مذكرات

من سيخبر الآخرين؟.. يوميات حياة بسيطة بغزة

نهيل مهنا/ كاتبة فلسطينية من غزة

منذ نوفمبر/تشرين الثاني لم أعد قادرة على تدوين يومياتي. وبدلا من ذلك أمضيت معظم أيامي في مشاهدة الأخبار فقط. وفي التاسع والعشرين من يناير/كانون الثاني أعلنوا عن بدء المفاوضات نحو وقف إطلاق نار طويل الأمد. وهذا جعلني أعلق أمام التلفاز مثل تمثال من الشمع لساعات متواصلة، وأستنفد شحن بطارية المنزل، التي تعمل بالطاقة الشمسية التي لا تزال تعمل على السطح، على الرغم من الثقوب العديدة التي أحدثتها الغارات الجوية القريبة. وظللت أشاهد الأخبار على أمل أن أكون أول من يسمع إعلان وقف إطلاق النار، حتى أتمكن من إخبار الجميع بالخبر، وكأنني سأحصل على نوع من المكافأة مقابل ذلك. فماذا يفعل الغريق في بلادنا؟ إنه ينتظر وينتظر، على أمل أن تأتي معجزة وتغير حقيقة أنه يغرق.

ولكنني كنت مخطئة ـ مخطئة بإهدار الكثير من الطاقة الشمسية على التلفاز، مخطئة بوضع الكثير من الثقة في الأمل الذي أدار ظهره لنا بوضوح ورحل. وفي الليل، كنت أنا وابنتي حبيبة ننظر إلى الصور التي احتفظت بها على جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي والتي التقطتها على مدار سنوات عديدة. صور عائلية لمنزلنا، ورحلات، ونزهات، ويومها الأول في الحضانة، ويومها الأول في المدرسة، وأعياد الميلاد، والأنشطة والمخيمات الصيفية، ورقصات الدبكة، ورحلات التخييم، ومسابقات السباحة… صور أخذتنا طوال الطريق حتى تخرجها من الصف السادس، ومجموعة الكشافة التي كانت عضوًا فيها.

لقد غلب علينا النوم بسبب الحنين للماضي. ولم نكن نعلم أننا على وشك مواجهة أصعب ليلة على الإطلاق، ليس فقط منذ بداية الحرب، بل منذ أن ولدنا، وأصبح لدينا أسماء يمكن للناس أن ينادوننا بها. لم أكن أعلم أن أحداً قد يتمكن من النجاة من براثن الموت إلى هذا الحد.

استيقظنا في منتصف الليل على أصوات القذائف والرصاص وهي تتساقط كالمطر. في البداية ظننا أن الاشتباكات بعيدة، إذ كان الجميع يعلم أن الدبابات انسحبت منذ شهر، وأن الخطر قد خفت حدته منذ ذلك الحين. لكننا كنا مخطئين. فقد كانت هذه الأصوات أقرب كثيراً.

نهضنا من غرفتنا التي كانت بجوار الشارع باتجاه غرفة عائلتي، والتي كانت تفصلها عن غرفتنا ستارة فقط. كان المقصود من هذه الزيارة أن تكون زيارة خاطفة فقط، لنرى ما إذا كانوا مستيقظين، في غضون ثوانٍ، وبحركة لا تتجاوز بضعة أمتار. لكن هذه الثواني القليلة كانت هي التي أنقذت حياتي. في تلك اللحظة، بدأت القذائف ونيران المدفعية تتساقط من خلال النافذة في تتابع سريع، وتخترق الجدران على كلا الجانبين. تطايرت الشظايا حولنا، وهبطت على الوسائد والأريكة التي كنا ننام عليها للتو.

لم أشعر قط بطعم الخوف كما شعرت به في تلك اللحظة. لم أشعر قط بوجود موتي بالقرب مني إلى هذا الحد. عندما يحدث ذلك، تصبح محاصرًا في تلك اللحظة.

كنا في حالة صدمة، لا نعرف ماذا يحدث في منزلنا. هل كانت هذه اشتباكات بين جنود الاحتلال وجنود المقاومة؟ هل كانت هذه الدبابات تخترق المتاريس وتفتح الطريق لتتخذ مواقع جديدة؟ أم كان هؤلاء الجنود يركضون في الشوارع وهم يحملون بنادقهم الآلية؟ لم نستطع أن نحدد.

لم أشعر قط بطعم الخوف كما شعرت به في تلك اللحظة. لم أشعر قط بوجود موتي على مقربة مني إلى هذا الحد. عندما يحدث ذلك، تصبح محاصرًا في اللحظة. تبدو الدقائق وكأنها متوقفة. تبدو الثواني وكأنها مترددة في المرور. الوقت خارج نطاق التركيز. تتسارع دقات القلب، ويتسارع الشهيق والزفير، ونحن جميعًا مستلقون على الأرض، ووجوهنا لأسفل، غير قادرين على رفع رؤوسنا أو نطق كلمة واحدة. يشتد إطلاق النار، وتبدو الانفجارات والقنابل الصوتية وكأنها قادمة من داخل المنزل. تحوم الطائرات بدون طيار على ارتفاع منخفض في الشارع، وتنظر من خلال الثقوب في الجدران والنوافذ وتلتقط الصور على الأرجح للمشهد داخل منزلنا. في تلك اللحظة، يبدو كل شيء حتميًا: نحن ميتون، انتهى كل شيء.

من سيخبر الآخرين بأننا تعرضنا للقصف أو الإصابة؟ هل يستطيع أحد مساعدتنا؟ في لحظات كهذه، تدور في رأسك مائة سؤال دون إجابة واحدة. تبدأ في عد نفسك من بين القتلى، وتبدأ الأفكار تتزاحم حول المكان الذي ستدفن فيه ومن سيحزن على وفاتك أكثر من غيره. أو حول ما فعلته في حياتك لتستحق هذا العقاب؟

يا عالم أنا مواطن فلسطيني أو لاجئ كما يحلو لك، لا يهم، ولكنني لم أقتل أحداً ولم أظلم أحداً، ولا أتذكر حتى أنني كذبت أو سرقت، لماذا كل هذا الخوف، كل هذا الرعب، كل هذا الظلم، كل هذه النيران؟

لم أعد أتحمل ذلك. انفجرت في البكاء عاجزًة، بينما انفجرت أشياء مختلفة في الشقة: زجاج النوافذ، وأجزاء من الجدار، وأواني النباتات، والجرار الخزفية الملونة التي تزين المطبخ. شعرت وكأن رأسي ينفجر وأعصابي تحترق. صليت أن أفقد الوعي من الخوف أو أفقد الوعي ولو للحظة، فقط لأرتاح من الجحيم الذي يحيط بنا. تلوت الشهادتين، وأغمضت عيني، وأرحت رأسي على الأرض، وأعددت نفسي للموت.

وجدت نفسي مستلقية بين ذراعي ابنتي، وهي تهمس في أذني: “لا تخافي”. طلبت مني أن أكثف صلاتي. صمتت لحظة… بدأت أتنفس وأعدل وضعيتي، وبدأت دقات قلبي تنتظم، وبدأت الأصوات تخفت. نظرت خمسة أزواج من العيون إلى بعضها البعض، تسأل بعضها البعض نفس السؤال. هل ابتعدوا؟ هل هذا حلم؟ ماذا يحدث في الخارج؟ نظرت إلى ساعتي؛ كانت الساعة الثالثة صباحًا. في البداية، لم أصدق أننا تحملنا هذا الجنون لمدة ثلاث ساعات كاملة. إذا لم يكن ما عشناه جحيمًا، فما هو الجحيم إذن؟

فتح أخي منذر، الذي يسكن في الشقة المقابلة لنا في نفس المبنى، الباب ونظر إلى الظلام، خائفًا مما قد يجده. كان ينظر إلى الأرض، يبحث عن اللون الأحمر، ولا شك أنه يتوقع أن يجده في كل مكان. “لا تقلق، نحن على قيد الحياة”، نادينا. تنفس منذر أخيرًا.

وبصفته طبيباً، فقد تحمل مسؤولية سلامتنا منذ بداية الإبادة الجماعية. وأوضح أن أسطولاً من ثلاثين دبابة مر عبر شارعنا تحت غطاء جوي وبري كامل. وكان مختبئاً مع عائلته في المطبخ طوال الوقت، كونه الغرفة الأبعد عن الشارع. وبطبيعة الحال، نحن سكان شارع النصر، لذا فكلما “ارتطمت الكأس بالقدر”، كما نقول بالعربية، فهذا يعني أن الدبابات تمر من خلاله. ولكن للأسف، انفجر القدر منذ فترة طويلة. إنه اختراع حساس للغاية بالنسبة للفلسطينيين.

وألقى جيش الاحتلال منشورات تحث من تبقى من سكان حي النصر والأحياء المجاورة على إخلاء منازلهم والتوجه إلى مخيم دير البلح، تمهيداً لحملة اعتقالات واسعة النطاق.

وعلمنا بعد خمس ساعات، وقبل أن ننهار مثل الجثث من الإرهاق والأرق والرعب، أن هذا الأسطول كان متجهاً نحو مقر شركة الاتصالات الفلسطينية، وتمركز هناك استعداداً لعملية جديدة.

وعلى إثر هذا التصعيد المفاجئ، ألقى جيش الاحتلال منشورات تحث من تبقى من سكان حي النصر والأحياء المجاورة على إخلاء المنطقة والتوجه إلى مخيم دير البلح استعداداً لحملة اعتقالات واسعة النطاق. فحزمت عائلات بأكملها أمتعتها وهربت، حاملة معها ما تيسر من مؤن وبطانيات وملابس. وقررنا الانتقال إلى منزل أحد الأقارب القريبين، تجنباً لمشقة الشارع الرئيسي، لكن صعوبة نقل المواد الأساسية مثل الماء والغذاء والفراش منعتنا من تنفيذ هذا القرار.

عمي إبراهيم، الوحيد الذي كان يعيش معنا في المجمع العائلي، قرر الانتقال مع عائلته إلى منزل ابنه في منطقة الرمال. وعلى نحو مماثل، بمجرد التأكد من الانسحاب الكامل للدبابات من الجزء الشمالي من المدينة، حول الكرامة، قررنا العودة إلى منزلنا هناك، على الرغم من المسافة وحقيقة أن نقل جميع أغراضنا إلى هناك سيستغرق يومًا كاملاً ذهابًا وإيابًا. لكن بعد ساعة، عاد إخوتي من رحلتهم شمالاً، وأيديهم سوداء من السخام. لم تكن قصة أن المنزل احترق بالكامل وأصبح غير صالح للسكن مجرد شائعة.

انتقلنا جميعاً، أي العائلات الثلاث المتبقية في المجمع، وعددها خمسة عشر شخصاً، إلى شقة تقع في المبنى المقابل لمبنىنا الحالي، ليس لأنها أقل تعرضاً للخطر، بل لأنها كانت آخر مكان يمكننا أن نبني فيه منزلاً بشكل معقول. وكانت الشقة تبعد عشرة أمتار فقط عن الشارع الرئيسي.

لقد اتفقنا على أن عملية الانتقال هذه لن تتم إلا خلال ساعات الليل، بينما ينام الجميع. وفي الصباح، سيعود كل منا إلى شقته. وبما أننا لم نعد قادرين على العودة إلى الشمال، فقد كان هذا بمثابة حل وسط. لكن الحقيقة هي أنك تخسر مهما فعلت: فالنزوح يعني أن المنزل الذي تتركه معرض للسرقة، في حين أن البقاء يعني المخاطرة بالموت.

تقدمت الدبابات إلى تل الهوى ومعسكر الشاطئ ومنطقة النصر والشيخ رضوان بعد انتهاء المهلة المحددة لإخلاء المنطقة. وواصلت الدبابات المتمركزة عند مفترق الاتصالات إطلاق النار على المارة بشكل عشوائي، ما يعني أننا أصبحنا محاصرين مرة أخرى. وكنا نسهر كل ليلة حتى الفجر، خوفاً من المداهمات واعتقال الرجال التي كنا نسمع عنها في نشرات الأخبار.

في كل ليلة، كنا نفحص أمتعتنا بعناية، ونحسب حقائبنا، ونحزم ملابس ثقيلة في حالة اضطرارنا إلى الإخلاء. كنا نقضي الوقت في مناقشة خططنا للغارة، وتبادل النكات لتخفيف ساعات العمل الشاقة وتشتيت انتباهنا عن الخوف الكامن بداخلنا ــ ذلك الحيوان البري الذي لا نستطيع إنكاره.

في الخامس من فبراير احتفلنا جميعاً بعيد ميلادي، قمت بتحضير كعكة بدون بيض لأن ثمن البيضة كان ستة شواكل، وفي غياب الغاز قمت بخبزها على الحطب، وزينتها بالقشطة وأشعلت شمعة عليها، تمنيت أمنية ووجدت نفسي أنظر حولي كثيراً، فأنا الآن أحتفل بعيد ميلادي في مكان وزمان وظروف لم أحلم يوماً أن أكون فيها، قمت بإطفاء الشمعة وقطعت الكعكة، ثم قمت مع الآخرين بتجهيز نفسي لليلة ثقيلة أخرى.

لقد وصلت إلى وزني المثالي ليس بسبب صالة الألعاب الرياضية الغبية التي كنت أكرهها، ولكن بسبب الحصار الغبي – ندرة الطعام، ناهيك عن الافتقار التام للحلويات.

بعد عشرة أيام وليال طويلة، مليئة بصوت المدفعية المتواصل والقصف الجوي، استيقظنا على صوت الناس في الشارع يهتفون بأن الدبابات انسحبت وأن المكان أصبح آمنًا الآن.

لقد سارعنا إلى تهنئة بعضنا البعض على حصولنا على فرصة جديدة للحياة، ربما للمرة الخامسة خلال هذه الحرب.

تجولنا في المنطقة وتأملنا الدمار الذي خلفته الدبابات، والقصف المتواصل للمنطقة بأكملها، والدلائل على الدمار. لقد أصبحت كل معالم المنطقة غير قابلة للتعرف عليها، وحتى وقت قريب كانت هذه المنطقة واحدة من الأجزاء القليلة المتبقية من غزة التي لم يلحق بها أذى.

في تلك الليلة، بينما كنا مستلقين تحت الغارات الجوية ونيران المدفعية، اعترفت لي ابنتي حبيبة بأن الأوقات التي تركتها فيها بالمنزل لقضاء بعض المهمات لم تكن تدرس دائمًا كما كنت أعتقد. بل كانت تقضي معظم الوقت على هاتفها، تتصفح تطبيق تيك توك وتستمع إلى الموسيقى. وطلبت مني أن أسامحها. كما اعترفت بأنها أهملت صلواتها وفوتت الصيام لمدة يومين في رمضان الماضي دون أن تخبرني. وعندما سألتها لماذا تعترف بكل هذا في مثل هذا الوقت العصيب، أخبرتني أنها تريد أن تموت وهي تشعر بالشجاعة، دون أن تخفي عني أي شيء.

لقد استجمعت شجاعتي لأخبرها بأنني مدينة لها أيضاً بالاعتراف. لقد اعترفت بأنني قبل أن يبدأ كل هذا كنت أذهب إلى صالة الألعاب الرياضية ليس لممارسة الرياضة، بل للقاء الأصدقاء، وتناول الطعام معهم، وتدخين الشيشة في مقهى الصالة الرياضية. ولهذا السبب لم أفقد أي وزن، ولم أصل إلى الوزن المثالي الذي كانت تتخيله لي. ولكن اليوم، بعد ستة أشهر من الحرب، عندما وزنت نفسي على ميزان صادفناه بالصدفة في منزل عمي بعد رحيله، اكتشفت أنني فقدت اثني عشر كيلوغراماً. أخيراً!

لقد وصلت إلى وزني المثالي ليس بسبب صالة الألعاب الرياضية الغبية التي كنت أكرهها، بل بسبب الحصار الغبي وندرة الطعام، ناهيك عن الافتقار التام للحلويات. فما كنا نأكله منذ بداية الحرب، وخاصة البقوليات، لا يكفينا بالكاد. وفوق ذلك، كنت أقوم بكل الأعمال المنزلية، التي تشمل هذه الأيام العجن والخبز، وغسل الملابس باليد، وجمع الحطب، والمشي مئات الكيلومترات يوميا لجلب الضروريات من السوق أو الصيدلية.

في التاسع عشر من فبراير اكتشفت شبكة إنترنت جديدة عند تقاطع الغفاري الممتد على طول شارع الجلاء. كانت هذه شبكة الواي فاي الخامسة التي اكتشفتها، حيث تعطلت الشبكات الأربع السابقة بسبب التوغل المستمر للدبابات. الأمر أشبه بعمل الساعة: كلما اكتشفنا شبكة عشوائية جديدة في الشارع أو التقاطع أو المدرسة، تتدفق الدبابات على الفور إلى المنطقة وتدمر كل شيء، وعلينا أن نحيي بحثنا عن شبكة جديدة. لكن هذه المرة، عندما سمعت أن شخصًا ما عثر على هذه الشبكة، تمنيت بصدق ألا يكون قد وجدها. حقًا، إن انقطاع الإنترنت أثناء الحرب نعمة.

على مدى أشهر كنت على تواصل مستمر مع مديرة المؤسسة التي أعمل بها في رام الله، والتي لها فرع هنا في غزة. كانت تطمئنني دائمًا بشأن زملائي الذين تفرقوا هنا وهناك، دون وسيلة للتواصل معي بشكل مباشر. كما كانت تقدم لي الدعم المعنوي لمساعدتي على البقاء بصحة جيدة والحفاظ على صحتي النفسية. لكنها اليوم تحدثت بصراحة شديدة عندما أبلغتني باستشهاد زميلتنا إيمان. طلبت منها أن تكرر الخبر، معتقدة أنني ربما سمعتها بشكل خاطئ. لكنها كررت الخبر بنفس النبرة، وبتفاصيل أكثر.

لم تستشهد هي وحدها، بل قُتل أفراد عائلتها المقربين والممتدين أيضًا. تنهدت قائلة: “يا إلهي، من أين جاءت هذه القسوة؟ لماذا كل هذا الألم؟ لماذا كل هذه الخسارة؟” أخبرتني أن العائلة الممتدة استشهدت بالفعل منذ أكثر من شهرين وأن زميلتنا لجأت إلى منزل عائلتها في خان يونس معتقدة أنه أكثر أمانًا. لكن الموت اقترب واختارهم.

في البداية، لم أستطع استيعاب الأمر. فمن طبيعة العقل البشري ألا يكون قادرًا على معالجة الصدمات المتعددة في وقت واحد. فيحاول تحليلها أو تضليل نفسه، مما يتسبب في ردود أفعال مثل ذكريات الماضي من وقت لآخر، مع إدراكك للأمر مرة أخرى. فقط عندما بدأت إيمان تزورني في أحلامي كل ليلة، أدركت أنني لن أراها مرة أخرى.

إذا أردت حصاداً فلا تتردد في الزراعة، فالاستقرار لا يضمن للفلسطينيين، لذا عليك أن تأخذ ما تستطيع.

لعدة أيام بعد ذلك، وقعت فريسة للاكتئاب الشديد، وأصبت بنفس الكوابيس ليلة بعد ليلة. حبست نفسي في غرفتي، أتصفح الصور وأتفحص ذكرياتي لساعات متواصلة، أتساءل من قد يكون التالي. هذه الحرب اللعينة تودي بزميل أو صديق أو منزل أو مؤسسة أو شارع أو مقهى كل يوم، وتمزق ماضيك المشترك دون تردد أو غمضة عين. كنت أتجنب الإنترنت، ذلك المهرج الماكر الذي يمطرنا بأخبار أحبائنا، مثل الصواريخ التي تسقط على رؤوسنا، لكن نفس المخلوق ينقل أخبار المشاهير، والأبراج، وإعلانات المسلسلات الرمضانية. يا إلهي، كيف يستوعب هذا العالم كل هذه التناقضات؟ هل نحن حقًا أبناء نفس الكوكب؟

بدأنا في زراعة البذور في المساحة الصغيرة أمام المبنى: البطاطس والبقدونس والبامية والجرجير والطماطم. نحن الآن في أواخر فبراير/شباط ولا يوجد في السوق سوى القليل من الخضروات؛ وما هو موجود باهظ الثمن.

كان جدي نظير مزارعاً. طُرد من قرية المسمية الكبيرة، وأُجبر على الفرار إلى غزة عندما كان والدي في الرابعة من عمره. تعلم سيدي نظير درساً من نزوحه: أينما تجد نفسك، ازرع البذور؛ فأنت لا تعرف إلى متى ستبقى هناك. ما تزرعه اليوم سيأكله أطفالك غداً. لا يهم أين يكون ذلك. في المسمية، في غزة، حتى في رفح. إذا كنت تريد الحصاد، فلا تتردد في الزراعة. الاستقرار غير مضمون أبداً للفلسطينيين، لذا يجب أن تأخذ ما تستطيع. كان لجدي بساتين كبيرة كنا نذهب إليها كل يوم جمعة ونأكل المانجو والخوخ والتين والتفاح.

كان جدي يزود المستشفيات في مختلف أنحاء قطاع غزة بكل أنواع الفاكهة والخضروات. وبعد أن زرع بساتين واسعة حول بيت لاهيا، قرر بناء منزل كبير من طابقين هناك لعائلته، باعتباره أحد أكثر الناس اهتماماً بالبيئة. وكان يقدّر الهواء النظيف والبيئة الصحية الطبيعية فوق كل شيء.

قبل أربع سنوات من وفاته عن عمر يناهز 84 عاماً، اقتحم جيش الاحتلال أرضه وهدم كل شيء، حتى آخر شجرة. زعموا أنها كانت في أراضي المستوطنات. ودمروا منزله المكون من طابقين بقنبلة واحدة. واختفت ثمار عمل حياته ـ حرفياً: التين، والتفاح، والمانجو، والخوخ. إلى جانب الطماطم، والخيار…

قبل أن يموت جدي، علّم أحفاده كيفية الزراعة. نشأ الأحفاد وحصلوا على درجات علمية في الطب والهندسة والقانون، ولكن بعد سنوات عديدة، تبين أن الدروس الأكثر قيمة التي تعلموها كانت درس جدي: كيفية الزراعة.

كان ذلك يوم 28 فبراير، ولكن العيد جاء مبكراً. أخيراً دخل الدقيق إلى غزة. استيقظنا عند الفجر على أصوات الناس ينادون في الشارع، ويطلبون من الجميع التوجه إلى دوار النابلسي في شارع الرشيد للحصول على الدقيق الذي يتم توزيعه من الشاحنات هناك. كان هذا بعد خمس مهمات متتالية فشلت في الوصول إلى هنا. تم تخصيص كيسين من الدقيق لكل منزل – أبيض اللون مثل القمر – وبدأنا على الفور في تجهيز أدوات العجن والخبز. كان الشعور بالبهجة التي جاءت مع عجن هذا الدقيق الأبيض النقي – دون الحاجة إلى خلطه مع دقيق الذرة أو الشعير الذي تآكلت بطوننا واعتدى على براعم التذوق لدينا على مدى الشهرين الماضيين – لا يوصف.

لقد قمنا بإعداد الفطائر والشاي، وأكلنا من الخبز الجديد. كان الأمر وكأننا لم نتناول الخبز من قبل! بدأت الأخبار تتوالى بأن المخابز ستعيد فتح أبوابها بعد أن دخل الدقيق إلى غزة. هل يعني هذا أننا نستطيع أن نودع الحطب، والنيران، والطوابير، وخيام الخبز التي انتشرت في كل مكان. هل أصبح الاحتفال آمناً الآن؟ أم يجب علينا أن نتجنب خيبة أمل أخرى وننتظر فقط؟

في الأول من مارس/آذار بدأت الطائرات الأردنية في إسقاط الطعام على أجزاء مختلفة من غزة. وكان ذلك بسبب القيود المفروضة على دخول شاحنات المساعدات إلى المناطق الشمالية. وعندما رأينا لأول مرة طائرة تسقط المظلات، اتسعت أعيننا وتيبست أعناقنا. ووقفنا فقط لنشاهد. وعندما وردت أنباء لأول مرة عن نقل بضائع إلى مدينة غزة عن طريق الجو، لم يصدقها أحد: فقد تصورنا أنها مجرد هراء حربي، أو أوهام معتادة لدى زعماء العالم. ولكن عندما حدث ذلك بالفعل، شعرنا وكأننا في فيلم سينمائي. ففي بعض الأحيان يبدو أن الحقيقة أغرب من الخيال، وأن الواقع أكثر عبثية من أكثر الأفلام جنوناً.

كانت الطائرات تسقط المظلات بشكل عشوائي. وهبط بعضها في البحر ثم طفت بعيداً. ولم تهبط مظلة واحدة في حيّنا؛ بل بدا أنها كانت تركز على المعسكرات الواقعة إلى الجنوب أو إلى الشمال. وعندما بدأنا نرى هذه الإنزالات لأول مرة، كان الرجال يقفزون إلى سياراتهم أو ينطلقون سيراً على الأقدام، فيسرعون نحو مناطق الإنزال للاقتراب قدر الإمكان من حمولتهم الثمينة. ولكن بعد بضع طلعات جوية، استسلموا واستمتعوا ببساطة بمشهد الطائرات وهي تسقط غنائمها وتحلق بعيداً، وتلوح لهم مثل الأطفال. أما أنا، فلم أكسب شيئاً من هذه العمليات سوى الصداع، بسبب ضجيج الطائرات وضجيج أولئك الذين يهتفون ويلوحون لها.

إنها ثاني عملية اقتحام للمنطقة، أو ربما كانت الثالثة؛ لم يكن الأمر مهمًا. لقد فقدنا القدرة على تذكر الأرقام رغم أننا نتذكر كل التواريخ والتفاصيل.

قمنا ببناء فرن من الصفر استعداداً لشهر رمضان الذي سيبدأ بعد أسبوع، فالطبخ على الموقد أصبح من الخيال هذه الأيام، كما أن العثور على أسطوانة غاز ممتلئة أصبح من الخيال أيضاً. قمنا بجمع الحصى وأفضل أنواع الرمل التي تمكنا من إيجادها لصنع الطوب، واستعنّا بجارنا حسام، وهو خباز، لمساعدتنا في إتمام المهمة. بحثنا عن مكان في الفناء بعيداً عن الرياح والشمس، وقمنا ببنائه هناك. وبعد يومين، وبعد أن جف الأسمنت، قمنا بقص الشريط.

استيقظت في السادس من مارس/آذار على أصوات إشعارات فيسبوك تدق على هاتفي المحمول. في البداية، اعتقدت أنها جزء من حلمي. لقد نسيت تقريبًا كيف تبدو هذه الإشعارات، فقد مضى وقت طويل منذ أن سمعتها. هل كانت حقيقية؟ في الأيام الخوالي، كنت أنا الشخص الذي يضع هاتفه المحمول دائمًا على الوضع الصامت، لتجنب الإزعاج! استيقظت ولكن قبل أن أصل إلى الهاتف، سمعت نغمة أخرى من إشعارات واتساب المتعددة، تليها إشعارات الرسائل النصية.

إذن، لم يكن الأمر حلمًا! لم أستطع تحمل كل هذا الفرح! كان لدي تغطية للهاتف المحمول بالإضافة إلى الإنترنت! هل هذا ممكن؟ فكرت. عندما اقتربت من الهاتف المحمول، قفز قلبي في صدري. تحولت عيناي إلى شكل قلب مثل الرموز التعبيرية في الرسائل. أخيرًا! بعد انقطاع شبه كامل لمدة خمسة أشهر طويلة، عاد العالم الخارجي.

منذ بداية الحرب، كنا جميعاً نلعب لعبة جميلة قائمة على التعاون، تسمى “منّا ومنكم”. على سبيل المثال، نحن نوفر أوراق الشاي، وأنتم توفرون الماء. منّا: الألواح الشمسية. منكم: البطارية. منّا: طبق استقبال الأقمار الصناعية. منكم: التلفاز. منّا: المولد. منكم: الديزل، وهكذا. من النادر أن تجد منزلاً يحتوي على الأمرين معاً. هذا ما يريده الاحتلال بالفعل. لكننا نتفوق عليه من خلال التعاون المجتمعي البسيط.

ولكن في بعض الأحيان ينهار النظام. فمن الصعب العثور على حرفيين مهرة ـ مثل السباك أو الكهربائي أو الحداد ـ لتحقيق قدر من هذا التعاون. ويبدأ الحرفي الماهر في التصرف وكأنه مدلل، فيطالب بالمزيد من المطالب، مثل توفير وسائل النقل من وإلى العمل، في الوقت الذي يعمل فيه الأطباء والمهندسون حتى النخاع لساعات متواصلة.

إن الأجر اليومي لأي حرفي مبتدئ هو مائتي شيكل. تعطيه إياه قبل أن يدخل منزلك ليعرف ما هي المشكلة. ومثله كمثل أي طبيب خاص، فإنه يأخذ أجره قبل فحص المريض. لقد كسب الحرفيون الكثير من المال خلال هذه الحرب، وهو ما يكفي لضمان مستقبل جيد لأحفادهم. وفوق ذلك، فإن العمل الآن يجلب لهم الهيبة. فكلما مر عامل من حيّك يلوح الجميع في الشارع ويطلبون موافقته. بل إن بعضهم يركض ويعطيه علبة من الأطعمة المعلبة أو كيلو من الدقيق لإغرائه.

اليوم هو الحادي عشر من مارس، اليوم الأول من شهر رمضان. اتصلت بي أختي نهايا، التي تعيش في أمريكا، لتؤكد لي أن الحرب ستنتهي خلال شهرين. سألتني كيف ندير أمورنا وكيف نحصل على المؤن لشهر رمضان. قلت لها: “اتركي الأمر لله”.

في الليل، نتناول الإفطار معًا، وهو طقس عائلي لم يتغير على مر السنين، في زمن السلم أو الحرب. نشاهد إعلانات رمضان على شاشة التلفزيون ونجد أنفسنا نبكي ونحن نفكر في حالنا. يبدو أن العالم العربي يدير لنا ظهره بسرعة كبيرة، ويكرس نفسه للرقص والغناء والاحتفال والهتاف. كفلسطيني، لم تعد أنت نفسك: أنت الضحية، أنت المنسي، أنت تغرق في همومك، أنت وحيد، ولا أحد يستطيع إنقاذك سوى نفسك.

في فجر الثامن عشر من مارس/آذار، اليوم الثامن من رمضان، استيقظنا قبل موعد السحور على أصوات إطلاق نار كثيف وأصوات قنابل. إنها ثاني غارة على المنطقة، أو ربما كانت الثالثة، لا يهم. فقدنا الأرقام رغم أننا نتذكر كل تاريخ وتفاصيل. تجمعنا في الغرفة الأبعد عن الشارع، وبعد بضع ساعات سمعنا خبر حصار مجمع الشفاء الطبي مرة أخرى.

هذا على بعد 400 متر فقط من شارعنا، وقد صدرت الأوامر للسكان في تلك المنطقة بالإخلاء عبر مكبرات الصوت وأعطيت التعليمات بالتوجه إلى دير البلح. واستمر إطلاق النار والاشتباكات من الساعة 2:30 صباحًا حتى الصباح، وتم قصف مجمع سكني على بعد 40 مترًا فقط منا، وكان هذا مبنى مكونًا من خمسة طوابق، وقد كتب فوق مدخله عبارة “هذا بفضل ربي”.

لن أتحدث عن آثار الدمار، ولا عن إحراق غرفة عمليات متخصصة عالجت أكثر من مليون مواطن في غزة، ولا عن عدد المنازل التي سويت بالأرض.

 فقد جارنا زوجته وابنته في القصف. وقد أقسم أنها كانت بجواره مباشرة أثناء أداء صلاة الظهر عندما سقطت القنابل. وقد عمل شباب الحي بجهد كبير للبحث عن المرأة والطفلة تحت الأنقاض دون جدوى. واضطروا إلى الاتصال بقريب الرجل ليأخذه بعيدًا لأنه كان في حالة صدمة ولا ينبغي له أن يكون هناك. وبعد يومين، عثروا على ما تبقى من شعرها وابنتها على سطح أحد المنازل. ولم يخبروا الزوج.

في أحد الأيام، تلقينا من صديق يملك مزرعة في بيت لاهيا طلباً: أعطينا كل بيت في العائلة الممتدة حبتين من الطماطم، وثلاث حبات من الخيار، وحبتين من الفلفل الأخضر. لا أستطيع أن أصف مدى سعادتنا عندما تناولنا السلطة الخضراء ـ بعد أربعة أشهر ونصف الشهر من عدم تناول أي شيء مثلها. كما تلقينا إمدادات من الأطعمة المعلبة والدقيق والأرز من المساجد القريبة. للحظة، امتلأت ثلاجتنا ولم نعد نشعر بالقلق بشأن ما سنأكله في السحور. وللمرة الأولى منذ سنوات، شعرنا بما يعنيه أن نكون ممتلئين.

لقد انقطعت الاتصالات المتنقلة مرة أخرى، كما يحدث كلما اقترب حصار جديد.  تعلمنا هذا الآن: إن الاتصال ينقطع قبل أن تقترب الدبابات. لقد أصبح هذا نذير شؤم. إن انقطاع الاتصال يعني التخطيط لغزو بري. أو أن الغزو البري يحدث، وفي هذه العملية تنقطع الإشارة. إنه السؤال الأبدي: أيهما جاء أولاً: الدجاجة أم البيضة؟ إن البيضة فقط تكلف تسعة شيكل الآن ولا أحد يتذكر طعم الدجاج.

كنا نستعد للإفطار في مساء اليوم الثامن عشر من رمضان الموافق الثامن والعشرين من مارس/آذار، عندما سمعنا صرخة استغاثة قادمة من جهة مجمع محاصر قريب. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو الصمت التام الذي خيم على بقية الحي. فمنذ بدء الحصار الأخير لم يغادر أحد منزله.

في البداية ظننا أنها طفلة مهجورة تطلب المساعدة، ولكن عندما ذهب أخي منذر، وهو طبيب، مع ابن عمي مصطفى، وجدوا أنها امرأة مصابة. كانت كلتا ساقيها مصابتين بشظايا صاروخية وكانت تنزف بغزارة. كانت قد زحفت لمسافة مائة متر تقريباً من المكان الذي أصيبت فيه حتى وصلت إلى الشارع الرئيسي. حاول الناس الاتصال بالإسعاف مائة مرة، لكن الاتصال كان ضعيفاً للغاية. عندما تمكنا أخيراً من الاتصال قالوا إنه من المستحيل إرسال سيارة إسعاف إلى هناك لأنها منطقة عسكرية مغلقة. وبدلاً من ذلك طلبوا منا إحضارها إلى أقرب نقطة يمكن أن تصل إليها سيارة الإسعاف ومن ثم سينقلونها من هناك. أوقف منذر النزيف، ووضعها على كرسي متحرك وأخذها إلى النقطة التي وصلت إليها سيارة الإسعاف. أخبرنا أنها كانت في طريقها لإحضار الماء لعائلتها – الذين حوصروا مثلنا لمدة عشرة أيام – عندما أصيبت.

في اليوم الثاني والعشرين من رمضان (الأول من نيسان/أبريل)، انسحبت الدبابات من مجمع الشفاء. عرفنا ذلك عندما سمعنا ضجيج الناس في الشوارع وقت السحور. علمنا من الأخبار أن هناك 50 شخصاً فقط متبقين في المستشفى، من أصل 7000 كانوا هناك عندما بدأ الحصار. وكان من بينهم لاجئون وطاقم طبي ومرضى. ومع انسحابه، أمر الجيش الإسرائيلي الطاقم الطبي بالدخول واستعادة 6950 جثة لدفنها. هل لا تزال كلمة “إبادة جماعية” مثيرة للجدل بالنسبة لك؟

قبل أن نفطر، مشيت قليلاً في الشارع لأستنشق هواء الحرية. فخلال أسبوعين من الحصار، كانت فكرة النزول إلى الشارع أشبه بالحلم. لن أتحدث عن عواقب الدمار. ولا عن إحراق غرفة عمليات متخصصة عالجت أكثر من مليون مواطن في غزة. ولا عن عدد المنازل التي سويت بالأرض. الشيء الذي لفت انتباهي أكثر من غيره هو أن الناس بدوا أقصر قامة. لم أستطع أن أجزم ما إذا كان ذلك بسبب آثار المجاعة، أو الألم، أو مجرد الإذلال.

كان بيتنا في الكرامة قد بدأ يزورني كثيراً في أحلامي، يخبرني بمدى وحدته، ويوبخني على هجرانه، تماماً كما يفعل الحصان الذي ترك وحيداً في قصيدة محمود درويش. وفي كل مرة كنت أستيقظ منزعجاً، وأتذكر كل تفاصيل الحلم، وأكافح لأكمل يومي.

في هذا الصباح، عندما استيقظت، شعرت بإصرار على زيارته، انطلقت سيرًا على الأقدام، وسرت لأكثر من ساعة، متأملًا الدمار الذي حل بالحي تلو الحي: حي الناصر، وحي الشيخ رضوان، وحي الأمن العام. كان يطاردني. وصلت إلى البيت، تجولت حوله، شممته، لمست جدرانه، ركضت في حديقته، وألقيت عليه نظرة وداع طويلة، ثم غادرت دون التقاط صورة واحدة؛ دون أن أنظر إلى الوراء، تمامًا مثل حنظلة. بعد ذلك، تحسن نومي قليلاً، وتوقف عن زيارتي في أحلامي.

اليوم هو السابع من إبريل، والحرب مستمرة منذ ستة أشهر، وما زلنا في شهر رمضان الذي سينتهي بعد يومين. وكعائلة اتفقنا على أن نحتفل بنفس طقوس العيد كما نفعل كل عام، حيث تلتقط كل عائلة صورة جماعية وتشاركها في مجموعة العائلة الأكبر على الفيسبوك. ولا يهم كم الدموع التي تذرف في هذه العملية، المهم أننا جميعًا على قيد الحياة، حتى لو كانت المسافات الكبيرة تفصلنا.

ذهبت إلى مقهى الإنترنت الموجود خلف الزاوية لأطمئن على جيراننا هناك بعد الغارة الأخيرة. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، نشأت صداقة لطيفة بيني وبين زوار المقهى. ونشعر بالاشتياق إلى بعضنا البعض كثيراً إذا غاب أحدنا لبضعة أيام. وبعد كل سحب للدبابات، أول ما نفعله هو الذهاب مباشرة إلى هناك وتهنئة بعضنا البعض على نجاتنا، ثم معرفة من هم الغائبون الذين يخشون الأسوأ، أو التكهن بفرارهم إلى الجنوب دون أي نية للعودة.

هنا قد تلتقي بأي شخص: صديق نزح من جزء مختلف تمامًا من غزة، أو أحد الناجين، أو جار سابق، أو صديق قديم في الكلية، أو أستاذ من جامعتك. والأمر الأكثر طرافة الذي قد يحدث في المقهى هو عندما يبدأ الناس في التحدث إلى أقاربهم في الخارج من خلال رسائل الفيديو. يستطيع كل من في الغرفة، التي لا تزيد مساحتها عن 20 مترًا مربعًا، سماع كل التفاصيل الأخيرة للمكالمة، والتي عادة ما تكون حول تحويل الأموال ورسوم التحويل .

أتذكر ذات يوم أن سيدة كانت تمر بالصدفة قررت أن تجلس بجانبي وتبدأ في طرح الأسئلة:

“أختي، كيف هو اتصال الإنترنت؟”
“جيد”.
“كم يتقاضون مقابل الساعة؟”
“خمسة شيكل”.
“أختي، هل تعرفين أحداً يستطيع صرف هذا التحويل لي مقابل عمولة منخفضة؟”

قالت الجملة الأخيرة وهي تغمز بعينها اليسرى وكأنها تحت المراقبة الدولية وتحاول أن تخبرني بسر، غمزت لها بعيني اليسرى أيضا واقتربت منها واستعديت للهمس، اقتربت واستعدت للتلقي بعد أن نظرت يمينًا ويسارًا وأومأت برأسها مرتين في محاولة لحثّي على الكلام، قلت لها: لا، لا أعرف أي مكان.

*

لطالما كنت مفتوناة بتلك العبارة التي تظهر كثيراً في الأفلام: “بعد ستة أشهر”. واليوم هو الخامس عشر من إبريل/نيسان، أي بعد مرور أكثر من ستة أشهر منذ بداية الحرب. والسؤال هنا يطرق أذهاننا بقوة ويقرع الباب: ماذا بعد؟

عادة، في الأفلام على الأقل، تحدث أشياء عظيمة بعد ستة أشهر – هكذا تسير الأمور في الأسطورة – ولكن في حالتنا، ما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك؟

النصر؟
التحرير؟
الاستقلال؟
التكيف؟
الاستمرار؟

أو مجرد البقاء على قيد الحياة، مع شكر الله على عدم قتلنا، وتجنيبنا شر القتال.

صديقتي المرحة وئام أخبرتني عبر الهاتف أنها اشتهت المفتول، فطلبت من زوجها المسكين أن يذهب ليشتري لها بعضه، فقد هجرت من بيتها أثناء الاجتياح الأخير لمنطقة الشفا، وعادت إليه بعد انسحاب الدبابات لتجده بفضل الله مهجوراً، خاوياً، أجوفاً، عارياً، وكل ما تعنيه الكلمة العربية من فراغ. لقد تم نهبه بالكامل.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الكارثة الأخيرة ــ سرقة كل ما تملكه ــ فقد نجا المنزل: نجا من القصف والحرق والهدم بالجرافات، ولهذا السبب كانت سعيدة وأرادت الاحتفال ودعوة الجيران، الذين تعرضت جميع بيوتهم للسرقة بالطبع. أرادت دعوتهم لتناول الغداء، وكان الغداء لابد أن يكون في مطعم مفتول.

إذا طلب منك مغادرة منزلك فورًا ولم يكن بإمكانك إحضار سوى شيء واحد معك، فماذا ستحضر؟

عاد زوجها المسكين من الأسواق ومعه مِفتولية مستعملة اشتراها من أحد الأكشاك المرتجلة. أقسم البائع أنها من أفضل الأنواع التي رآها على الإطلاق، وأنها فريدة من نوعها، وأنها القطعة الوحيدة التي من المحتمل أن يحصل عليها في أي مكان، وطلب منه خمسين شيكلاً، لا أقل من ذلك. كان الزوج قد بحث لمدة ساعتين في متاجر أدوات المطبخ في محاولة للعثور على مِفتولية جديدة.

صرخت صديقتي وئام فرحاً عندما رأت ما يحمله زوجها في يده: هذه المفتولية عندنا ! أين وجدتها!!

في الأيام التي كنا نجلس فيها أنا وأصدقائي ونتناقش، كنا نسأل بعضنا البعض دائمًا سؤالًا افتراضيًا معينًا: إذا طُلب منك مغادرة منزلك على الفور ولم يكن بإمكانك إحضار سوى شيء واحد معك، فماذا ستحضر؟

كان أحدنا يقول القرآن، وكان الآخر يقول ملابس الصلاة، وكانت القائمة المعتادة:

الجوال.
حقيبة الإسعافات الأولية.
الكمبيوتر المحمول.
جواز السفر.
كتاب الوصفات .
عطري وأحذيتي.
شهادات ووثائق أطفالي.
شهادة زواجي.
إلخ.

ولكن في الواقع، أظهرت لنا التجربة المريرة الإجابة الحقيقية. ففي مائة بالمائة من الأحيان، تكون الإجابة في الواقع:

لا شئ.

وبالمناسبة، فإن بيت جدي في حي النصر، وهو البيت القديم الذي ولدنا وترعرعنا فيه، هو المبنى الوحيد الذي يبدو أنه صمد في وجه هذه الحرب. لقد كان شجرة تفرعت منها بيوت كثيرة ثم قطعت ودمرت: مثل بيت والدي وبيوت عمي عبد الرحيم وعبد الناصر اللذين نزحا إلى الجنوب.

وكذلك الحال بالنسبة لمنازل أبنائهم، وأبناء عمي الثالث إسماعيل، الذي هاجر أثناء الحرب في روسيا. ولكن الشجرة الأصلية فقط هي التي ما زالت قائمة. وهو أمر مثير للسخرية لأن منزل جدي، الذي يأوينا الآن، كان من المفترض أن يُباع لمستثمر كان يخطط لهدمه وبناء مركز تسوق في مكانه.

15 أبريل 2024

طوفان الأقصى

عن الكاتبة: نهيل مهنا هي مؤلفة رواية  ممنوع دخول الرجال  (الدار العربية للعلوم ناشرون، 2021)؛ والمجموعة القصصية  حياة في متر مربع   (مركز أوغاريت الثقافي)؛ وست مسرحيات، بما في ذلك  ضغط مرتفع ، التي حصلت على جائزة عبد المحسن القطان لعام 2008؛ و  “غصن” ، التي حصلت على جائزة ثقافة الطفل لعام 2008؛ و  “أحمر شفاه “، التي  أنتجها مسرح رويال كورت في لندن عام 2015. ولدت مهنا عام 1982 في مدينة غزة، فلسطين، وهي خريجة جامعة الأزهر، وهي الآن تُدرّس الكتابة الإبداعية للأطفال والشباب في غزة. لمزيد من المعلومات، تفضل بزيارة  nahilmohana.com .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى