الرأي

أيوب داهي يكتب : البديل الايديولوجي المنتظر

أيوب داهي : عضو المجلس الوطني للحزب الاشتراكي الموحد

تعتمل اليوم في وعي النخب المغاربية  و العربية أسئلة حارقة و اشكالات وجود حقيقية , تتصل أساسا  بروح و بجوهر المشروع السياسي المعاصر القادر على مواكبة أسئلة التأخر التاريخي و الديموقراطية, خصوصا أن الايديولوجيات السياسية الكلاسيكية المعروفة التي تملئ المشهد اليوم, تعيش أزمة حقيقية و غير مسبوقة من حيث افلاس  أجندتها  المجتمعية و تراجع قدرتها على التعبئة و التأثير و  إلهام الجماهير و صياغة المشاريع البديلة. فاليسار الجذري الذي كان  دائما الحاضن لمطامح التحرر و أحلام العدل و العدالة و صوتا لفئات الشعب الكادح و المهمش, يعيش اليوم كما  الامس على ايقاعات الشتات و التشظي و فقدان البوصلة بين ارثه الثوري الراديكالي و ضرورات التكيف و الواقعية السياسية. نفس التشخيص الموسوم بعمق الازمة و لو بدرجة أقل ينسحب  على  حركات الاسلام السياسي التي فقدت زخمها الشعبي بعد ان اختبرت الحكم و اصطدمت بإكراهات ادارة الدولة الحديثة و حسابات السياقات الدولية.

فهل يمكن الحديث منذ الان   عن موت الايديولوجيات التقليدية و نهاية دورها التاريخي ؟ و هل حان الوقت للحديث عن صعود بدائل فكرية جديدة تنقذ السياسة و تنهي حالة الركود و الانتظار ؟ و هل  تستطيع هذه البدائل الفكرية و السياسية ان وجدت,  أن تتجاوز جدليا هذه الايديولوجيات و تؤسس لمرحلة سياسية جديدة ؟

في منطقتنا العربية و المغاربية ينقسم الوعي السياسي اليوم  الى ثلاث أشكال و تعبيرات, الشكل الأول تمثله  السلطويات التي تتشكل من كل الانظمة السياسية التي تحكم في المنطقة, و الشكل الثاني من الوعي تمثله  حركات الاسلام السياسي التراثية و العميقة الجذور في هذه المجتمعات , ثم آخر الأشكال هي تنظيمات اليسار التقدمي/العلماني.

سينصب اهتمامنا في هذا المقام على التعبيرين المجتمعيين الثاني و الثالث, مادام ان أنظمة المنطقة السياسية حسمت أمر تبعيتها لمراكز الغرب الامبريالي, دليل ذلك تشبتها بشكلها السلطوي و افتقارها لاستقلالية قرارها السياسي, فلا مصلحة لها اذا  في انجاز مهام التحرر الوطني و تجاوز حالة التأخر التاريخي.

تفرض التحولات الراهنة اذا ملاحظة أساسية, مفادها ان طرفي التناقض المركزي الذي يخترق الانساق السياسية لمجتمعات المنطقة,  تعبر عنه  حصريا سلطويات هذه المجتمعات  من جهة, ثم كل التعبيرات السياسية المعارضة  لهذه السلطويات بصرف النظر عن مرجعياتها الفكرية و الايديولوجية  من جهة أخرى . و من وجهة نظري  فان عدم الوعي بهذا الفرز من لدن طرف التناقض الثاني  هو الذي من المحتمل ان يساهم في اطالة عمر هذه السلطويات و في تمديد مراحل عدم الاستقرار السياسي و الحضاري في المنطقة مستقبلا, كما انه سيعطل لامحالة كل حركة حضارية منتجة, و سيجعل هذين  التيارين يتناوبان فقط  على خدمة هذه السلطويات, رغم ما سيبدو انه تناوب على السلطة , لكنه في الحقيقة سيكون تناوبا هداما يعزز من الاستبداد و  يدفع بحركة النمو الى  ان تكون دائرية و نقضية عوض ان تكون  سهمية و تراكمية.

الى حدود سنوات التسعينات, كانت هناك ثلاث تقاليد عقائدية تنطوي على فكرة للتغيير و هي  القومية و الماركسية و الاسلام السياسي. القومية التي جسدتها أفكار جمال عبد الناصر و جواهر لال ناهرو و هوشي منى, و هي الافكار المناهضة للاستعمار و الرافضة للبرجوازية الكمبرادورية و لكافة انظمة الهيمنة السياسية و الاقتصادية, هذه القومية قدمت وعودا فاقت قدرتها على التحقيق, رغم تقدمها في مجالات التربية و الصحة و الاصلاح الزراعي و التصنيع, لكنها فشلت في تحقيق المساواة و توزيع الثروة ما افقدها شرعيتها, خصوصا مع تحول هذه  الحكومات القومية المناهضة  للاستعمار الى انظمة حكم تسلطية, اثقلت بالديون و اجبرت على اعتماد برامج تقويم هيكلي. هذا الانكفاء الذي عرفته الايديولوجية القومية ساهم في بزوغ  التيارات الماركسية الراديكالية في المنطقة, بعد أن الهمتها الثورة الكوبية و الفيتنامية و تفجر التمرد العالمي للطلاب سنة 1968. لكن الوضع انقلب رأسا على عقب بعد  انهيار الاتحاد السوفياتي, و التحول نحو تبني التغيير الاجتماعي المتدرج من طرف  اغلب الاحزاب الشيوعية العالمية. كما عجزت حركات الاسلام السياسي الناشئة في السبعينات و التي استمدت مشروعها من أفكار سيد قطب  المناهضة للدولة العلمانية في العالم الاسلامي, و التي نادت  باستيلاء النخبة الاسلامية على السلطة, رغم  انتصار الثورة الايرانية, عن معالجة مشكلة التفاوت الاقتصادي و تحقيق التنمية و التقدم و العدالة الاجتماعية.

يظهر جليا اذا من خلال تجارب التاريخ,  عدم قدرة  هذه المرجعيات الفكرية و المشاريع السياسية كل واحدة على حدى على بلورة مشروع النهضة و التقدم. لكن  استمرار وجودها بالرغم من   تأثيرها المحدود و المتواضع , يجعل الرهان التاريخي اليوم الذي سيحقق الطفرة و البديل الايديولوجي المنتظر, هو دمج هذه الايديولوجيات داخل فضاء واحد, بمركز واحد, و قيادة واحدة توحد الرؤى السياسية و تكثف  المصالح الاستراتيجية و تلتف حول مختلف الحركات الاجتماعية و الديناميات الشعبية لكي تنجز مهام الانتقال السياسي السلمي بأقل كلفة ممكنة.

ان اعتراف الاسلاميين بوجود تيار علماني يساري تقدمي آخذ في التشكل و التجذر و الانغراس داخل المجتمع , و قبول التيار العلماني اليساري من جهته بأن التيار الاسلامي المحافظ يشكل مكونا أصيلا لا يمكن تجاوزه أو استئصاله, يمثل هذا الامر في جوهره شكلا  ناضجا و مسؤولا من ‘ القبول بالآخر’ و تجاوز منطق التعالي و التخوين المتبادل, كما انه سيهيئ الارضية الصلبة  لبناء هذا الفضاء المشترك الذي سيؤمن مجال واسع للفكر الحر و للنقد المتبادل البناء و  الذي سيتيح الفرصة لمحالة   للفكرة التي ينادي بها عبد الله العروي بشأن ‘ استيعاب مكتسبات الليبرالية دون المرور بالضرورة  من تجربة ليبرالية كاملة كمرحلة اساسية من أجل تحقيق النهضة و تجاوز التأخر التاريخي’.

ان حرية التعبير و التفكير و الابداع في منطقتنا  لا يمكن ان تنتزعها الا منصة جامعة  لساسة و انتلجنسيا  و مناضلين و اطارات حقوقية , مختلفة المشارب المذاهب. و تشييد هذا الفضاء و هذه الجبهة هو دق لجرس الانطلاق نحو اللحظة الليبرالية الضرورية لتجاوز تأخرنا التاريخي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى