بورتريه

من مالك مقهى إلى روائي.. الحياة المثيرة لهاروكي موراكامي

لكي تصل إلى النبع لابد أن تسبح ضد التيار

هاروكي موراكامي (مواليد 12 يناير 1949) ليس مجرد كاتب ياباني عادي، بل هو ظاهرة أدبية عالمية استثنائية. بيعت أكثر من 100 مليون نسخة من كتبه التي ترجمت إلى أكثر من 50 لغة، وحصل على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة مثل جائزة فرانز كافكا (2006) وجائزة القدس (2009) وجائزة الشيخ زايد للكتاب (2025). ما يميز موراكامي هو قدرته الفريدة على مزج الواقعية السحرية مع الخيال المعاصر، واستكشاف موضوعات عميقة مثل الحب والفقدان والوحدة والبحث عن معنى الوجود. في هذا المقال، سنستعرض حياة هذا الكاتب الاستثنائي منذ نشأته وحتى تحوله إلى أيقونة أدبية عالمية.

تأثيرات الحرب

وُلد موراكامي في مدينة كيوتو اليابانية عام 1949، ضمن طفرة المواليد بعد الحرب العالمية الثانية، ونشأ في مدن شوكوغاوا (نيشينوميا) وآشيا وكوبه. كونه الابن الوحيد لأبوين كانا يعملان في تدريس الأدب الياباني، نشأ في بيئة مثقفة لكنها لم تخلُ من الصعوبات. والده كان ابنًا لكاهن بوذي، ووالدته ابنة لتاجر من أوساكا. كان لوالده تجارب مؤلمة خلال الحرب الصينية اليابانية الثانية، وهي صدمة تركت أثراً عميقاً على موراكامي الابن، كما ذكر في مقالته “التخلي عن قطة: ما أتحدث عنه حين أتحدث عن والدي”.

على عكس معظم الكتاب اليابانيين، تأثر موراكامي منذ طفولته بالثقافة الغربية بشكل كبير، خاصة في مجال الموسيقى والأدب. كان يقرأ أعمالاً لكبار الكتاب الأوروبيين والأمريكيين مثل فرانس كافكا وجوستاف فلوبير وتشارلز ديكنز وكورت فونيجت وفيودور دوستويفسكي وريتشارد بروتيغان وجاك كيروك. هذا التأثر الغربي المكثف جعله مختلفاً عن الأغلبية العظمى من الكتاب اليابانيين، وأعطى لأعماله طابعاً عالمياً منذ البداية.

 لحظة البيسبول السحرية

قبل أن يصبح كاتباً، كانت حياة موراكامي بعيدة كل البعد عن الأدب. بعد دراسة الدراما في جامعة واسيدا في طوكيو، حيث التقى زوجته يوكو، افتتح موراكامي مقهى وحانة لموسيقى الجاز أسماه “بيتر كات” في كوكوبونجي بطوكيو، وأداره مع زوجته بين عامي 1974 و1981. في تلك الفترة، كان يعيش حياة بسيطة مليئة بالديون والتقشف، كما يصفها: “عنوان الطور الأول من حياتي هو الكدح من وريد الصباح إلى وريد الليل بغية تسديد القروض”.

 ضربة المضرب التي غيرت حياته

في عام 1978، بينما كان موراكامي يشاهد مباراة بيسبول بين فريقي “ياكولت سوالوز” و”هيروشيما كارب”، حدثت اللحظة التي غيرت حياته إلى الأبد. عندما ضرب اللاعب الأمريكي ديف هيلتون الكرة، شعر موراكامي بإلهام مفاجئ: “أعتقد أن في إمكاني أن أكتب رواية!”. يصف هذا الشعور بأنه “إحساس دافئ” ما زال يشعر به في قلبه. بعد المباراة مباشرة، اشترى كومة أوراق وقلم حبر سائل، وبدأ الكتابة على مائدة المطبخ في الساعات التي تسبق الفجر، وهي الفترة الوحيدة التي كان يمتلك فيها وقتاً فراغاً.

