مذكرات

حلقات من تاريخ نقابة مفتشي التعليم (2)

الحلقة الثانية: رحلة وجع وحيرة انتهت بميلاد نقابة مستقلة

عبد الرزاق بن شريج/ عضو مؤسس لنقابة مفتشي التعليم

شهادة شخصية موثقة حول السياق والأحداث التي أفضت إلى ميلاد نقابة مفتشي التعليم بالمغرب سنة 2003.
الغاية: حفظ الذاكرة النقابية لجهاز التفتيش وتوثيق اللحظات المفصلية في تاريخ نقابته.

الحيرة والخذلان النقابي

لعل ما كتبته في الحلقة الأولى التي عنونتها بـ «دواعي تأسيس نقابة مفتشي التعليم” لم يُشفِ غليل بعض المؤسسين، إذ لم أتوسع بما يكفي في الأسباب العميقة والمعاناة النفسية التي دفعتنا إلى هذا الخيار. وأقول هنا إن شهادتي تظل شهادة خاصة بي، أنا عبد الرزاق بن شريج، من زاويتي التي عشتها، وما تقاسمته مع من حملوا الهم نفسه من زملاء وفاعلين، سواء بوصفي مؤسسا وكاتبًا عامًا وطنيًا لجمعية مفتشي التعليم (لأزيد من 12 سنة)، أو كعضو في النقابة التي كنت أنتمي إليها: الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، فما أتوفر عليه من وثائق رسمية صادرة عن التنظيمات الجمعوية، وحتى عن اللجنة الوظيفية الوطنية والجهوية التابعة للنقابة آنذاك، يوضح بجلاء قساوة الوضع النفسي والمعنوي الذي عشناه كمنتمين؛
لقد كانت أيامي، وأيام زملائي، مثقلة بالأسئلة الموجعة:
لماذا غيرت النقابة نظرتها لي لما أصبحت مفتشا؟
أأبقى في تنظيم نقابي لم يعد يحتضنني كما كان حين كنت مدرسا، وما يعيشه المفتش من مقاومة داخلية من إخواننا في التنظيم، وخاصة المسيطرين على المكاتب باسم الديمقراطية العددية؟
أم أنفصل عنه لأواجه مصيرًا مجهولًا؟
لقد نبهنا المسؤولين كما سبق ذكره في الحلقة السابقة إلى أن هذا الإقصاء والتهميش الممنهج لمجموعة من الفئات سيؤدي طال الزمن أو قصر إلى انشقاقات وخروجها من التنظيم، وهو ما وقع ويقع إلى اليوم؛
قساوة تلك الحيرة لا يشعر بمرارتها إلا من عاش اللحظة بكل تفاصيلها، ومن وجد نفسه مصلوبًا بين خيارين لا يُرضيان القلب ولا يخففان الألم، كنتُ أنظر إلى نقابتي باعتبارها أمي، التي يفترض أن تمنحني الحنان والاحتضان، لكنني اكتشفت، مع الزمن، أنها تعاملني كربيبها أو كابن للجيران، لا كابنٍ حقيقي له حق الرعاية والانتماء؛
لن أنسى أبدًا تلك الرسالة التي وجهها الزميل بنيونس السايح نيابة عن أعضاء اللجنة الوظيفية الجهوية لهيئة التأطير والمراقبة التربوية ابتدائي بالجهة الشرقية، بتاريخ الأحد 14 أبريل 1999 إلى المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للتعليم، لقد لخّصت، بأسلوب نقابي دقيق وجريء ومؤدب، كل ما كنا نشعر به من حيرة وألم وغبن …

الشرارة التي فجّرت الوعي النقابي

لقد لعبت جمعيات المفتشين دورًا محوريًا في نشر فكرة تأسيس نقابة فئوية مستقلة خاصة بنا. غير أن بعض أعضاء المكاتب قاوموا الفكرة بشدة، بحجة أنها ستؤدي إلى تشتيت فئات التعليم، وأن تأسيس نقابة سيقضي على الجمعية، لكنني، من خلال معايشتي، كنت أتفهم ذلك، وأرى أن الدافع الأعمق لذلك الرفض هو عدم القدرة على مغادرة النقابة الأم التي ترعرعوا في أحضانها، ونظرا لعلاقة تنظيماتهم السياسية بتلك النقابات، فأغلب القياديين في جمعيات مفتشي التعليم ينتمون لتنظيمات سياسية مختلفة التصور والفكر والخلفية، وتلك أزمة أخرى عشتها وتفهمتها …
دون مبالغة يمكن اعتبار تصريح وزير التربية الوطنية خلال افتتاح الندوة الوطنية الثالثة لجمعية مفتشي التعليم الابتدائي، المنعقدة بمجمع الشباب بفاس أيام 26 و27 و28 أبريل 2002، من تنظيم الفرع الإقليمي للجمعية أزواغة مولاي يعقوب، بمثابة الشرارة التي أججت وعي المفتشين بضرورة الانتظام النقابي المستقل. فقد كشف الوزير، أمام الملأ، أنه واجه معارضة شرسة من بعض النقابات حين بادر إلى اقتراح تخصيص تعويض شهري قدره 2000 درهم لفائدة هيئة التفتيش، بل وأورد بالاسم موقف الكاتب الوطني لإحدى النقابات، الذي خاطبه قائلاً: “إذا أردت التقرب من المفتشين فامنحهم تعويضات من مالك الخاص”؛
لقد كان هذا التصريح، بما حمله من دلالات على موقع هيئة التفتيش في حسابات بعض الفاعلين النقابيين، بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، ومهّد الطريق نفسياً وتنظيمياً لتأسيس نقابة خاصة بالمفتشين.

اجتماعات التأسيس وتحديات البدايات

انعقدت لقاءات عدة، وتعددت الاجتماعات بين المفتشين في مجموعات متفرقة: مجموعة الجنوب، مجموعة الوسط، ومجموعة الشمال الشرقي. لكن منخرطي الجمعيات، وخاصة جمعية مفتشي التعليم الابتدائي، لعبوا دورًا أساسيًا في جمع هذه المجموعات المنفصلة. وهكذا، كان الاجتماع الأول بين مجموعة الشمال الشرقي ومجموعة الوسط في الرباط، وخلصنا فيه إلى ضرورة توسيع النقاش ليشمل أكبر عدد من ممثلي الأقاليم والجهات. ثم كان الاجتماع الثاني في سلا. ولعل من أبلغ ما يوضح صعوبة تلك المرحلة، أننا حصلنا على ترخيص باستعمال القاعة المغطاة بسلا لعقد الاجتماع، لكن حين حضر المفتشون وانتظروا طويلًا، غاب المسؤول عن فتح القاعة، وبعد تردد وقلق، تواصلنا مع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، التي فتحت لنا مقرها الفرعي بسلا، الذي ضج بالمفتشين لدرجة أن كثيرين منهم لم يجدوا كراسي، ورغم ذلك لم نيأس، بالعكس، اتفقنا على أن تستمر اللجنة التحضيرية في توسيع دائرة الاتصال بكل المفتشين، سواء كانوا منخرطين في الجمعيات أو منتمين للنقابات، حتى نصل إلى أكبر عدد ممكن. ولم يكن أمامنا سوى الرسائل الورقية أو الهاتف الثابت كوسائل للتواصل، أو الترويج لفكرة تأسيس نقابة كلما اجتمع المفتشون في إطار التكوينات الجهوية أو الوطنية، ومع ذلك، صمدنا، واتفقنا على عقد اجتماع حاسم بفاس نهاية فبراير 2003.

طلائع الفرج ولحظة استعادة الكرامة

وبعد جهود دامت أكثر من سنتين، جاء اليوم الموعود: الأحد 2 مارس 2003. التقينا في نادي التعليم بفاس على الساعة العاشرة صباحًا، في لقاء تحضيري تاريخي. حضره أكثر من 150 مفتشًا من مختلف الفئات (ابتدائي، ثانوي، توجيه وتخطيط، واقتصاد)، يمثلون 42 نيابة من مختلف ربوع الوطن. كان المشهد مؤثرًا، أن ترى هذا العدد الكبير من المفتشين وقد جاءوا بدافع الأمل في بناء إطارهم المستقل. ناقشنا الفكرة والتوجهات بروح عالية، لا تخلو من صدامات فكرية وسياسية، وخرجنا بإجماع لا يُنسى:
أن تكون النقابة مستقلة؛
غير تابعة لأي حزب سياسي، أو مركزية نقابية؛
لكنها منفتحة على كل التيارات الحزبية والنقابية وجمعيات المجتمع المدني؛
وأن تتمثل في هياكلها جميع الفئات والجهات، بما يضمن وحدتنا رغم اختلافاتنا الفكرية والسياسية والإيديولوجية. وفي ختام اللقاء، انتخبنا لجنة تحضيرية من عشرة أعضاء، كنت من ضمنهم، حيث ضمت:
ثلاثة مفتشي التعليم الابتدائي، ثلاثة مفتشي التعليم الثانوي، ثلاثة مفتشي التوجيه والتخطيط، ومفتشًا واحدًا في الاقتصاد.
كانت تلك لحظة فارقة، شعرت فيها لأول مرة أننا بدأنا نكتب تاريخنا بأيدينا، وأن صوت المفتش لم يعد هامشًا في دفتر النقابات، بل أصبح عنوانًا لكرامة مستعادة، ونضال نوعي على الساحة النقابية بالمغرب.

سأعود في الحلقة المقبلة للحديث عن أشغال اللجنة التحضيرية والمؤتمر التأسيسي الذي وضع اللبنات الأولى لنقابتنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى