هل يجتاز العالم أزمة خيال؟

محمد عبد الله يونس (مركز أنتر ريجونال)
“إن القوة الحقيقية للأمم ليست فيما تملك من موارد، بل في قدرتها على تخيل مستقبل مختلف وصياغته بجرأة”. تكشف هذه العبارة عن درس تتردد أصداؤه مراراً في عالم السياسة. قد يبدو الخيال في العلاقات الدولية للوهلة الأولى موضوعاً بعيداً عن الواقع السياسي الصارم وما تفرضه حسابات المصالح والتكلفة والعائد من مواءمات؛ إلا أن الخيال يشكل ركيزة أساسية ليس فقط للتفكير في مستقبليات بديلة، بل للتعامل مع عدم اليقين والضبابية ومواجهة الأزمات.
ومع ذلك، في عالم العلاقات الدولية اليوم، يجد الساسة والخبراء على السواء أنفسهم في حالة متزايدة من “فقر الخيال” (Poverty of Imagination) مع تراجع القدرة على التفكير خارج الصندوق والتشكيك فيما يعتبره البعض حتميات أو مسلمات في قراءة الواقع أو صناعة بدائل السياسات. وبدلاً من تصور حلول جديدة ومبتكرة، نجد العديد من الفاعلين يتشبثون بالنماذج التقليدية التي ثبت مراراً إخفاقها في تحقيق نتائج إيجابية.
كيف نفسر إذن التعثر المتتالي في استيعاب المفاجآت الاستراتيجية، والافتقار للجاهزية في مواجهة الأزمات، واللجوء السريع للأدوات التقليدية مثل الحرب والتصعيد العسكري رغم ما تتضمنه من استنزاف غير مجدٍ للموارد في الكثير من الحالات؟ والقائمة تطول لتشمل العديد من تجليات قيود “صندوق السياسات” الذي يأسر صناع القرار ويفقدهم القدرة على المبادرة والفعل.
إعادة تدوير السياسات
في عالم مليء بالتغيرات المفاجئة والمشاكل المتعددة الأبعاد، يعاني النظام العالمي من تآكل القدرة على ابتكار حلول جديدة وإبداعية للتعامل مع هذه التحولات السريعة، إذ تتعدد تجليات هذا الفقر المزمن في الخيال بما يتسبب في العديد من الإشكاليات المعقدة.
1- التعرض المتزايد للمفاجآت الاستراتيجية: أضحى الفاعلون الدوليون عرضة للمباغتة بأحداث وتطورات غير متوقعة، سواء في سياق التفاعلات السياسية أو في خضمّ المواجهات العسكرية المحتدمة، بحيث أصبحت عمليات الإنذار المبكر والأمن الوقائي غير قادرة على استشراف التهديدات ومواجهتها. إذ يبدو أن حزب الله لم يكن يتخيل قدرة إسرائيل على تنفيذ اختراق سلاسل التوريد بالكيفية التي أسفرت عن “تفجيرات البيجرز واللا سلكي” في 17 و18 سبتمبر 2024، وبعدها لم تتمكن وحدات استخبارات الحزب من التصدي للاختراق التنظيمي وعمليات استهداف قياداته تباعاً التي بلغت ذروتها باغتيال الأمين العام للحزب في الموقع المحصن للقيادة المركزية تحت الأرض ومعه عدد من قيادات الحزب في 27 سبتمبر 2024. وقبل ذلك لم تتمكن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من توقع “هجوم 7 أكتوبر” الذي نفذته حركة حماس، أو حتى التعامل معه واحتواء تداعياته في أحد نماذج إخفاق آليات الإنذار المبكر في إسرائيل.
2- الاعتماد على الحلول العسكرية التقليدية: في مواجهة أغلب الأزمات والتحديات، تلجأ الدول تلقائياً للحلول العسكرية التقليدية باعتبارها الخيار الأول والأكثر حضوراً على الرغم من محدودية فاعليتها في تحقيق النتائج المرجوة. ويعد الصراع الدائر في أوكرانيا منذ فبراير 2022 نموذجاً للاستنزاف المتبادل وانعدام جدوى التصعيد العسكري، وهو ما ينطبق على العديد من الصراعات الممتدة والحروب الأهلية. ورغم الأدلة على عدم فاعلية هذه الحلول في تحقيق المصالح الوطنية على المدى الطويل، تظل الدول متشبثة بهذه الطرق التقليدية، مما يعكس نقص الخيال في تصور بدائل للجوء للقوة العسكرية.
3- الإخفاق في توقّع الاتجاهات القادمة: جزء كبير من أزمة الخيال يكمن في عدم قدرة العديد من الدول والمؤسسات على توقع الاتجاهات والتحديات المستقبلية. أصبحت الأزمات والتحولات السريعة تفاجئ مراراً صناع القرار الذين لا تدعمهم مؤسسات وكوادر قادرة على التفكير الاستشرافي بما يسمح لهم بالاستعداد للأزمات القادمة، ما يؤدي إلى استجابات متأخرة أو غير مناسبة.
4- تعثر صياغة الاستراتيجيات والتخطيط بعيد المدى: أصبح التفكير قصير المدى والتعامل بنهج ردود الأفعال والتجربة والخطأ سائداً في سياسات العديد من الدول، وهو ما يرجع إلى عدم القدرة على وضع استراتيجيات بعيدة المدى أو تخيل مستقبليات بديلة، كما أن صناعة السيناريوهات من جانب العديد من مراكز التفكير وشركات الاستشارات أصبحت أقرب لرؤى حول استمرارية الوضع الراهن بصياغات متفاوتة مع صور تبسيطية لمستقبل لا يختلف كثيراً عن الحاضر.
5- تزايد التشاؤم المجتمعي بشأن المستقبل: يؤدي الشعور بانعدام الحيلة إزاء التحولات غير المتوقعة إلى شيوع التشاؤم حيال المستقبل لدى المجتمعات والأفراد، حيث يسود الشعور بالعجز عن التأثير في مسارات الأحداث الكبرى. هذا الشعور يعزز أزمة الخيال، إذ يصبح التفكير في حلول مبتكرة أقل أهمية مع تزايد القناعة بأن التغيير غير ممكن، وأن البقاء والتعايش مع الواقع هو أقصى الطموح الذي يُمكن تحقيقه.
6- ضعف أدوار المنظمات الدولية: منذ النشأة كانت المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة من أهم أدوات تسوية الصراعات والحيلولة دون تفجرها والتعامل مع تداعياتها، إلا أن الآونة الأخيرة قد شهدت تراجعاً حاداً في أدوار المنظمات الدولية لأسباب تتعلق بتعارض أدوارها مع مصالح القوى الكبرى والبيروقراطية والجمود الذي أصاب بنيتها الداخلية مما عرقل قدرتها على التكيف مع المواقع وتقديم حلول مبتكرة للأزمات الدولية.
7- تراجع التعاون الدولي متعدد الأطراف: بصفة عامة، يتعرض التعاون الدولي متعدد الأطراف لتراجع مستمر، حيث تفضل الدول الكبرى اتخاذ قرارات أحادية أو ضمن تحالفات مصلحية ضيقة. حتى التجارة الدولية التي تعود بالنفع على أطرافها أصبحت موضع خلافات حادة، وتحولت إلى “حروب للتجارة” بين القوى الكبرى تقوم على التشكيك في النوايا وسياسات متبادلة للانغلاق الاقتصادي وفرض عقوبات على القطاعات الاقتصادية الحيوية. ويغيب في هذا المشهد الاستقطابي رؤى إبداعية حول كيفية التعامل مع القضايا المشتركة، مثل: التغير المناخي، والتنمية الاقتصادية، ومحاربة الفقر.
الخيال في الأدبيات
إن مراجعة ما كُتب عن الخيال في العلاقات الدولية تضعنا في مواجهة مباشرة مع توماس هوبز ورؤيته التشاؤمية للطبيعة البشرية ومستقبل التفاعلات العابرة للحدود باعتبارها “حرب الكل ضد الكل”، وهو ما يعزز ثقافة الخوف والنزعة المصلحية والذاتية في السياسات الخارجية، ويضع سقفاً لأي تصور لمستقبل تعاوني قائم على المصالح المشتركة. كما يدفع الدول للتسابق في بناء القوة العسكرية، والتحسب للتعرض للعدوان طوال الوقت، مما يعزز من ظاهرة “المعضلة الأمنية”، حيث تسعى الدول إلى بناء القوة العسكرية لمواجهة التهديدات المتوقعة، حتى وإن كانت هذه التهديدات غير مؤكدة.
وفي رافد آخر، فإنّ حدود الخيال تتشكل بصورة كبيرة من خلال السرديات الثقافية السائدة، حيث يؤكد ريموند ويليامز وستيوارت هول أن الثقافة والإعلام يسهمان في تشكيل الوعي الجمعي من خلال ترسيخ روايات ثابتة، وهو ما يخلق تياراً سائداً (Mainstream) يحد من قدرة المجتمعات على تخيل سيناريوهات جديدة ومبتكرة.
وتكشف تجارب “الامتثال الاجتماعي” لسولومون آش كيف يمكن لضغط المجموعة أن يحد من الإبداع الفردي. إن تفكير الجماعة (Group Think) وفقاً لأدبيات علم النفس يرسخ من الأفكار التقليدية المكررة، وإعادة إنتاج الرؤى والتصورات والسياسات في دائرة مغلقة من الحوار بين متماثلين؛ حيث يتم استبعاد الأفكار المختلفة وغير التقليدية باعتبارها مخالفة للمعايير المتعارف عليها من المجموعة.
“بندكت أندرسون”، في كتابه الشهير “المجتمعات المتخيلة” (Imagined Communities)، أشار إلى أن الهوية الوطنية بحد ذاتها هي نوع من الخيال المشترك. الأدبيات الحديثة في العلاقات الدولية تستفيد من هذه الفكرة لتسليط الضوء على أن الهويات والأنظمة الاجتماعية تُبنى على الخيال، وأن هذا الخيال يمكن أن يكون قوة دافعة للتغيير. ولكن مع تفاقم الأزمة الحالية، يتم تجاهل هذا النوع من الخيال لصالح روايات أكثر تشاؤماً ومحدودية.
وفي المقابل، يتجلى الخيال واضحاً في رؤية “جوزيف شومبيتر” حول “التدمير الخلاق” (Creative Destruction) الذي يشير إلى أن الابتكار قادر على إحداث تغييرات جوهرية في الأنظمة الاقتصادية. ومع ذلك، فإن الكتابات الأحدث والممارسات الاقتصادية الراهنة تشير إلى أن الأنظمة الرأسمالية الحالية تميل إلى التركيز على المكاسب قصيرة الأمد، مما يعزز من النماذج التقليدية، ويقيد التفكير في حلول طويلة الأمد ومستدامة.
إن كتابات ناعومي كلاين حول “عقيدة الصدمة” (Shock Doctrine) و”رأسمالية الكوارث” (Disaster Capitalism) ثم مؤلفاتها الأحدث حول “تغيير كل شيء” و”الرأسمالية في مواجهة المناخ” تؤكد أن التحديات البيئية العالمية تتطلب إعادة تخيل جذرية للأنظمة الاقتصادية والاجتماعية. وتدعو إلى تجاوز النماذج الحالية التي تركز على الاستهلاك الرأسمالي إلى نماذج مستدامة تعتمد على الابتكار وإعادة ترتيب الأولويات.
وفي سياقات التكنولوجيا، يوفر مفهوم “رأسمالية المراقبة” (Surveillance Capitalism) رؤية حول كيفية تحول التكنولوجيا إلى سلاح مزدوج، فمن ناحية توفر الأدوات التكنولوجية إمكانيات هائلة للتعاون والإبداع، ومن ناحية أخرى يمكن أن تؤدي إلى تقليص التفكير النقدي من خلال تعزيز الروايات الموجودة والفلترة المعلوماتية. كما أن الوفرة غير المسبوقة للمعلومات (Abundance of Information) والإغراق المعلوماتي تخلق معضلة الانتقاء والاختيار والاستبعاد في تعاملنا مع معطيات الواقع مما يخلق صوراً متباينة ومدركات متناقضة لنفس الحدث، وهو ما يعني أن قدرتنا على فهم الواقع نفسه ناهيك عن تخيل واقع بديل تتعرض لتحديات كبرى.
لماذا لا نتخيل؟
إذا كنت من دراسي “العلوم السياسية”، بالتأكيد قد تكرر على مسامعك منهج “تحليل النظم” لديفيد إيستون ورفاقه، وكيف قاموا بالتتابع بصك هذا الصندوق العجيب المُسمى “النظام” بالاستفادة من العلوم البيولوجية، والذي يتكون من مدخلات تشمل المطالب والتأييد، وعمليات تحويل أو صنع القرار ومخرجات في صورة قرارات وسياسات وتغذية عكسية. ينطوي هذا الصندوق على نقاط عمياء عديدة أسهمت في تكريس فقر الخيال لدى أجيال من المحللين، فهو يعتبر عملية صنع القرار صندوقاً أسود لا يمكن معرفة ما فيه. ويعتبر كافة ما هو خارج النظام فراغاً يطلق عليه “البيئة”.
تجاوزت العلوم السياسية هذا المنهج القاصر شكلاً وجوهراً، ومر في أنهارها فيض من مناهج وأدوات تحليل الظواهر السياسية من مدارس شتى، وظلت الدراسة الأكاديمية العربية تعتبره اقترابها المفضل لتغرس في أجيال متتالية العجز عن التخيل والقدرة على الرؤية السليمة لواقع تفاعلات المجتمع والسياسة.
التعليم والتنشئة إذن نقطة بداية ملائمة لفهم أزمة الخيال، فالنظم التعليمية التي تعتمد على الحفظ والتكرار تقلل من قدرة الأجيال الجديدة على التفكير النقدي والإبداعي. هذه الأنظمة التعليمية التقليدية تُعتبر أحد العوامل الأساسية التي تقوض الخيال الجماعي، وتساهم في استشراء واستيطان النزعة التقليدية الرتيبة في تفكير الكثيرين.
الجانب الآخر للمعادلة هو التعقيد المتزايد للعلاقات الدولية الراهنة والتشابك بين قضاياها وتتابع أزماتها بصورة غير مسبوقة. هذا الضغط المتواصل وحصار المستجدات يدفع صناع القرار والمنشغلين بالشأن العام للبحث عن نقطة توازن ونهج متعارف عليه للتعامل مع التطورات المتلاحقة بعيداً عن المقامرة غير محسوبة العواقب. ويغيب عن الكثيرين أن أزمات وإشكاليات الحاضر لا يمكن مواجهتها عبر توظيف الأدوات التقليدية التي تم تطويرها في الماضي لأن العالم تغيرت معطياته إلى غير رجعة.
يرتبط ذلك بجانب سيكولوجي مهم هو الشعور المتزايد بانعدام الحيلة والإحباط نتيجةً لفقدان التحكم في المصير وتراجع القدرة على الفعل لدى العديد من المجتمعات خاصةً في دول الجنوب وبين صفوف الأقليات والجماعات المهمشة في المجتمعات المتقدمة أيضاً. إن سياسات الهيمنة والأحادية سواء في النظام الدولي أو النظم الإقليمية، واختلال توزيع القوى والموارد، يخلق حالة من الاستسلام للواقع لتجنب الوقوع تحت طائلة العقوبات والتصنيف ضمن القوائم السوداء للاستثمار والتجارة، أو التصنيف ضمن “محاور الشر” و”الدول المارقة” مما يقلص من فرص تغيير الوضع الراهن.
البعد الرابع، هو الدورات قصيرة الأمد للسياسة الانتخابية وتراجع فاعلية السياسة والقدرة على التغيير، فالانتخابات في النظم الديمقراطية ترسخ الطابع الوظيفي للسياسة باعتبارها وسيلة لإعادة الانتخاب لتنفيذ سياسات لا يتجاوز مداها فترة انتخابية قصيرة. هذه النزعة نحو الحلول السريعة والمؤقتة تنسف الأفكار والاستراتيجيات بعيدة المدى وتستبعدها من دوائر صنع القرار باعتبارها “غير عملية” ولا تحقق مكاسب سياسية آنية، فيتم ترحيل المشكلات المعقدة إلى أن تتفاقم وتستعصي على الحل.
البعد الخامس لمعضلة الخيال، يتمثل في العلاقة الملتبسة مع “إرث التاريخ” فالتجديد والتخيل لا يعني الانفصال عن الدروس المستفادة من التاريخ لتجنب تكرار أخطاء الماضي والاستفادة من التجارب السابقة في بقاع العالم. وفي المقابل، فإن الذوبان في التاريخ والإغراق في التقاليد والخوف من التغيير يؤدي إلى تكلس المؤسسات والسياسات بحيث تصبح عاجزة عن معاصرة الزمن الراهن. ولنأخذ مثالاً على التشبث بدور “المجمع الانتخابي” في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أو الحق في ملكية السلاح، رغم ما يترتب عليهما من ارتدادات سلبية على الدولة والمجتمع.
ماذا بعد؟
ما الذي يترتب على غياب الخيال عن تفكيرنا في السياسة؟ المزيد من الوضع الراهن وأكثر مما يمكننا تخيله، صراعات لا نهائية تنشب نتيجةً لمناخ الخوف المتبادل وترقب التحركات العسكرية غير القابلة للتفسير، تسويات غائبة بسبب فقدان الدبلوماسية لفاعليتها، ما يعني معاناة مضاعفة للمدنيين في مناطق الصراعات.
وفي هذا المناخ، يتصاعد الاستقطاب العنيف بين الفاعلين الدوليين مع توسع الخلافات بين الدول لغياب رؤى مشتركة لمعالجة القضايا العالمية، ويكون البديل هو امتداد الصراعات الجيوسياسية بين القوى العظمى، والتسابق على تحقيق مكاسب سريعة على حساب الغير مع شيوع الانتهازية وفقدان الإيمان بوحدة المصير البشري.
يرتبط ذلك بإخفاق كامل في التعامل مع الأزمات الإنسانية الكبرى، مثل اللاجئين والنزوح القسري أو الكوارث البيئية، وكذا التعامل مع التغير المناخي والاحتباس الحراري والأوبئة المستقبلية غير المعروفة. وفيما يتعلق بالحوكمة الدولية فإن المنظمات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، ستفقد تدريجياً علة وجودها بسبب الجمود والبيروقراطية والهياكل المؤسسية المتقادمة، فضلاً عن فقدان الفاعلية في التعامل مع الأزمات الدولية.
وتكتمل هذه الصورة القاتمة بتهميش دور المجتمع المدني في صياغة الحلول العالمية. بينما كان من الممكن أن يلعب المجتمع المدني دوراً أكبر في تقديم رؤى مبتكرة لمعالجة الأزمات، يتم إقصاؤه لصالح السياسات الحكومية التقليدية. هذا التهميش يحد من قدرة المجتمعات على المشاركة في صنع القرارات، ويقلل من فرص التوصل إلى سياسات أكثر عدالة وشمولاً.
إن غياب التصورات المستقبلية الإيجابية يعزز من مشاعر التشاؤم والقدرية بين الأفراد والمجتمعات. تشير الدراسات إلى أن الأفراد يفقدون الثقة في قدرتهم على إحداث تغيير في النظام العالمي، مما يؤدي إلى تراجع المشاركة السياسية والاجتماعية، ويعزز من الاتجاهات المتطرفة في بعض الحالات.
الخروج من الصندوق
الإفلات من السيناريو المظلم يبدأ من التعليم والتنشئة والاستثمار في جيل جديد لديه مهارات الابتكار والإبداع والتجربة وروح المغامرة ونزعة التفكير المستقبلي البنّاء، وبالتوازي إجراء مراجعة شاملة لثوابت ومسلمات الدراسة الأكاديمية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية بصفة خاصة، مع رعاية منتديات للحوار المفتوح العابر للتخصصات بين الخبراء والباحثين والدارسين حول حالة العلوم السياسية ومستقبلها.
وفي عالم السياسة الفعلية، فإن الخروج من أسر الأفكار التقليدية و”تفكير الجماعة” أصبح حتمياً عبر تكتيكات تفكير ونقاش لمخالفة السائد وتعزيز الرؤى النقدية في دوائر صنع القرار مثل أدوار “محامي الشيطان” (Devil’s Attorney) وغيرها من الممارسات الفكرية التي تهدف للتشكيك في جدوى السياسات القائمة وطرح بدائل جديدة.
ويتصل ذلك بإعادة هيكلة المؤسسات الدولية وخاصةً الأمم المتحدة لتصبح أكثر شمولاً وتمثيلاً لدول العالم، مع منح الدول النامية فرصاً أكبر للمشاركة في صنع القرار على المستوى الدولي، وتعزيز الابتكار والتفكير المستقبلي في التعامل مع الأزمات.
إن مواجهة النزوع الدائم نحو توظيف القوة العسكرية والانجراف نحو الصراعات المسلحة يتطلب أيضاً توسيع دوائر السياسة العالمية لتصبح أكثر تضامنية، بحيث يتم تعزيز أدوار الفواعل المجتمعية والأفراد في طرح رؤى وأفكار جديدة حول مستقبل العالم.
وقد يكون توظيف الذكاء الاصطناعي وطفرات التكنولوجيا الجديدة في تعزيز الخيال الإبداعي مفيداً عبر توفير بيئات افتراضية تتيح للأفراد والمجتمعات تصور سياسات تعاونية لمواجهة القضايا المعقدة والتي تهدد مصير البشرية.
وفي المحصلة النهائية، لا توجد إجابة واحدة صحيحة أو معالجة مثالية لقضية نضوب الخيال الجماعي في العلاقات الدولية. يبقى الباب مفتوحاً لتخيل المزيد من الأفكار والأطروحات لكيفية استعادة قدرتنا على التخيل، وصناعة مستقبل أفضل لدولنا وأمتنا والبشرية بأسرها.
المصدر: مركز انترريجونال