تحقيق

الذئاب المنفردة: إرهابيون يهددون الحياة المدنية

لوسات أنفو: عادل أيت واعزيز

 

مناعة فكرية ضعيفة

ليس المقصود بالذئب هنا، أحد شخصيات أفلام المستأدبين، أو أسطورة تحول إنسان لذئب لحظة اكتمال القمر. بل، تحول بشري تَدريجي، لكتلة غضب، أو مشروعا لقنبلة جهادية. في سنة 2021 بمدينة فورتسبرغ جنوب ألمانيا، أقدم ألماني صومالي في الرابعة والعشرين من عمره على تنفيذ عملية جهادية، أسقط ثلاثة قتلى وخمسة جرحى بسلاح أبيض، إلى أن تمت السيطرة عليه من طرف الشرطة. وفي حادثة أخرى مشابهة، عمد الرجل التونسي محمد لحويج بوهلال وهو في سن 31 سنة، الذي لم يكن مرتبطا بتنظيم  متطرف ولا حتى اسما إرهابيا مطلوبا، إلى استخدام شاحنة لدهس ما يقارب 84 شخصا بمدينة نيس الفرنسية، والتي كانت تحتفل  لحظتئذ بيوم الباستيل عام 2016. كل هذا  نتيجة عملية تلقين تطرف سريع.

وفي حادثة أخرى لا تقل خطورة عنهما،  يوم 28  يناير من هذه السنة، وعلى  الساعة الثامنة مساء، توقف الزمن بياسين قنجاع ، ليشن هجوما مسلحا بمنجل  على كنيستي الجزيرة الخضراء ؛  سان ايسيديرو،  التي  انطلق إليها قابضا منجله وعلى صيحات ” الله أكبر” ، في مشهد دموي ومؤلم ضرب فيه رقبة الكاهن – الشماس – أنطونيو رودريغيث ليفارق الحياة على إثرها  مباشرة في ساحة بلازا ألتا، على نحو الساعة السابعة والنصف مساء ، ويصيب  ثلاثة أشخاص كان مِن بَينِهِم كاهن يبلغ 74 عاما كان حينها في حالة خطيرة خرج منها بصعوبة. وآخر مغربي هاجمه ياسين، الذي كان في نظره كافرا ابتعد عن دين الإسلام!

ينطلق ياسين مجددا ، في ذاك المساء المظلم، لكنيسة نويسترا دي لابالما، التي لا تبعد سوى  200 متر عن الأولى، ليحطم ويفسد ويدمر العديد من المنحوتات والتماثيل، من القطع الدينية المسيحية. إلى أن اشتد به الحصار في نفس الليلة ويقبض عليه، ليودع  بالسجن الإحترزاي. حينها وجه  له قضاء المحكمة العليا تهمة الإرهاب. وأعلنت الوزارة المختصة بعد عملية تحقيق أنه لم يتم العثور على ياسين قنجاع في رادار وبيانات الإرهابيين المطلوبين. لكنه ينتمي للظاهرة الجهادية وليس مستبعدا أن يكون مضطربا نفسيا. حينها تفاعلت أوساط  المجتمع الإسباني مع الحادثة بمظاهرات تنديدية ، كما استنكرت الجالية المغربية بإسبانيا هذه الحدث المأساوي.

وكان من الممكن أن يحدث ما حصل مع ياسين لجميع الشباب الذين هم في عمره. ياسين الذي كان يقيم بشمال المغرب يحيا حياة عادية،  وهو في سن لا يتجاوز الخامسة و العشرين عاما،  قرر فيه ركوب قوارب الموت على سواحل المتوسط نحو أوروبا، تطلعا لحياة جديدة وأملا في مستقبل يانع، لكن الحقيقة شئ والواقع شيء آخر، ياسين قنجاع الذي بدل أن يكون له هذا الركوب هروبا جديدا، ونقطة بداية ، صار نقطة نهاية!

بين سندان  الإقامة غير النظامية،  ومطرقة قرار أمر ترحيله من طرف السلطات الإسبانية، يأوى ياسين قنجاع في مدينة الجزيرة الخضراء جنوب إسبانيا وبالقرب من الميناء في شقة محرومة من أبسط شروط العيش ، يحكي شركاؤه وجيرانه في السكن كيف تحول في زمن قياسي لشخص متدين متطرف يلح على اتباع الدين الإسلامي والدعوة إليه ، وفي مدة لا تقل عن شهر ونصف، تمكن خطاب التطرف الديني من امتصاصه ليلقي به الآن في السجن الاحترازي ، بعد أن مر بتجربة ذاتية لعملية تلقين أيديولوجي سريع .

على  الطريقة الجهادية

 مصطفى الحسناوي، المهتم بالفكر والجماعات الإسلامية  يؤكد في تصريح  لـلوسات أنفو، أن هذه الجماعات المتطرفة تعتمد في استقطاب الشباب والسيطرة عليهم  واستغلالهم في مشروعها ” على نصوص دينية، قد تكون آيات أو أحاديث أو حتى فتاوى وآراء شخصية لشيوخ  ورجال دين قدماء وحتى معاصرين ”، ويضيف ” أنها تخدم أهدافا كثيرة، ويمكن التدرج بها عبر مراحل، للوصول بالشخص الذي تم استقطابه، لأن يصبح قنبلة موقوتة، أو قاتلا متربصا”.

 ووفق الحسناوي، فإن الجماعات الإرهابية تعتمد في عملية التلقين أصنافا من النصوص حددها في : ” النصوص التي يتم استعمالها لعزل الضحية عن محيطه والاستفراد به، وغسل دماغه، ثم نصوص يتم استعمالها لدمجه في محيطه الجديد، مع نصوص يتم استعمالها للإعلاء من شأن الجماعة، والارتفاع بها لمستوى مثالي طوباوي، إضافة للنصوص التي يتم استعمالها للحقد على المختلفين بشكل خاص، أو المجتمع بشكل عام وكراهيته، وأخيرا النصوص التي يتم استعمالها من أجل تبخيس المخالفين وتحقيرهم وازدرائهم وتسفيههم وتتفيههم، بإطلاق أوصاف تسميات خاصة عليهم، وتشبيههم أحيانا بالحيوانات والنجاسة”، و أمام هذه التحديدات يؤكد: أنه عندما يتم احتقار كرامة الإنسان وتشبيهه بالحيوان والنظر إليه بازدراء تسهل عملية استحلال دمه وقتله.

ويشير الباحث في فكر الجماعات الإسلامية إلى أن عمليات القتل تأتي كتتويج لعملية التجنيد، مدرجا النصوص الأخرى التي تؤطرها، حيث يعتمد في العمليات الانتحارية الاستشهادية مثلا، على  نصوص أخرى، تهون من ألم الموت، وتعلي من مقام الشهيد المنتحر، وتعطيه وعودا كثيرة شهوانية كالجنس والخمر في الجنة، وغيرها من الوعود التي تطمس تفكير الضحية، وتحوله لقاتل في سبيل شهواته وخيالاته وخرافاته.

 ويشدد مصطفى الحسناوي على أنها عملية غسيل دماغ ممنهجة محكمة مترابطة، قائمة على قدم وساق، توظف التكنولوجيا الحديثة، لتصل لأكبر عدد من الضحايا، وتستغل قدسية النصوص، وتستعين بالأسلوب الخطابي الوعظي العاطفي، خاصة إذا كان الشيخ المحرض خطيبا مفوها عنده كاريزما وسلطة خطابية تتلاعب بالكلمات والألفاظ وتعزف على الوتر العاطفي للضحايا وتستغله.

خطاب ميت لا ينتج غير الموت

الذئب المنفرد، شخص يمكن أن يشن أي هجوم مسلح بدافع عقائدي، نفسي، اجتماعي ، بدون أن تربطه علاقة واضحة ومباشرة بتنظيم معين. وقد يكون ذئبا منفردا تقوده دوافع مترتبة عن تحديات مجتمعية أو تحركه دوافع عقائدية أو أيديولوجية.

يقدم لـلوسات أنفو، الباحث في الدراسات الإسلامية والمتخصص في قضايا الإرهاب والتطرف محمد عبد الوهاب رفيقي، مقاربة لظاهرة الذئاب المنفردة التي وصفها بالقديمة والتي تطورت وتبلورت، حيث يقول ” بأنها توحشت ضمن الإستراتيجيات العسكرية لتنظيم داعش في إطار سياسة التوحش التي ينتهجها التنظيم”، ليبين أنه استطاع بها هذا الأخير من خلال أداة الذئاب المنفردة أن يوظف ويجند عددا من الأشخاص من مختلف المناطق دون أن ينضموا إلى التنظيم الذي يكون في المناطق التي يسيطر عليها ، سواء بسوريا أو العراق.

  وظاهرة الذئاب المنفردة يكشف لنا الباحث عبد الوهاب أن خطرها أعظم من الخطر الذي يمكن أن يكون عبر الهجوم العسكري المباشر، بحكم أن الذئب المنفرد يمكن أن يكون في أي مكان وقد يظهر في أي زمان . وتحركاته يشير أنها تكون بعيدة عن المراقبة، وعملياته تكون مفاجئة، ويكفي فقط أن يقتنع عن بعد بالأيديولوجية الجهادية.

 موضحا الكيفية التي يتلقى بها عددا من التعليمات العامة التي تمكنه من أن يفجر نفسه أو يطلق تفجيرا في أي مكان به مدنيين وناس عزّل وأبرياء، ويسترسل : ” أن عملية الذئاب المنفردة نشيطة كثيرا في الدول الأوروبية، وحتى في بعض الدول الإسلامية تحت مبررات فقهية مختلفة، فالتنظيمات الإرهابية تحاول أن تؤصل لكل جرائمها من التراث الفقهي”، معبرا على أن عملية الذئاب المنفردة ذات حساسية خاصة بحكم أنها لا تستهدف مناطق عسكرية وإنما تستهدف الأماكن المدنية .

ويمثل  المهاجرون غير النظاميون هدفا سهلا لهذه التنظيمات الإسلامية، التي ترحب بهذه العمليات كأنها انتصارات. لأنه لم يتبق لها سوى هذه العمليات لترفع من روحها المعنوية وإثبات أنها ما زالت على قيد الحياة. ونسبة كبيرة ممن تم تجييشهم حسب الإحصائيات كانوا يعانون من اضطرابات نفسية واجتماعية. ولا تستبعد محكمة القضاء الإسباني أن يكون ياسين قنجاع كذلك أيضا.

الذئب المنفرد: واقع مشوه وسيكولوجية ممزقة

يشير مؤشر الإرهاب العالمي لسنة 2022، لمجموعة مخرجات حول انخفاض الهجمات الإرهابية ذات الدوافع الأيديولوجية بنسبة ٪82 في سنة 2021 ، في مقابل الهجمات ذات الطابع السياسي، لكن الأمر ما زال يؤرق ويشغل بال المختصين والمهتمين بمجال تنفيذ هذه العمليات، حيث يحدثنا الباحث في الشأن الديني الإسباني خالد ملوك في تصريح خص به لوسات انفو، أن نجاح التجربة الإسبانية في التصدي للإرهاب نتج عنه بروز نوع جديد من التطرف ترعاه “الذئاب المنفردة”، وهم أفراد يتبنون أفكارا متطرفة وينفذون مخططات عدائية دون دعم مباشر من التنظيمات الإرهابية المعروفة باستمالتها لمتعاطفين جدد. مضيفا اختلافات التوجه العقائدي لهؤلاء الأفراد، على  أنهم يتصرفون بسرية تامة تجعل عملية اكتشافهم من قبل قوات الأمن صعبة للغاية.

وكشف أن الأشخاص المعرضين للتطرف الديني في أوروبا يعيشون حالة من التهميش على المستويين الاجتماعي والاقتصادي. ويذكر الباحث ملوك أن ” استراتيجيتهم تعتمد كلها على الإنترنت، من خلال استغلال شبكات التواصل الاجتماعي التي تعمل على نشر التطرف والترويج لخطاب الكراهية، إضافة إلى مواقع جهادية تمارس الدعاية لصالح تنظيمات راديكالية، وتعلم كيفية صناعة مواد قابلة للانفجار” مسترسلا ” أن لعناصر هذا الإرهاب الجديد خطورة كبيرة، لاسيما أنه يصعب رصدها من قبل أجهزة المخابرات، الأمر الذي دفع العديد من الدول الأوروبية إلى خلق مراكز تنصت تسمح بتتبع المكالمات الهاتفية والرسائل النصية التي تبعث على الشك. وفي سؤالنا له حول عمليات التصدي لمنابع التطرف الديني قال؛”  شرعت العديد من الدول الأوربية، خاصة ألمانيا، في نهج مخطط بديل يروم مرافقة الأشخاص الذين من المحتمل أن يكونوا متطرفين، وكذا مساعدتهم نفسيا واجتماعيا بغية الانفصال عن أفكارهم العدائية ” .

ولأن هذا السلوك العنيف له توجهات نفسية ترتكب بطريقة دراماتيكية، يضعنا الاختصاصي النفساني محمد ناصيري، في تصريح خص به لوسات أنفو، أمام ظاهرة العمليات الإرهابية المنفردة في بعدها النفسي، حيث وضح: ”  أنه لايمكن التطرق لهذه الظاهرة من زاوية واحدة، دون بقية الزوايا الأخرى ، وبالتالي فهي ظاهرة بنيوية تتداخل فيها مجموعة من الأبعاد، وبالتالي فالنظر للموضوع من ناحية مجال علم النفس مهم”. فأغلب هؤلاء الأشخاص يقول: “عندهم خطاطات مبكرة غير متوافقة  تظهر في طفولتهم وواقعهم الذي يغرس فيهم توجهات غير متوافقة، تقوم بتشجيعهم ودفعهم للإقدام على هجمات إرهابية عنيفة، هذه التوجهات التي تنشأ مع البيئة يمكن أن تعزز فيما يسمى بالتشوهات أو الإنحيازات المعرفية للواقع الذي يدركونه بشكل مشوه، ويرون في أفعالهم حلا أو لها مبرر.

ويستحضر المعالج النفساني ناصيري، الدوافع والعوامل الأخرى التي تتداخل فيها ظروف الواقع أو الوسط الاجتماعي للقيام بالفعل، ليحيلنا لمسألة أساسية تتعلق بإدراك معنى الحياة، استنبطها شخصيا بقوله : ” أي أن هؤلاء الأشخاص غالبا ما يتم استدراجهم من خلال هذه الجماعات المتطرفة التي تحاول أن تزودهم وتمنحهم معنى الحياة. وكلما قام شخص معين بفعل إرهابي يتحقق له هذا المعنى كما يعززه للإقدام عليه مرة أخرى”. وبما أن المسؤولية تقع بالموازة على  تمزق البنية الاجتماعية، فقد فشلت الأسرة والمدرسة والمجتمع معا في تبني خطاب واضح ، ما زال ينتج  ذئابا منفردة ، كالذئب ياسين.

زر الذهاب إلى الأعلى