 “اسمع الريح تغني”

في غضون ستة أشهر من الكتابة الليلية، أنجز موراكامي روايته الأولى “اسمع الريح تغني” (1979). الغريب أنه كتبها أولاً باللغة الإنجليزية التي لم يكن يتقنها تماماً، ثم ترجمها إلى اليابانية، وهي طريقة غير مألوفة ساعدته في تطوير أسلوبه المميز. أرسل الرواية إلى المسابقة الأدبية الوحيدة التي تقبل أعمالاً بهذا الطول، وفاز بالجائزة الأولى، مما شجعه على مواصلة الكتابة.

تطور الثلاثية الأدبية

بعد النجاح الأول، نشر موراكامي جزءاً ثانياً بعنوان “بينبول، 1973” (1980)، ثم الجزء الثالث “مطاردة خروف بري” (1982) الذي لاقى نجاحاً نقدياً كبيراً. هذه الروايات الثلاث شكلت ما يعرف بـ”ثلاثية الجرذ”، والتي تدور حول راوٍ بدون اسم وصديقه المسمى “الجرذ”. رغم أن موراكامي أضاف لاحقاً جزءاً رابعاً بعنوان “رقص، رقص، رقص”، إلا أن أحداثه لا تعتبر جزءاً من السلسلة الأصلية.

مزيج فريد من التأثيرات

يتميز أسلوب موراكامي بمزيج فريد من العناصر الغربية واليابانية، حيث يجمع بين السريالية والسوداوية والقدرية، مع تركيز على موضوعات الانسلاخ الاجتماعي والوحدة والأحلام. كتاباته تعلق بالذهن بسبب قدرته الفريدة على تصوير مشاهد حية لا تنسى، وشخصيات يمكن ربطها ببعضها بسهولة دون تعقيدات مفرطة.

النهايات المفتوحة والغرائبية

من السمات البارزة في أعمال موراكامي استخدامه للنهايات المفتوحة التي تترك القارئ بين الاستغراب والرضى، كما في روايات مثل “كافكا على الشاطئ” و”1Q84″. هذه النهايات تعكس فلسفته بأن الرحلة أهم من الوصول إلى نهاية محددة، حيث يقول: “في رواياتي الرحلة هي الأهم، الأحداث التي تجري حتى عند عدم وصولها للنهاية هي المغزى من القصة، وليس الوصول للنهاية”.

التأثيرات الموسيقية والرياضية

لموسيقى الجاز تأثير كبير على أسلوب موراكامي الكتابي، حيث يقول: “أكتب وكأني أعزف قطعة موسيقية، فالجاز مصدر إلهامي الأساسي. لأن الجانب الأهم من عزف الجاز هو الإيقاع، إذ لا بد من الحفاظ على إيقاع متين من البداية إلى النهاية، وفي ذلك درس مفيد لكتابة الرواية أيضاً”. بالإضافة إلى ذلك، فإن ممارسته لرياضة الركض (بدأها في سن 33) ساعدته في تطوير الانضباط اللازم للكتابة الروائية الطويلة، كما يظهر في روايته الضخمة “1Q84”.

“الغابة النروجية” والنجاح العالمي

صدرت “الغابة النروجية” (1987) التي تعتبر من أشهر أعمال موراكامي، وتحكي قصة شاب جامعي يموت صديقه فيعيش الموت كمفصل من مفاصل الحياة، وتتحول حياته إلى أخيلة جنسية، حيث يكتشف أن الحدود بين الأشياء تتداعى ويختلط فيها الواقع بالخيال، الموت بالحياة والعقل بالجنون. هذه الرواية حققت لموراكامي الشهرة العالمية وجعلته من أكثر الكتاب اليابانيين قراءة خارج اليابان.

“كافكا على الشاطئ” والواقعية السحرية

في روايته “كافكا على الشاطئ” (2002)، يقدم موراكامي عملاً مليئاً بالغرائبية والعناصر السحرية، من القطط المتكلمة إلى انتقال الوعي والسفر عبر الزمن. تتبع الرواية شخصيتين رئيسيتين: كافكا تامورا الفتى الهارب من لعنة أبيه، والعجوز ناكاتا الذي يستطيع التحدث إلى القطط بعد حادث غريب في طفولته. هذه الرواية تعتبر من أكثر أعماله غرابة وإثارة للتساؤلات الفلسفية.

“1Q84” والملحمة الروائية

بين عامي 2009-2010، نشر موراكامي روايته الضخمة “1Q84” (إيتشي كيو هاتشي يون باليابانية) التي تمتد على ثلاثة مجلدات وتقدم عالماً موازياً غامضاً. الرواية تتبع شخصيتين مختلفتين ترويان الأحداث بضمير المتكلم، وتتقاطع قصتاهما بشكل غريب في عالم يشبه عالمنا لكنه مختلف عنه.

الانضباط اليومي والروتين الصارم

يتبع موراكامي نظاماً صارماً في حياته اليومية ليكون منتجاً أدبياً: النوم مبكراً، الاستيقاظ باكراً، ممارسة الرياضة (خاصة الركض)، وعدم الخروج ليلاً أو ارتياد الحانات. هذا الانضباط يسمح له بالكتابة لمدة 5-6 ساعات يومياً، حيث يعتبر أن الكتابة تتطلب “قوة بدنية استثنائية” كما يقول: “إن جرّبت الكتابة سوف تفهم من دون شك أنك تحتاج إلى قوّة بدنية استثنائية، لكي تجلس كل يوم إلى مكتب أمام شاشة حاسوب… لا بد من بذل مجهود ذاتي مستمر كي تحافظ على قوتك البدنية”.

الحرية الإبداعية ورفض القيود

يؤمن موراكامي بأن على الروائي أن يكون حراً، يكتب ما يحلو له دون وصاية أو بحث عما هو مثير للقراء. هذا الموقف جعله يبتعد عن المؤسسة الأدبية اليابانية التقليدية التي انتقدت بعض أعماله لبعدها عن المنهج الأدبي الياباني الكلاسيكي. رغم فوزه بالعديد من الجوائز، إلا أنه يقلل من أهميتها مقارنة بتفاعل القراء مع أعماله، حيث يقول: “لا شيء له معنى أكبر من أولئك الذين يدسون أيديهم في جيوبهم لكي يشتروا كتبه، لا الجوائز ولا الميداليات ولا الإطراء النقدي. ما يبقى أولا وأخيرا هو العمل الأدبي لا الجائزة الأدبية”.

تأثيرات متبادلة مع الثقافة العالمية

يعد موراكامي اليوم من أبرز روائيي اليابان والعالم، حيث تصدر رواياته بلغات عديدة وتحصد الجماهيرية والجوائز وتتصدر الصفحات الثقافية. أعماله أصبحت مصدر إلهام للعديد من الأفلام والبرامج التلفزيونية، كما أن أسلوبه الفريد أثر على جيل كامل من الكتاب حول العالم.

الجوائز والتكريمات

حصل موراكامي على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة، منها جائزة فرانز كافكا (2006)، جائزة القدس (2009)، جائزة الأميرة أشتوريس الأدبية (2023)، وجائزة الشيخ زايد للكتاب (2025). رغم تكهنات كثيرة بفوزه بجائزة نوبل للأدب، إلا أنه لم يحصل عليها حتى الآن.

“مهنتي هي الرواية”

في كتابه “مهنتي هي الرواية” (2024)، يلخص موراكامي تجربته الإبداعية التي تمتد لأكثر من 35 عاماً، معبراً عن “دهشة الكتابة” التي ما زال يشعر بها حتى اليوم. الكتاب ليس دليلاً تقنياً للكتابة، بل تأملات شخصية في معنى أن تكون روائياً، مستندة إلى تجربته الفريدة التي بدأت بضربة مضرب بيسبول غيرت حياته إلى الأبد.

هاروكي موراكامي ليس مجرد كاتب ياباني نجح عالمياً، بل هو ظاهرة ثقافية فريدة استطاعت أن تجسر الهوة بين الشرق والغرب، بين الواقع والخيال، بين العمق الفلسفي والسرد الشائق. من مقهى الجاز الصغير في طوكيو إلى قمة الأدب العالمي، تبقى رحلة موراكامي دليلاً على أن الإبداع الحقيقي يمكن أن يولد من أبسط اللحظات وأكثرها عفوية، إذا اقترن بالموهبة والعمل الدؤوب والرؤية الفريدة. كما يقول هو نفسه: “لكي تصل إلى المنبع فلا بد من أن تسبح عكس التيار”، وهذه بالضبط هي الفلسفة التي جعلت من هاروكي موراكامي أحد أعظم كتاب عصرنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى