ثقافة

“أحب ثم افعل ما بدا لك “.. عن حرية الابداع

عاصم الباشا

كان القديس أوغسطين يقول : ” أحب ثم افعل ما بدا لك”, و لا شك في أن تبني هذا القول مبدأ في الممارسة الاجتماعية او السياسية يؤدي بالتأكيد الى فوضى رائعة. لكنه يلامس الى حد بعيد جوهر العملية الابداعية في حال نظرنا اليه من موقع الانتماء الايديولوجي أيا كان لون الموقع. و لعل من النافل الاشارة الى ان معركة الحوار بين رفاق المتراس ذاته يوقظ الهاجس القديم, الحديث و المستقبلي, و من ناحية يؤكد لنا أننا مازلنا نتحرك او نراوح او قد يدفعنا الى الحركة.

و لو أشحنا جانبا المواقف المتشنجة الدوغمائية, فلا فائدة ترجى من مناقشتها, لتوجب علينا التذكير ببعض مما جنته التجربة الابداعية على ضوء قرن من وجود المنهج الجدلي الذي جعل رؤية الواقع ممكنة بصورة أشمل و أوضح, و لم يكتف بذلك بل عمل على تغييره بتكريس تحزب جديد مناهض للتحزب البورجوازي.

في هذه المعمعة الدائمة يلعب السياسي-الفيلسوف-الاقتصادي دورا رائدا مباشرا و طافيا على السطح, بينما يتحرك الفنان في ظلمة شرط التخلف بين كائنات تجهل ـو تتجاهل أهمية دوره الحضاري.

كل مبدع منتم, سواء أدرك ذلك أم شاء تجاهله, و بين المدركين في الطبقة الوسطى مستويات, لعل أحبها الى قلب السياسي الذي يأمل من فنان كهذا عملا يحرض الجماهير و يدفعها قدما, و بلوغ ذلك لابد له من وضوح العمل و من استجابته لمستوى الجماهير الثقافي, بكلمة أخرى نرى الفن مختزلا الى الملصق الاعلاني. هكذا يرى معظم السياسيين التقدميين حرية الفنان, فهل هي حرية حقا ؟ لنتفق في البدأ على ان الحرية قضية نسبية و لا اطلاق فيها سوى في الذهن المثالي المستند أساسا على الافكار المطلقة. يطالب السياسي بفن في التغيير بينما يختار الفنان الحق و هو يرنو بهذا الى مشاركة اعمق في كشف الحياة و عكسها مجازيا, الى حد تغدو فيه أكثر واقعية من الواقع ذاته.

لا نطرح المسألة كتناقض بين السياسي و الفنان او كخلاف بينهما, مهما تمنطق المتطرفون منهما بهذه التصورات, فالعمل الفني يؤكد في طياته العلاقة الجدلية بين الموقفين فلا يمكن للوحة اة لكتاب أن يكونا بيانا سياسيا كما لا يخلو عمل فني أيا كان موقعه من ترجمة سياسية و لعل هذه النقطة أشد النقاط حساسية.

فمعظم السياسيين الثوريين لم يحتماوا انكباب ماتيس في سنوات الحرب العالمية الثانية على تصوير الازهار البهيجة بينما كانت رحى الحرب تقتل ستين مليونا من البشر. ما كان بمقدور ماتيس ان ينقذ أي فرد من تلك الملايين بلوحاته, حتى و لو اتخذ المنحى الذي يروق للسياسيين, لكنه سجل اختياره , انه مع الحياة و الازهار مظهر منها جميل, و هي التي بقيت بعد صمت المدافع.

و يبقى العمل الفني أعمق و أرحب من كل المعادلات ….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى