في الهوس بالحقيقة
فرونسوا جورج
” لقد عثرت على الحقيقة” هذا هو ما يصرح به الصوفي لمن يحيطون به و هم مندهشون بحيث ل يرون من اندماجه الا كونه انخراطا غير معقول في نوع من الجنون الجماعي. و لنسجل نحن أن الصوفي يتمسك بحقيقته تلك التي قد تبدو للآخرين حقيقة فكرية خالصة. تعتز الكنيسة بكونها تمتلك الحقيقة حول العالم و الانسان كما يعتز المسلم بالقرآن و يعتز الماركسي بصراع الطبقات. حقا ان هذه الحقيقة القائمة البعيدة عن البراهين, لا تشبه أبدا الحقيقة العلمية, التي هي حقيقة قابلة للبرهنة و الاختبار و التي تقدم نفسها دوما على انها حقيقة متقبلة للرفض و التكذيب.
لكن ما هو هذا الهوس بالحقيقة الذي يفرض نفسه بهذا الشكل في صلب الالتزام الوجداني ؟
ان ما هو حقيقي هو ما هو موجود, و البحث عن الحقيقة هو البحث عن الاتحاد مع الكائن الاسمى, فالعثور على الحقيقة في المعنى الصوفي هو التوصل الى التخلص من الذات.
كان المدرسيون يعرفون الحقيقة انها مطابقة الفكر للواقع, هذا التعريف يقتضي ان أخرج من أفكاري لأستطيع من مقارنتها من الخارج مع الكائن الذي أشهده بدون توسطها و ذلك بالظبط هو موقف الصوفي الذي يجعله وجوده في حالة اتصال مباشر مع المطلق. و هذا أيضا هو الماركسي الوثوقي فمن حيث أنه متأكد من أنه يعرف ماهو موجود معرفة حقيقية فانه يظن انه يرى في نفس الوقت الفكرة و ما يسببها من الخارج, في حين ان فكره الخاص يعكس بالظبط المسار المادي, فان فكر الاخرين ليس سوى ايديولوجيا تعكس مصالح طبقية.
انني و أنا أبحث عن الحقيقة انما ابحث عن صخرة صلبة تحت رمال المظاهر, اود ان اتخطى تجربة التخلص من الوهم, التي فصلت الكائن في ذاته عن الكائن من أجلي, اي ماهو موجود عما ليس هو موجود في رأسي. ان ديكارت يضع محتوى فكره في غربال الشك و يكتشف في النهاية فكرة تصمد أمام كل اختبار ” انا موجود” لكن هذه الحقيقة و بدل ان تدعو حقائق أخرى للتشبه بها تؤكد المشكل من حيث أنها لا تخرج الذات من نفسها ففي عمقها فقط يتطابق الفكر مع الكينونة.
بما أن الفكر يسجنني فاني أستطيع ان اتملك نصيبي من هذا السجن و أقصر عالم الرموز على على العقل, هكذا ستعرف الحقيقة على انها عدم تناقض القضية المعبرة عنها في مع المصادرات او البديهيات الاولى, المتفق عليها في بداية البرهان. ان مسئلة تلازم الخطاب مع الواقع الذي هو خارجه لن تبقى مسألة مطروحة, و تلك هي الحقيقة الصورية الخاصة بالمنطقي. اننا نؤمن بقدرة الفكر على مجاوزة ذاته و على اصطياد الفكر في شباكه, و من الصواب ان لا نتخلى عن الامل في ان يقودنا الفكر من حين الى آخر الى الشيء ذاته, كما يتركنا حارس الباب بعد ان يدخلنا حسب الطقوس المعتادة, امام الشخص المهم الذي سيعرفنا مباشرة برغباته.
ان ما هو حقيقي يعلم عن نفسه او يشير الى نفسه لكن المشكل هو ان الخطأ عبارة عن محتال يحلو له ان يقدم لنا نفسه على انه هو الشيء الحقيقي, ان بداهة ما يمكن ان تقصي اخرى, كما ان الحقيقة موضع مملوء دائما, لكن كيف لنا ان نعرف من يمتلك الحقيقة فعلا ؟ و ما هي حقيقة الحقائق ؟
ان علينا ان نحترم بعض قواعد المنهج كأن نتمسك بالشك الى غاية ان يصبح من المستحيل ان نستمر في رفض التصديق و مثل مراكمة البراهين او فحص فرضياتنا بواسطة التجريب و الاختبار. لكن على كل حال هذه الحقيقة التي لم نحصل عليها الا بعناء حقيقة لا تتجاوز مستوى الاحتمال.