مذكرات

محمد الشارخ في مراكش.. الكتب و الفن و الحياة

عبد الصمد الكباص

لست هنا في مقام كتابة مأثمية. ما دامت الحياة في حد ذاتها هي موت أحد ما. إنها كتابة عن حضور دائم، لا يستطيع أي حدث تبديَده. ولهذا الحضور اسم يشع في قلوبنا، هو محمد  الشارخ، الذي كرس الحياة فينا محبة وجهدا وقيمة. عرفته كما عرفه كلُّ الناس، قريبهم و بعيدهم، شقيقا للحياة وأخا لكل البشر.

وحدهم أولئك الذين يحظون بعبور استثنائي، يُدوِّنون رحيلهم في سجل حياتنا دَيْنا ينبغي لنا  سداده، و الصديق الأعز مخمد الشارخ من طينة هؤلاء. عرف جيدا كيف يبتكر ذاته بأناقة، و يبدع مساره، و ينحت حياته كتحفة فنية، ناشرا عدوى الجمال و المحبة بين أصدقائه. فجعل من السخاء مفاجأةَ المكان الذي يصير معه مجازا من مجازات الصداقة التي منها تغتني الحياة، مستجليا في الزمن ما يكفي لاستدامة ما يحملنا على المقاومة ضد القبح و البشاعة. كان لقائي به في مطلع هذه الألفية بفضل شخصيتين أَدِين لهما بهذه الصداقة، هما أستاذنا محمد عابد الجابري و الفيلسوف عبد العزيز بومسهولي. وكما أدهشني في اللحظة الأولى من لقائنا ظل دائما مثابرا على الأمل مستثمرا في المحبة باذخا في فن خلق الاستثناء و إبداع المشترك الذي لا تضيع فيه قيمُ البساطة و التكامل والإدهاش.

في هذا الموعد الأول استنتجت بسرعة ومنذ اللحظات الأولى أن محمد الشارخ لم يكن سائحا استهوته مراكش، مدينة الشمس و الغبار والحكايات، و إنما مسافر من أجل الحقيقة، و حليف فذ للمعرفة..

في هذا اللقاء، عمل الصديق الفيلسوف عبد العزيز بومسهولي على تشكيل لمَّة من الكتاب و المفكرين و التشكيليين، و كان كل واحد منهم قد  رسخ مساره في العالم الذي يبتكر فيه حريتَه و يدعم مقاومته، في الشعر والفلسفة والفن. أما أنا فكنت في لحظة البدايات مترددا، غير قادر على تحديد موقعي بينهم، و رغم ذلك فقد بدد الصديق المكتشَف حديثا القادم من الكويت، هذه الفروقات بسرعة و سلاسة فائقة، مشكلا نقطة الاتزان والألفة التي تجعل المختلف منسقا و المتباعد مؤتلفا. و ذلك بفضل خفة دمه و قوته في الإصغاء و ابتعاده عن استعراض الذات وتفوقه في استدراج اللغة لكي تتحول إلى تمرين منتج على الغيرية الأصيلة لذواتنا بعيدا عن العودة إلى الأصول السخيفة لأنفسنا، واستجلاءً للمعنى الذي ينكشف في لحظات اللقاء.

في هذا الموعد الأول استنتجت بسرعة ومنذ اللحظات الأولى أن محمد الشارخ لم يكن سائحا استهوته مراكش، مدينة الشمس و الغبار والحكايات، و إنما مسافر من أجل الحقيقة، و حليف فذ للمعرفة، الذي جعل من الصداقة وجهها الثاني. كان مسافرا محملا باحترافه للحياة كشغف و سؤال وقلق، غير مفارق لصداقته الحميمة لأبي الطيب المتنبي الذي أدهشني بتوغله العميق في عالمه الشعري، مستذكرا استعاراته الأكثر غرابة ناثرا حولنا مقاطع من قصائده، منبها إلى الاستثنائي من معانيه. كانت هذه الصداقات التي يحملها معه أيضا أسماء لروائيين و مفكرين من مصر و الكويت ولبنان و تونس و من أقطار و جنسيات أخرى. لم يكن مجرد متجول في المكان، و إنما مُرَحِّل عوالم، كائن محلق في هواء الحرية، يقنعنا أن الحدود مجرد إشاعة لإشباع كسل العقول المنهكة.

بدا صديقنا الأعز قارئا من مستوى رفيع، مستفردا بهروب الحقيقة في تدفق الحياة، باسطا الثقافة، ليس كفرصة للمباهاة، و إنما كاجتهاد في جمالية العيش و كتقنية لممارسة الذات. لذلك كان في زياراته لنا في مراكش حدثا من التقاسم الفريد، للحكايات و المعرفة وفرص الصداقة النادرة التي لم يكن يبخل بها. أذكر في هذا الصدد كيف عَرّفنا على الصديق الشاعر المصري إبراهيم داوود و الفنان التشكيلي جميل شفيق و هيأ لنا لقاء بهما بمراكش و القاهرة بعد ذلك. كان مُلحا على أن نستنتج أنفسنا فيما نعمل، فبالعمل نتعلم العمل وبالحياة نتعلم الحياة أما الموت فلا يحتاج إلى تمرين. لذلك رَتَّب معنا ـ أنا و الفيلسوف عبد العزيز بومسهولي ـ  لقاء ذات يوم على هامش مؤتمر الفكر العربي في سنة 2005 الذي كان أحد متوجيه بجائزة المؤسسة المنظمة. كنا نرشف قهوتنا بمقهى مقابل لقصر المؤتمرات بشارع محمد السادس، عندما توجه نحونا قائلا ” ستذهبان إلى تونس لتشاركا في مؤتمر تجديد الفكر العربي تكريما لصديقي هشام شرابي.” فكان الأمر مقضيا، و تشكلت الفكرة بسرعة كفرصة للقاء و التفكير بقصر الباي مقر بيت الحكمة بقرطاج ، مجتمعين حول صداقة السؤال مع لفيف فائق الأهمية من المفكرين العرب صلاح قنصوة، وحسن حماد، و فتحي المسكيني،  وعبد الوهاب بوحديبة، و خالد قطب ومحمد تركي، و عبد العزيز العيادي، وفتحي التريكي.. كان يعرف جيدا أن الحياة لقاء، وأن العالم هو ما يلاقى و يصادف.

ما ترسخ في ذهني منذ لقائي الأول به، هو أن محمد الشارخ ذاتٌ تتقن نفسها، مُثبتا أن الذات ليست ما نكونه ببساطة، و إنما ما نجرؤ على أن نكونه. فقد عرف أن المستحيل هو المستطاع الأقصى في طبيعتنا، وأن ماهيتنا هي مشاركة تناهينا الأصيل. لذلك طارد اللحظة العابرة كأبدية صغيرة محملة بأحلامه كفائض في الزمن، من خلال العطاء و إنفاق الوجود في ما ينفع غيرَه. أذكر ذات يوم ربيعي حين زارنا بمراكش في أبريل 2004. كان في طريقه من المطار إلى فندق المامونية الشهير  حيث اختار الإقامة، عندما اتصل بنا أنا و عبد العزيز بومسهولي، مرتبا لقاء على مائدة العشاء بمطعم الياقوت في قلب الحمراء العتيقة على بعد 45 دقيقة. لم يمنح لنفسه فرصة للراحة من تعب سفر بعمر ساعات طويلة  مُعلَّقا في السماء. التقينا في ساحة رياض لعروس، و توجهنا مشيا مخترقين الدروب الضيقة لمراكش التاريخية إلى المطعم. كان في قمة نشاطه فرحا بلقاء أصدقائه، كما لو كان يحمل الحياة بكاملها في جيبه. هو هكذا دائما و إلى الأبد، متأهبا للصداقة يأتي. على المائدة أخرج حزمة من الأوراق أعدّها  في نسختين واحدة لي و الثانية للفيلسوف عبد العزيز بومسهولي، عبارة عن نصوص للشاعر محمود بريكان، وتوجه إلينا قائلا” أريدكما أن تكتشفا هذا الشاعر.” واسترسل بشغف نادر في الحديث عن مغامرته الشعرية وعن حياته و ظروف رحيله. و بعدها تدفقت الحكايات بيننا و تشعبت سبل الحديث حول الكتب و الفن والحياة. إنها عادته في التمرن على العطاء و السخاء اتجاه الغير، وتنسيق الغياب كحاضر مقتطع من زمن آخر. بفضله عقدنا قرابة حميمة مع أشخاص لم نلتقهم قط،  وصارت مدن لم نزرها ظلا لخطواتنا.

كانت أروقة الرسامين و ورشات التشكيليين مزارَه الحميم بالمدن حيث يؤثت ألفته بالمكان بغموض الأشكال والتباسات الضوء و الظلال.

عندما قلت إن صديقنا الشارخ كان يختبر العالم باعتباره ما يُلاقى و يُصادف، كان علي أن أضيف أنه كان متعهدَ تفعيل هذه الصدف وتدبير الفرص مؤججا حدوثها، لذلك يصعب أن أذكر المشاريع الكثيرة التي حفزها دون أن ينسبها لنفسه. عندما أسسنا مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب، كان أولُ من تَقاسَمْنا معه الفكرة فالتقطها ببداهة المبدع الذي يسكنه، و انخرط طوعا في دعم أول عمل مشترك أُوَقِعُه مع عزيز بومسهولي بعنوان” الزمان الفكر”. كان حافزه في ذلك أن العالم قرية روحية، وحياةُ الروح هي التأويل. فما يشدنا إلى الحياة هو أن نساهم في تغذية اللغز، لكي تحافظ الأشياء على عمقها المقدس. كان يعرف أنه إذا كان هناك من مجال ينبغي للمرء أن يظهر فيه شجاعتَه فهو مطاردةُ أحلامه. لأن الزمن الذي يبعدنا عن أحلامنا يقربنا من الصمت.

لسنا سوى نسقِ التفضيلات الذي يشكلنا فيما نأكل وما نشرب و نقرأ ونسمع  ونتذوق. كان للشارخ تفضيلاتُه، استثناءاتُه المبهرة. كان بحواس حية متأهبة لمفاجأة الفن و لدهشة الموسيقى. كان يتقن سبل تشكيل يومه كقصيدة. فكانت أروقة الرسامين و ورشات التشكيليين مزارَه الحميم بالمدن حيث يؤثث ألفته بالمكان بغموض الأشكال والتباسات الضوء و الظلال. كان يعرف جيدا أن المحسوس يدربنا على العالم فيما اللغة تمرننا على الآخر. في أحد اللقاءات بمراكش كان معنا الفنان التشكيلي والفتوغرافي  أحمد بن اسماعيل، لم يفوت الشارخ فرصة لقائه دون إثارة قلقه حول مآل الفن في عصرنا. و في ختام سهرتنا نصب موعدا معه لزيارة ورشته، مكانِه السري للعزلة و الخلق. كانت تلك عادته في إدراك المدن كحضرة روحية، وكوجبة فخمة للحواس طَبَقُها الأساسي من الفن و المغامرة في المعنى والغموض، لأن وحدها العقول المتعبة تكره الغموض.

كان الشارخُ يقول ” ليس هناك ما  هو أكثر خسة في عداوته لنا من الزمن، لكن العبقرية أن تجعل منه حليفا..” لم يكن الزمن في تجربة صديقنا ضياعا للذات أو تبذيرا في تراكم الغياب، بل حصّل فيه  نفسَه كقيمة لا الموت ولا النسيان قادران على إنكارها.

كثيرة هي المواعيد التي جمعتنا به في مراكش، و كانت في أغلبها حول مائدة الغذاء أو العشاء: على ضفاف مسبح المامونية، أو بمطعم “الياقوت”  الشهير الذي كان يفضله، أو ب”دار موحى” الذائع الصيت. لكن المائدة لم تكن بالنسبة له لحظة فخمة من جمالية الذوق، بل أيضا وأساسا فرصة لتفعيل العقول الحرة. كان من تفضيلاته متعة الحوار الذي يشكل لديه تبادلا جذريا للحرية. كان يسأل و ينصت. ومن إنصاته نتعلم. مثلما يبادر بطرح رؤيته و نقد ما يقال بعيدا عن الملاذات الآمنة للنفاق أو المجاملة. منه انتبهت إلى قيمة الجبرتي وتعرفت على فارس الشدياق وعدت إلى المعري وصاحبت المتنبي، وأدخلت التكنولوجيا إلى مدار أسئلتي الفكرية. كان كل لقاء  معه مسارا في الإبداع، استثمارا في الأثر الذي يسمو في المستقبل إلى فكرة أو كتاب. لذلك لا غرابة أن نجده مذكورا بالاسم في الفصل الأخير من أطروحة عزيز بومسهولي ” نهاية الأخلاق” حيث يحلل مآل الكونية ومصير اللغة في الزمن الرقمي.

كل من يقترب من محمد الشارخ يدرك فورا أنه ليس مجرد قارئ كبير، و إنما قرّيء، يعرف كيف يسافر بين الكتب و يقيم مساكن في كل مكان بفضلها. لذلك أثَرٌ مباشر على لقاءاتنا، إذ يترب دائما عن اللقاء الأول موعدٌ ثان بعد أن يكون قد طلب منا أن نُعِد له قائمةً بجديد الكتب التي نرى أنها جديرة بالقراءة من الأدب و الفكر المغربيين. كانت القراءة في حياته حقلا خصبا لإنتاج كثافة الزمن و استدعاءً للمستقبل كاختلاف لم يُفَعّل بعد، و عودة بالذات إلى أفق نفسها. وحتى في آخر لقاء لي به، جمعنا رفقة المفكرين عزيز بومسهولي وحسن أوزال بمطعم LA PAIX ، في ربيع 2019، دارت  بي  دروب الحوار للتشعب حول الحقيقة كنظرية في الكذب، مثيرا كتاب ” تاريخ الكذب” لجاك ديريدا، فطلب على الفور أن أدله على مكتبة في مراكش يمكن أن يقتنيه منها. و في اليوم الموالي اتصل بي ليخبرني أنه لم يعثر عليه، طالبا  أن أبحث له عن نسخة رقمية للكتاب. بعد أيام قليلة عاود الاتصال من لندن ليذكرني بإلحاحه على إيجاد ما طلب، و ذلك ما تأتى فعلا بمساعدة من مترجم العمل.

إن كان للزمن من معنى فهو تخلينا عن أنفسنا، كان الشارخُ يقول ” ليس هناك ما  هو أكثر خسة في عداوته لنا من الزمن، لكن العبقرية أن تجعل منه حليفا..” لم يكن الزمن في تجربة صديقنا ضياعا للذات أو تبذيرا في تراكم الغياب، بل حصّل فيه  نفسَه كقيمة لا الموت ولا النسيان قادران على إنكارها. عندما قرأت عبارة  بول أوستر: ” لا تحدث القصص إلا لمن يجيد سردها ” اقتنعت أنه ليس هناك أكثر من الشارخ، جدير بأن يمنح هذه العبارة حياتها الفعلية. فهو حكّاء كبير، ماسك بسحر السرد وألغازه، هكذا كان دائما في لقاءاتنا. و لذلك لم يفاجئني عندما أصدر عمله ” عشر قصص” وبعده رواية “العائلة”. حيث نصب للسرد استحقاقاتِه في حياة تعاش لكي تحكى، منتميا بجدارة إلى مملكة الأدب. فقد توجه إلى المعنى من حيث  هو عبور الآخر بيننا، واسترد حقوق الحدث فيما يُروى، لأنه يعرف جيدا: أنْ  أحكي المكان هو أن أخترعَه من جديد في اللغة، أن أعثر له على التسمية الجديدة التي تليق بحدوثه المفاجئ والمتفرد.

علينا أن نقاوم كثيرا لكي يظل “الواقعُ نفايةَ الفكر”[1]. ففي هذا  العالم المغلف بالحدوس المعتوهة، و في هذا الزمن الصعب حيث يخون الماءُ الماءَ، لا يتبقى من مجد سوى ما رسمته المسارات العظيمة، لكن الأمم لا تنجب العظماء إلا مكرهةً، إذ لن يكون الرجل عظيما إلا إذا انتصر على أمته جمعاء، كما قال شارل بودلير. و محمد الشارخ هو انتصار كبير على سبات جماعي، على غفوة عابرة للأقطار في كبوة الذاكرة. حمل سؤال اللغة العربية همّا كبيرا، و بدا في بدايته كما لو كان من زمن مستعار. و خاض مقاوماته ببطولة نادرة، متمسكا بحق جماعي في المستحيل، لا أحد سينسى مواجهته الشجاعة لامبراطورية بيل غيتس في قلب أمريكا، وتعب السنين في تفعيل العقول من أجل توطين العربية في التكنولوجيا الجديدة، قتاله من أجل استدامة هذه اللغة في عالم الأجيال المقبلة، أجيال الشاشة والشبكة. كان يتحدث معنا عن التكنولوجيا، كما لو كان يتنبأ بالسلالة القادمة التي ستولد في أرض جديدة و تحت سماء مختلفة. كان يعرف جيدا أن العالم يرسي قطائعه، وأن الوقت حان لكي  نكف عن أن نكون من ضحاياه، فلم ينتظر مجيء الحشود لكي تعزز قناعتَه، انطلق فريدا متفردا، و غامر في عنف الفكرة واخترع سُبلَ مجازفاتِها، مواجها هذا الجشع الميتافيزيقي  لدى الغرب في الاستفراد بمهمة التحدث نيابة عن النوع، وفي احتكار مسؤولية وضع المعايير وفرض سرديته. أدرك بنباهته الاستثنائية أن الاستفراد بالتكنولوجيا الجديدة وجه خطير لهذا الاحتكار الغربي لمحكي العالم عن نفسه، لأن التكنولوحيا ليست سؤال الأداة المادية فقط  و إنما تنفيذا للمحتوى، إنها تتمة أخلاقية للموضوع. ومن صالحنا أن نجد منفذا لكي تكون رؤيتنا حاضرة. ولم يكن مجانبا للصواب، و كلنا نختبر عمليا ذلك، عندما نشرع في تعديل هذه السردية من داخل المتاح التكنولوجي الغربي، حيث يتحول الاحتكاك إلى صدام.

محمد الشارخ كان زمنا يسبق نفسه. لم يحاور الحاضر وإنما أنتج المستقبل. إذا كان علينا أن نعرج على مشاريعه في الحوسبة بالعربية، فإن ذلك معروف للجميع. أما الرؤية التي تتحرك  خلفها، فهي شيء استثنائي. غير ما مرة ألح في نقاشاتنا أن اللغة بنية تحتية ذات وظيفة حساسة اتجاه الوجود. و كباقي البنى التحتية فهي تحتاج إلى ارض، إلى حقل للانتشار و مجال للنجاعة الرمزية والمادية. وأرضُ العالم الجديد و سماؤه هي التكنولوجيا الفائقة، حيث ستخرج الحشود من الشاشات و تتدفق الحياة من الشبكة، ويصبح كل شيء رهن نقرة خفيفة أو لمسة رهيفة. نبهني إلى أن اللغة هي المكان الذي نحيا فيه ونموت، الجلد الثاني الذي نحمله فوق أجسادنا، العين الثالثة التي بها نرى ونفكر. لذلك كان همه أن يمنح للعربية حياة جديدة، انبثاقا مؤثرا في عالم سريع مكسو بالتدفقات الهائلة من  أبنية النصوص والمعلومات.

قال سلوتر دايك :”من يتكلم يورط نفسه في الدَين، ومن يواصل الكلام لا يفعل شيئا سوى محاولةِ تسديد ديونه .” وها نحن نفاقم ديوننا اتجاه هذا الرجل الذي جاءنا كقطعة من الخيال صنعت من الواقع، نسيجا شاسعا من البقاء، معبّأً بالأمل، محترفا الصداقة والحياة، مصادرا الفراغ، ثروتُه الحقيقية روحُه العظيمة. إنه طريق طويل يمتد أمامنا، لا الموت ولا الجحود يستطيعان إنهاءَه.

عبد الصمد الكباص

ـ العبارة لأنتونان أرتو [1]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى