مذكرات
صلاح بوسريف: في بعض ما أكون…
حين عدت من بغداد، أجر خلفي ما درسته من تاريخ قديم، في كلية الآداب، وما كنت درسته من أدب قديم، في كتب التراث التي أتاحتها لي مكتبة الكلية، وما ساعدني الراحل الدكتور صفاء خلوصي في الذهاب إليه من مصادر ومراجع، وما شرحه لي من أمور لم أكن أعرفها، أو كانت شديدة الغموض والتعقيد بالنسبة لي، وساعدني في دراسة علمي البلاغة والعروض، وحتى في التاريخ. كنت ما أزال ظمئا للدراسة والتعلم والمعرفة، ما حثني على التسجيل في شعبة الأدب العربي، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بعين الشق، بمدينة الدار البيضاء، وكانت حديثة الظهور، أغلب من كانوا فيها من أساتذة، جاؤوا إليها من التعليم الثانوي، أغلبهم كانوا غير مؤهلين لما كانوا يدرسونه من مواد، وكانت دروسهم أخذا من مراجع دون إحالة عليها، أو إشارة إليها، ما جعلني أصطدم بأغلبهم، وصرت لا أحضر إلا بعض الدروس، بشكل غير منتظم وغير منضبط، والباقي كنت أتدبره بما حملته معي من كتب من بغداد، وما كنت درسته وعرفته خلال إقامتي في العراق.
لم أكن طالبا نظاميا، كنت أكتفي بحضور الامتحانات، وفي السنة النهائية، كنت سجلت بحث الإجازة في موضوع “تجليات الحداثة في الشعر المغربي المعاصر”، رغبة مني في معرفة الشعر المغربي المعاصر، من جهة، وفي خوض مشكلات الحداثة في الشعر والفكر معا، وكنت قبل السفر إلى العراق، واحدا من جيل الثمانينيات في المغرب الذي كانت ملامحه لم تبد واضحة بعد، وكان الأستاذ الوحيد الذي رأيته قادرا على الإشراف على بحثي هذا، هو الشاعر محمد الشيخي، الذي كنت أناقش معه تفاصيل البحث، ومشكلاته، في بيته، بمنطقة المعاريف، في عمارة تم هدمها وتحول أسفلها إلى قيسارية، وفي كل مكان نلتقي فيه.
كان الشاعر الراحل عبد الله راجع، حين كان حارسا عاما بثانوية مصطفى المعاني، بالحي المحمدي، هو الآخر، عونا لي في التفكير، والتوجيه، وفي قراءة النصوص الشعرية، وتحليلها، وما اكتشفته معه من نصوص وأعمال، ومن تواضع الشاعر والباحث، والإنسان، بالدرجة الأولى، وهذا ما تميز به محمد الشيخي أيضا.
ظننت في البداية أنني ضيعت وقتا كبيرا في الدراسة والبحث، لكنني اكتشفت ، فيما بعد، أن التعلم لا ينقطع، وهو دراسة مستمرة، خصوصا لمن يكون مثلي طالبا غير نظامي، مطرود من التعليم الابتدائي، اكتفى بالكتب، وبكبار الأساتذة والمبدعين والمفكرين، ممن كانوا وما زالوا أصدقاء، من رحل منهم، ومن مازال على قيد الحياة، من المغاربة والعرب، ومن جنسيات ثقافية مختلفة، أتعلم منهم باستمرار، وهم من أعتبرهم الضوء الذي كشف لي وما زال، ما يعتريني من جهل، ما زلت أقاومه بما أوتيت من جهد وقوة، ومن حوار مع كل الأجيال والحساسيات، في كل جهات الأرض، دون غيرهم من الذين شاب قلوبهم مرض لن يشفوا منه، لأنهم حتى وهم يعملون، فما يعملونه هو محض ماء صب في رمل، أو تبخر في الهواء، لا زرع، ولا زهر يخرج منه.