دوما. فجَرّبا معا كل شيء في البر والبحر والجو، من كتابة الرواية والسفر والحب إلى الموسيقى والمعجون والشاي المغربي. وحينما بدأت الحالة الصحية لجين بولز بالتدهور، أصيبت سنة 1957 بجلطة دماغية، تراجعت فيها قدراتها البصرية والعقلية، ولم تفلح العلاجات المستمرة في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، إلى أن توفيت سنة 1973 في عيادة بمدينة مالقا الإسبانية عن عمر يناهز 56سنة.
اختراع خمسين عاما من العزلة بطنجة
بالقرب من ساحة أمراح بطنجة، في عمارة إيتيسا، يسكن بول بولز مع زوجته جين، وطالما قاما بزيارات متجددة لجنوب المغرب وغربه. وبين العواصف الرملية بصحاريه. وفي هضابه وجباله، أنتج لنا بـول بولز تحفا أدبية، كالسماء الواقية 1949، التي صورت كفيلم فيما بعد يحمل عنوان شاي في الصحراء، حلقة بعيدة1947، بعد الطوفان 1952، بيت العنكبوت 1955، الغابة الحمراء 1966، بدون توقف؛ سيرة ذاتية 1972، يوميات طنجة 1987-1989، العقرب 1979، أيديهم زرقاء 1989، بعيدا جدا عن المنزل 1992، الفريسة الدقيقة وقصص أخرى 1950… وأعمال كلها تتراوح بين الرواية والقصة القصيرة والمسرح.
نسج بول بولز علاقات كثيرة في المغرب وأوروبا وأمريكا، وأصبح المخرجون والروائيون والفنانون يتوافدون إليه، ويستقبلهم في منزله بطنجة، وكان أهمهم؛ رودريغو روسا الكاتب الغواتيمالي، باتريستا هايسميث الروائية الأمريكية، الروائي والكاتب الفرنسي جان جينيه، فليب رامي الملحن والعازف الأمريكي، ريجينا وينريش المنتجة والمخرجة التي صورت وثائقيا عن بول بولز، روبرت بريات الكاتب الذي ألف عن بولز كتابا أصدر سنة 1989بفرنسا، جون هوبكينس صديقه ومؤلف كتاب بطائق طنجة، ليليان سيجيل عشيقة سارتر السرية، كارول أردمان صديقته ومؤلفة كتاب طنجة؛ قصة حب، إلى جانب دافيد هربرت الكاتب ومهندس الديكور، المصورة الفوتوغرافية خيريس دي لافرونتيرا، المصور الامريكي وليام بيتش، الكاتب والصحافي دانييل روندو…
ولاشيء يضاهي أن تسافر لطنجة من أجل بولز والسماء الواقية، حبّاً وبحثا وتفكيكا. هكذا حمل الكاتب والإعلامي ياسين عدنان عُدّتَه النقدية، متوجها لمقابلة بولز سنة 1991، حريص الموعد وحماسي الأداء. ويدون في كتابه مدائن معلقة، لحظة استقبال بول له؛«كان بولز ينتظرني بقامة منتصبة، أمام خزانته، كان ثاقب النظرات، حادّ الملامح، ابتسامته خفيفة مقتضبة ووجهه حليق.. وباستفاضة أشرح له، يقول ياسين عدنان أن معرفة الكاتب الغربي غير الكافية أحيانا بالمجتمع الشرقي قد تورطه في تقديم بعض العادات ومظاهر الحياة ذات الخصوصية الثقافية لقارئه الغربي كما لو كانت عجائبية».
وآخرون وأخريات، لا تستوعبهم أقواس ولا تستنفذهم. أما في طنجة فكان ارتباطه واضحا بمحمد المرابط، أحمد اليعقوبي، وبشير العطار العازف ورئيس فرقة جهجوكة، ثم عبد الواحد بولعيش سائق سيارته.. وتحديا منه للمكان واقتحامه للثقافات الكثيفة، تعلم الدارجة المغربية، وتمكن من الإستماع لموسيقى عبد الوهاب، أم كلثوم، فريد الاطرش، واعتبرها موسيقى حقيقية تفيض بالجمال.
لم يقتصر صاحب السماء الواقية والعقرب، على الموسيقى العربية، بل تجاوز ذلك واندغم في الموسيقى المحلية كفن أحواش والروايس والغيطة، وسجل العديد من المقطوعات، بعضها لايزال محفوظا بمكتبة الكونغرس التي كانت قد دعمت بولز عام 1959 لتسجيلها.
بولز الأب وشكري الأوديبي
القارئ لمؤلفات الكاتب بولـز، وبالخصوص لسيرته الذاتية، بدون توقف ويوميات طنجة، يكاد لايجد أي حضورا لمحمد شكري، ولايأتي الكاتب على ذكر اسمه، حيث كان من المتوقع أن يتوقف كاتب “بدون توقف” على أدب كاتب الخبز الحافي، الذي كان مترجمه للإنجليزية بول نفسه، إلى جانب ترجمته لـ” جان جينيه في طنجة” و ” تينيسي وليامز في طنجة”، ولا حتى حضورا للعلاقة التي كانت ومرت بينهما. كان بولز سببا في الدفع بروائيي الأدب الشعبي والتعريف بهم، وأحد هؤلاء شكري، الذي حاول أن يقتص من بولز ويثأر منه، ويتحامل عليه كتابةً في مقالات ظل ينشر فيها إلى أن جمعت في كتاب عنوانه؛” بول بولز وعزلة طنجة”. ويذكر مترجم يوميات طنجة لبول بولز الكاتب والمترجم المغربي ابراهيم الخطيب في مقدمة ترجمته لليوميات أن السبب يعود لتفاقم سوء العلاقة بينهما، منذ أواسط الثمانينات، بسبب اتهام شكري، لتَصَرُّف بولز في مستحقات مبيعات كتبه المترجمة الثلاث، والمثير يضيف الخطيب أن بول بولز كتب وصية أودعها لدى القنصلية الأمريكية بطنجة، أن يُمنح لمحمد شكري ألف دولار ونصف أمريكي.
الشيء الذي نفاه بول بولز في حوار أجراه معه الكاتب عبد العزيز جدير، مُضَمّنٌ في كتاب يحمل اسم “الحوار الاخير، بول بولز – محمد شكري”. مؤكدا -بولز- أنهما يقومان دائما باقتسام مداخيل الخبز الحافي، حسب العقد الذي بينهما.أما ترجمة الكتب الثلاث يضيف بولز أنه قام بها تطوعا! ص194
ليس هذا وحده، فإن بول نفى كل اتهامات شكري له قائلا؛ “كاتب الخبز الحافي لايتحدث عني في اتهماته، بل يتحدث عن شخص آخر، إنه دون كيشوت آخر في صراع مع الهواء، ربما ليذكر الناس أنه مازال على قيد الحياة، أتمنى له طول العمر.”
طنجة تمسك بول بولز
باقتفائنا لأثر بول بولز بطنجة، مازالت المدينة تحتفظ بأطيافه. ومقهى الحافة أحد هذه الأمكنة التي يرتادها بولز. المقهى الذي لم يخطر على بال مشيده بمنطقة مرشال محمد علوش عام 1921م، أنه سيكون ملتقى الفنانين والأدباء والرسامين والسياسيين من أنحاء العالم. فيجعلهم طابعه التقليدي و إطلالته على الضفة الإسبانية و البحر الأبيض المتوسط، إطلاقاً لعنان أفكارهم وتحريراً لأقلامهم على الورق. وفي هذا المقهى الذي يضم ستة طبقات، يستمتع الأمريكي بول بولز بكؤوس الشاي الشمالي، ومستجدات الأدب والثقافة إلى جانب أصدقائه من الكتاب الغربيين والمشارقة. وهواء الحافة لازال ينقل إلينا كيف كانوا يقضون أوقاتهم هنا كـ؛ محمد شكري، محمد المرابط، بول بولز، ايرا كوهين، جاك كيرواك، وليام بوروز، أحمد اليعقوبي، بيتر اورلوفسكي، محمد زفزاف، الطاهر بن جلون …
وعلى مسافة ميل من الحافة، نحو أول بناية مغربية مثلت الخارجية الأمريكية، والعلاقات الدبلوماسية والتاريخية المغربية، خصصت المفوضية الأمريكي التي شيدت سنة 1821، جناحا خاصا يختزل كل تفصيل عن الكاتب والموسيقى بول بولز، من الصور الفوتوغرافية الخاصة به إلى البيانو الذي كان يعزف عليه وآلاته الموسيقية، نحو بطائقه البريدية ورسائله وأعماله، وفي صندوق زجاجي معروض يحتوي وثائق وأرشيف بولز، تبسط نظَّاراته التي يرى بها طنجة عن غيرها من المدن. ويتحدث أحد المسؤولين عن الفضاء على أنه البناية التاريخية الوحيدة التابعة للولايات المتحدة الأمريكية خارج ترابها، بعد أن كانت فيما مضى مسكنا للقنصليين الأمريكيين في المملكة المغربية، ويضيف قائلا أنه كان حري بالقائمين على المفوضية أن يحتفظوا بإرث بول بولز الذي ألهمته طنجة، وحماية أرشيفه من الضياع، خصوصا يضيف أن هذا المكان مسجل ضمن المآثر التاريخية في المغرب وأمريكا، ويعتبر كذلك البناية التاريخية الوحيدة التابعة للولايات المتحدة الأمريكية خارج ترابها.
لم تكن حياة الترحال والتأليف للأمريكي بـول بـولز تيهانا، ولا نغمته نَشَازاً، أو نُشْدانُ حِبْرٍ لِغُربة، إنما عناء وجهد ومقاومة، يتحدى فيه المكان ولايهرب منه، إنه بتعبير جيل دلوز سفر لايبرح مكانه. ليعود جثمان بـول بـولـز بعد 52 عاما بطنجة، تاركا روحه فيها، ليدفن قرب والديه وجديه 18 نوفمبر سنة 1999، في إحدى مقابر ولاية نيويورك.
الهوامش:
– بدون توقف، سيرة ذاتية، بول بولز، ترجمة وتقديم توفيق سخان، مكتبة بغداد، الطبعة الاولى 2014، دار الامان.
– پول بولز، يوميات طنجة (1987-1989)، ترجمة وتقديم ابراهيم الخطيب، وزارة الثقافة والرياضة، دولة قطر، كتاب الدوحة72، ماي 2017.
– بول بولز وعزلة طنجة، محمد شكري، منشورات الجمل 1997، الطبعة الأولى.
– عبد العزيز جدير، الحوار الأخير پول بولز- محمد شكري، جداول للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2011.
-مدائن معلقة ( تدوينات العابر)، ياسين عدنان، الطبعة الأولى 2022، مطبعة باب الحكمة، تطوان.