مذكرات

سيرة بين الجبل والوطن (5)

الحلقة الخامسة: حين يتحوّل الفرح إلى صدقة

يكتبها عبد الرزاق بن شريج

تقديم
بعد حفل القرآن الكريم يوم الاثنين، وحفل الموسيقى والرقص يوم الأربعاء، جاء الخميس ليحمل موعد الحفل النسائي الخاص.
حفلٌ لطالما كان استثناءً عن باقي المناسبات؛ لا في توقيته ولا في طبيعته، إذ كان مزيجًا من النكت والسكيتشات والموسيقى الخفيفة، تتناوب على تنشيطه حادة البوزكرية وصديقتها مسعودة الحلوانية، بينما تتولى فرقة الشابة فريدة الغناء والرقص.
لكن القدر كان يخبئ مفاجأة ستقلب كل شيء رأسًا على عقب…

أشغال الخميس
كانت شمس الخميس قد بدأت تميل نحو كبد السماء حين بدأ فناء “الدويرية” في بيت آيت بندريس يتحوّل إلى خلية نحل. النساء يسرن بخطى مسرعة بين القدور والصحاف، يتنقلن كجنديات في معركة صغيرة، يوزعن الأدوار ويرفعن الأصوات بالأوامر والضحكات.

في وسط الفناء وقفت الحاجة الرحالية، شامخة وسط دخان الطناجر وبخار الكسكس، تدير المشهد بحنكة اكتسبتها من سنوات الخبرة:
– “زيدي شوية الملح هنا يا حادة البوزكراوية!”
– “وانتِ يا حادة الحميدية… راقبي الفران ما يتحرقش الخبز!”

بينما كانت حادة العَرَبية منشغلة بتنظيف الدجاج وتتبيله، كانت راضية أم سعيد تلف صغيرها في “توب التقميطة” بعد أن غيرت له حفاظاته التقليدية، فالحفاضات المعملية لم تكن قد دخلت الدوار بعد.
أما السعدية فكانت منهمكة في إعداد الحلويات تحت ظل شجرة الزيتون، تضع العجين على الطاولة الخشبية وتوزع المهام على بناتها الصغيرات.

في زاوية أخرى جلست فطومة، الزوجة الأولى لـ محمد بن دريس، تراقب حركة النساء بنظرة صارمة تحمل بين طياتها حرصًا على بقاء زمام السيطرة بيدها. بجانبها كانت فطومة أم عبد الرحمان تبتسم بوجهٍ ودود وهي تتحدث مع نسوة الدوار، فيبدو حضورها أكثر هدوءًا ولطفًا.

توافد المدعوات
مع اقتراب العصر، بدأت النسوة المدعوات يتقاطرن من كل أركان الدوار، يحملن معهن بناتهن وأولادهن الصغار، وبعضهن اصطحبن حتى ضيفات عابرات صادف توقيت زيارتهن توقيت الحفل، فالدعوة في القرى لا تستثني أحدا حتى العابرين، كما أن دار أيت بن دريس دار الكرم، …
امتلأ الفناء سريعًا، فالنساء حريصات على استثمار كل ثانية من لحظات الاحتفال الاستثنائي المقام على شرفهن، إذ قل ما تجدن فرصة للاجتماع وتفريغ ما بأنفسهن، وتعالت أصوات الأطفال وهم يركضون بين القدور والصحاف، مثيرين الفوضى في صفوف الطباخات.

لم تُخفِ الحاجة الرحالية انزعاجها، وهي تمسح العرق بطرف منديلها:
– “هادي ما بقاتش وليمة… هادي غزوة! ما غاديش يكفي الأكل لكل هاد الرواج!”

ضحكت حادة الحميدية، وهمست لجارتها:
– “الرحالية كتعرف تدبّر حتى على الجياع… غير صبري وتشوفي!”

الخبر الصاعقة
وقبل العصر بقليل، وقع ما لم يكن في الحسبان…
دخل رجل غريب، تحمل ثيابه غبار الطريق وملامحه منهكة من عناء السفر. جاء من مدينة افضالة، عبر حافلة اليهودي المغربي “شاؤول”، الحافلة الوحيدة التي تحل بالمنطقة مرة في الأسبوع،
اقترب الرجل من محمد بن دريس وهمس في أذنه بكلمات قليلة، ثم تراجع خطوة إلى الخلف.
جلس محمد إلى الأرض فجأة، وصوته متهدج:
– “ماتت… الله يرحمها.”
تجمّد المجلس، وتطايرت الهمسات بين الحاضرات:
– “شكون مات؟”
– “زوجة ولد عمهم فإفران…”
الوفاة حدثت قبل أسبوعين، لكن انعدام وسائل التواصل والاتصال وقلة وسائل التنقل جعل الخبر يصل متأخرًا، فالخبر حمله شخص أخر من إفران لصديقة هذا بمدينة افضالة مند أربعة أيام، …

مجلس القرار
اجتمع الكبار في الغرفة الكبيرة: محمد بن دريس، وأخوه عبد الرحمان، ووالدتهما فطومة العجوز.
ساد الصمت لحظات، لا يُسمع فيها سوى خفقان القلوب.
قال محمد بنبرة حزينة:
– “نأجلو الحفل كامل… ما يبقاش لا غناء ولا رقصة.”
اعترض عبد الرحمان بحزم:
– “التأجيل ما عندو حتى معنى… الأكل واجد والناس حاضرة. نكتفيو بالوليمة ونحسبوها صدقة على روحها.”
أومأت فطومة العجوز برأسها بتثاقل:
– “صح… حرام نرجعو الناس بلا خبزة ولا فرحة، وخير الصدقات ما كان في الجمع.”
خرج القرار صارمًا: لا موسيقى ولا رقص. تحول الحفل الذي كان يُنتظر بلهفة إلى وليمة صدقة على روح الفقيدة.

تحوّل الأجواء
أخبرت الحاجة الرحالية الحاضرات بالقرار:
– “النية تبدلات… اللي غادي يتكل يتكل بنية الصدقة، وكلنا لله راجعون.”
تبدلت الملامح، وامتزجت الدموع بالدعوات، وانقلبت الألسنة من الغناء إلى الترحم.

رحلة العزاء
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد؛ فقد كان على محمد بن دريس أن يقوم بواجب آخر. بصفته المسؤول عن علاقات العائلة، كان عليه السفر إلى إفران لتقديم العزاء شخصيًا، أعدّ فرسه البيضاء، وشدّ لجامها بيدٍ واثقة رغم اضطراب قلبه.
إلى جانبه وقف “أبا ديدي”، أحد رعاة غنم أيت دريس، يستعد لمرافقته حتى دار ولد زيدوح، ليعيد الفرس، حيث تمر الحافلة المتجهة إلى قصبة تادلة، ومنها الطريق الطويل نحو إفران.
وقفت أمه فطومة وزوجاته الثلاث على العتبة تودعنه بعيون دامعة، بينما أمسك عبد الرحمان بكتفه قائلاً:
– “الله يسهل الطريق عليك… بلغ السلام والدعاء.”
غادر محمد، تاركًا وراءه “الدويرية” تغلي بالمشاعر المتناقضة:
طعام الفرح صار طعام صدقة، وضجيج النساء انقلب همسًا بالدعاء، والبيت الكبير دخل مرحلة جديدة من الترقب.

عبد الرزاق بن شريج

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى