الرأي

الحانة و المدينة.. عن الحياة التي لا تكتمل إلا بالحرية

عبد الإله إصباح

لكي تستحق أي مدينة أسمها لا بد أن تتوفر على مجموعة من التجهيزات والمرافق مثل الطرقات والمدارس والمستشفيات والحدائق وقاعات السينما والمسرح والإنارة الليلية وغير ذلك من البنيات التحتية والفضاءات. غير أن هناك فضاء أساسي قد لا ينتبه إلى أهميته في تأثيت فضاء المدن على الرغم من أن أي مدينة حقيقة لا تخلو منه، ونقصد بذلك فضاء الحانة كفضاء مديني بامتياز، ولا يمكن تصور مدينة معاصرة دون وجوده.

صحيح أن هذا الفضاء لا يندرج ضمن مطالب الساكنة و لا يشكل واجبا من واجبات الحكومات أو بندا من برامج الأحزاب، إلا أن إغلاقه في المقابل لم يسبق له أن كان مطلبا لأي معارضة، أو طائفة حتى تلك التي تنطلق من منطلقات دينية.

إن الحانة بالنسبة للمدينة هي شرط وجودها، فلا تكون المدينة مدينة إلا بوجود الحانة حتى وإن توفرت هذه المدينة على أهم المرافق الأساسية المرتبطة بالصحة والتعليم. إن وجودها يقلص من حجم الوصاية على الآفراد خاصة في الدول ذات الآنظمة الاستبدادية. أما الدول الديمقراطية فالحانة هي فضاء أساسي من بين فضاءاتها كدول ديمرقاطية وحداثية، تنعم بالرفاه والحرية.

لا ينبغي أن ننسى أن فترة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في بغداد والاندلس ارتبطت  بوجود الحانات أو الخمارات تماما كارتباطها بازدهار العلوم والفلسفة والنقد والشعر. فكلما كان المجتمع منفتحا على الإبداع والابتكار و تلاقح الأفكارـ تجاورت فيه فضاءات التعبد بجانب فضاءات المتعة والنشوة.

لا يمكن تصور مدينة مثل باريس أو روما أو امستردام أو غيرها من العواصم الغربية دون وجود فضاء الحانة, فهذه المدن رغم توفرها على المتاحف والمسارح وقاعات الأوبرا  وارقى الجامعات, إلا أن تمدنها لا يكتمل إلا بالحانة بما هي  تجسيد لحرية الفرد ورفع الوصاية عنه,

كثيرا ما استلهم الروائيون والشعراء موضوعاتهم و شخصياتهم من الحانة، بل منهم  من ابدع روائعه داخلها، وكان قلما يفارق فضاءها. خلد همنجواي نصوصا باذخة ارتبطت لديه بالحانة، وعلى منواله سار محمد شكري في جل أعماله   ومحمد زفراف في” المرأة والوردة”. وبقدر ما ارتبطت أعمالهم بمدن معينة، ارتبطت في الوقت ذاته بحانات توجد بهذه المدن، لآن هذه الحانات كانت تصالحهم مع هذه المدن بقدر ما كانت تصالحهم مع العالم ومع ذواتهم. فالحانة إذن بقدر ماهي فضاء للاسترخاء هي أيضا فضاء للتأمل والإبدع. رواد الجاز كان يحلو لهم الصدح بأصواتهم وأغانيهم داخل هذا الفضاء الأثير. فيروز انطلقت مع الرحابنة من إحدى حانات بيروت.

قدر كل مدينة حقيقية إذن أن توجد بها الحانة، وإلا استحالت مدينة بدون نسغ وبدون روح، مدينة مملة ومضجرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى