فرانز ليست: موسيقي أجاد عزف الحب في حياته
لوسات أنفو: إلياس أبوالرجاء
لمن هذا العزف؟
لم يكن الغريب سوى فرانز لِيست الصغير، يعزف ما تمليه عليه أنامله الصغيرة، دون ورقة ولا ألحان، يتنقل بين أزرار البيانو، كطير يمرن جناحيه غير مكتملي النمو على التحليق عاليا. انتهى المشهد بدمعة إعجاب منهما، اتجاه عبقرية ليست الموسيقية.
القطعة التي يعزفها لم تكن لا ل”موزارت” ولا ل”هايدك”، فالأب يعرف جيدا كل القطع المسجلة لديه، وما تردد إلى مسامعه الآن، لم يكن أيا منها. وقف الأب رفقة زوجته حائرين في هوية العازف الغريب الذي يداعب البيانو بإيقاع لذيذ لم يسمعا مثله من قبل.
الملاك الصغير وقبلة بيتهوفن
بِقَريةِ “ريدينغ” المجرية، ولد فرانز ليست في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1811، بجسد هزيل لم يتوقع له أن يعمر كثيرا، حتى أن والداه أعدا نعشه مسبقا، غير دارين بأن ليست، ولد ليواجه الحياة بكل تفاصيلها القاسية. أبوه آدم ليست، كان عازفا للبيانو والكمان والتشيللو والغيتار، فأراد لابنه المهنة التي أحبها يوما وأخفق فيها. أما أمه فقد كانت تخشى عليه كثيرا، غير آبهة بموهبته.
ذاع شأن ليست في كل أرجاء القرية، فكان سكانها يتوافدون من مختلف مناطقها، لاستراق بعض الومضات الموسيقية التي تبعث بها نافذة بيته.
بدأت حياة ليست الموسيقية حينما قرر أبوه فجأة، أن يرحلوا إلى فيينا، باعتبارها كعبة الموسيقى آنذاك، ولم يكن همه في ذلك سوى أن يسمع عزف صغيره يتردد في سماء فيينا، الشيء الذي تحقق سريعا، بعد أن دعي للعزف في إحدى مسارحها، في ليلة لا تزال فيينا تحتفظ بأدق تفاصيلها. كيف لا ورب الموسيقى الأصم، بيتهوفن، كان حاضرا في تلك الليلة، بل وصفق للملاك الصغير ليست ثم حمله بين ذراعيه وقبله على جبينه، بعد أن قدم واحدا من أفضل العروض الموسيقية على الإطلاق وهو لم يتجاوز التاسعة من عمره بعد.
لم يطُل مقام ليست بفيينا، إذ قرر الرحيل نحو باريس قصد الالتحاق بمعهدها الموسيقي الذي سيفتح له أبواب النجومية كما كان يعتقد. لكن طموح ليست اصطدم بتعنت مدير المعهد، الذي رفض تسجيله لأنه غريب الجنسية، ولم يشفع لليست في ذلك، التوصية التي كان يحملها رفقة والده من أمير فيينا. إلا أن ذلك لم يمنع عزف ليست من التحليق في أرجاء باريس بحفلاتها ونواديها، حتى غدا رمزا من رموز المدينة.
حبسة الموسيقى
يقول الكاتب العظيم أرنست هيمنغواي “تصارعت مع الثيران في إسبانيا، واصطدت وحوشا وحيوانات كثيرة مفترسة في غابات أفريقيا، ونجوت من رصاصة في الحرب في أثناء عملي مراسلا حربيا.. أما أكبر خطر واجهني فهو الورقة البيضاء”، ويقصد هنا حبسة الكتابة التي أصابته في فترة من الفترات، كما أصابت كتابا كبارا غيره. أما ليست فقد أصيب بحبسة الموسيقى، حيث أصابه الملل اتجاه حياته، وأحس بأن عليه أن يكرس حياته للرب لأنه اختاره لذلك. ليكتشف والده أن ابنه يعاني من مرض نفسي، فساعده وأرشده إلى أن عاد إلى عزف موسيقى حياته، وشرع في تأليف ألحان جديدة خاصة به.
الحب الأول غالبا ما ينتهي بنفس الطريقة!
ولأن الموسيقى تعبير عن الحب، التقطت إحدى الفتيات إشارات ليست الموسيقية، والتقط هو الآخر إشارة الحب الفائض من عينيها المشرقتين، إلى أن فتح عليهما والده الباب فجأة يوما، وكان جسدهما ملتصقين كما تلتصق أنامل ليست بأزرار البيانو وقت العزف، فلم يكتب لهذا العناق الموسيقي أن يكتمل، ورغم ذلك فقد استمرت الفتاة في زيارة ليست زيارات سرية بشكل خاطف.
لفظ والده أنفاسه الأخيرة في رحلة جمعت الإثنين معا إلى شمال فرنسا، فكانت وصيته الأخيرة لابنه أن يشفق عن أمه، ويأخذ حذره من النساء لأنهن قد يأخذن عبقريته ويجعلن حياته جحيما.
واصل ليست رحلة الحياة بمنأى عن والده المتوفي، فعاد إلى فرنسا حيث التقى والدته، تجدد ألمهما معا بالفقد، فتوالت عليهما الليالي الحزينة. أدرك ليست حينها أن من واجبه أن يعيل والدته، فشرع في كسب المال من خلال العزف في النوادي العامة.
دروس موسيقى الحب
بدأ ليست في تقديم دروس موسيقية لابنة وزير التجارة آنذاك بطلب من زوجة الأخير، استمر ليست في تقديم الدروس الموسيقية ل”كارولين” يوما بعد يوم، وسرعان ما اخترق قلبها بعزفه الذي عجزت عن مقاومة سحره. انتهت قصة الحب المرفوض هي الأخرى بعدما دخل عليهما والدها أثناء تبادل دروس موسيقى الحب.
نكسة أخرى انضافت لحياة ليست، فلم يكن له أن يقاومها سوى بالعودة إلى وسواسه الديني حين أصبح يقضي ساعات طوال في بيوت الله متقربا وباكيا. بل وفكر في ترك الموسيقى، إلا أن وعده لأبيه يجعله يعدل عن هذه الأفكار السخيفة.
سمفونية الثورية
تجاوز ليست أزمته الخاصة، فوجد نفسه محاطا بأزمة أخرى ترفع فيها الأعلام وتعلو فيها هتافات المتظاهرين التي اخترقت نفس ليست. ثورة فرنسا 1830 أعادت الثقة والإيمان لليست بمجتمع أنقى، ما جعله يصبح جزءا منها، حيث ألف “سمفونية الثورية” كهدية لثوار ذلك اليوم. انتقل عزفه من التعبير عما يختلج صدره من مشاعر الحب والحزن وغيرها، إلى اقتحام الشارع والتعبير عن الواقع، متدرجا فيها بين العنف والسلم، والأمل والألم، والسعادة والحزن.
الطائر الحر
ما إن تجاوز ليست جرحه الأخير، حتى وقع في حب امرأة ثلاثينية متزوجة، كانت أمَّ إحدى طلبته، جمعهما عشق الفنون والموسيقى.
كانت تربطه آنذاك صداقة وثيقة بكل من “شوبان” و”برليوز”، لدرجة أنه كتب كتابا حول شوبان الذي اعترف له بموهبة استثنائية.
ازداد تعلقه بمحبوبته الثلاثينية، إلا أنه كالطائر الذي يرفض أن تقيد حريته، وما إن وجد الفرصة لذلك، عانق حريته وهجر فتاته.
حب الحبيبة أم حب الحياة؟
وفي إحدى الليالي بباريس، حضرت إحدى النساء من علية القوم “الكونتس داجولت” حفلة موسيقية لليست، فأعجبت بعزفه ودعته لمنزلها، وهكذا نُسجت أولى خيوط أكثر قصص الحب غرابة. قصة استمرت عبر الرسائل والبطاقات المتبادلة، التي كانت مفعمة بالحب. يقول ليست في إحدى رسائله الموجهة إليها:” ليس لي سواك يعطيني الحياة. ما أخيب أملي إذ لا أراكِ الآن، أكتبي إلي! حدثيني عن أمس! عن تلك الليلة! هل رقصت؟ أين غدوت؟ حدثيني عن كل هذا!”.
تجدد لقاؤهما بعدما كانا بعيدين، فقطعا أي اتصال بالعالم، وعاشا حياة بوهيمية تنقلا خلالها بين عوالم عاطفية صنعوها بأنفسهم، إلى أن استقبلا مولودا اختارا له اسم “بلاندين”.
تحول بيتهما إلى مكان فخم يأوي إليه عظماء الفن والموسيقى والأدب، فقد كان يتردد على ذلك البيت، فيكتور هيجو بقامته القصيرة، وجورج صاند رفقة عشيقها الموسيقي، شوبان، بالإضافة إلى بلزاك ولاميتي. إلا أن الكونتس كانت تجد نفسها غريبة في هذه المجالس، فلم يكن يخفف عنها في ذلك سوى عزف ليست.
سئمت الكونتس من كثرة تنقلات ليست، إذ أنه زار كلا من فرنسا وإنجلترا والنمسا وبولونيا وألمانيا وسويسرا…يدرس خلال زيارته فنون البلد، ويترك بها بصمته الموسيقية المعهودة.
بلغ ليست الثلاثين من عمره، ولم يزده ذلك سوى مجدا وزهوا، وتشبتا بلذائذ الحياة، ما أثار نوعا من الغيرة في نفس الكونتس، إذ كان ليست مواظبا على مواعيده الغرامية مع معجباته، وما أكثرهن! إلا أنه دائما يعود إلى محبوبته ليطمئن على صحة أولادها.
راحت الرسائل بينهما تحمل طابع الكآبة والعتاب، فكانت بداية القطيعة التي ستنشأ بينهما، فلم يبق لليست تواصل سوى مع أولاده.
الحب الأخير وبداية النهاية
وشاءت الأقدار أن يلتقي في إسبانيا صدفة ب”كارولين”، تلميذته السابقة، فقضيا فترة قصيرة معا، استحضرا خلالها حبهما القديم وذكرياتهما الجميلة، إلى أن أخلفت كارولين موعد الوداع مع ليست الذي كان سيسافر في رحلة إلى بلاد أخرى، لم تخلف كارولين الموعد سوى لأنها لم تعد في هذا العالم، بعدما أنهكها المرض.
انتهت قصة كارولين في العالم ومعها علاقتها بليست، إلا أن الحياة أبت إلا أن تلاقيه مع كارولين أخرى، الأميرة الروسية التي تعرف عليها في كييف، وعاشا معا في قصرها بروسيا. كان تأثير كارولين على ليست مغايرا لكل قصص الحب التي عاشها، فكانت تدفعه ليعزف حين يستبد به الكسل. لم تسع لتقييد ليست كما سعت لذلك حبيباته السابقات، فهي تعرف جيدا قيمة الحرية بالنسبة للفنان، وهكذا لم تقف في طريق مغادرته إلى مدينة ڤيمار الجرمانية آنذاك، بل كانت نصيحتها “كن رسول الفنانين”، وكذلك كان.
لم تنقطع رسائل الحب بينهما، بل واصل كل واحد منهما في نظم قصيدة حبه للآخر على شكل رسائل، يقول ليست في إحدى رسائله الموجهة إليها:
“ها أنا ذا في هذه الغرفة ، على هذا المكتب ، أجلس قريباً من هذه النوافذ التي رأيتك منها كثيراً. كل الأمتعة التي تحيط بي إنما هي أنفاس عنك تحدثني بلغة ما أفصحها وما أحزنها ! وهذه الجدران تتمتع بما لا أدركه من سلام صارم، كأنه سكون ، أو بسمة محسنة أعزيها أنت إياها”
عاد ليست إلى باريس، إلى بيته، إلى أمه، إلى أولاده، وكأن باريس باحة استراحة بالنسبة إليه.
التحقت الأميرة هي الأخرى بباريس، وماذا يريد ليست أكثر؟ يعزف لهم ألحان الحياة السعيدة التي يتحسسها الآن، وينفخ في نفوسهم غرائزها.
إلا أنه كلما ظن أنه أخضع الحياة وتمكن منها، تفاجئه بما يفجعه. شكل موت ولده البكر دانييل ضربة قاصمة لا تشف. لم تمهله الحياة فرصة الحزن على هذا الفقد، حتى عصفت بابنته بلاندين هي الأخرى إلى عالم الأموات. أحاط به اليأس من كل جانب، فلا الموسيقى استطاعت التخفيف مما أصابه، ولا أطلاله القديمة فعلت، أصابه الضجر من جديد تجاه حياته، وهو الذي بلغ الخمسين من عمره، وحلت علامات الهرم على وجهه، إلا أن ليست أبى أن يعترف بفعل الزمان، محتفظا بسحره الخاص الذي يجتذب النساء، ونفسه العاشقة للحياة.
لم تكن تربطه بالأميرة بعد ذلك سوى رسائل الصداقة المتبادلة، وبعض الزيارات عندما يحل بروما، شيئا فشيئا إلى أن اندثر حبهما بين ثنايا الزمان.
أصبح جسد ليست هزيلا غير قادر على مواصلة رحلة الحياة، فقد اشتد به الهرم، وكثر مرضه، وعاد جسده إلى حالته الهشة التي كان عليها عند ولادته، فكان ذلك بالنسبة إليه إشعارا باقتراب النهاية رغم تحامله عليها.
وفي زيارته لابنته ببايروث الألمانية، أصابته حمى شديدة ألقت به إلى الفراش، وهناك كتبت نهاية العبقري العظيم عام 1866، ودفن في مقبرة المدينة، غير بعيد عن مدفن صديقه ڤاغنر.