هل هناك فعلا دولة عميقة ؟
عبد الإله إصباح/كاتب ومحلل
أخذت تروج في الآونة الأخيرة عبر وسائل الإعلام عبارة ” الدولة العميقة ” للإيحاء يوجود مستويين للدولة مستوى سطحي ومستوى عميق هو المتحكم في القرارات الحاسمة والمصيرية، وهو الذي يوجه مسار الأحداث دون الكشف عن هوية الأشخاص المتحكمين فيه في غالب الأحيان، وأحيانا يشار إلى جهاز أو أشخاص باعتبارهم يمثلون الدولة العميقة. فهل ترقى هذه العبارة إلى مستوى المفهوم الدي يعبر عن تطور في مفهوم الدولة استدعى ضرورة التمييز فيها بين ما هو سطحي وعميق فيها؟ لا بد من الإقرار بأن الإعلام اعب دورا كبيرا في ترويج العبارة، فهي لا تعدو أن تكون في النهاية مجرد عبارة إعلامية لم تنبثق من خلال دراسات متعددة ووافية لواقع الدول يسمح باستنتاج أن هناك في كل دولة أو على الأقل في بعض الدول مستوى من الدولة يتميز عن مختلف مستوياتها الأخرى يشار بكونه الدولة العميقة.
ورغم اتساع نفوذ هذا الجهاز في الدول السلطوية وسطوته وجبروته، فأنه يعكس في نهاية المطاف طبيعة الدولة التي يعمل لصالحها..
من المعروف أن الدولة عبارة عن تنظيم بيروقراطي يتجسد في أجهزة ومؤسسات تخضع في سيرها لتراتبية هرمية تجعل المؤسسة الأدنى تأتمر بأوامر المؤسسة الأعلى، بمعنى هناك مؤسسات تتخذ القرار ومؤسسات تنفذه، وضمن مؤسسات اتخاذ القرار توجد مؤسسة عليا هي المؤسسة الحاكمة يكون على راسها رئيس أو ملك أو رئيس وزراء حسب طبيعة النظام هل هو نظام ملكية تنفيذية أو ملكية برلمانية أو نظام جمهوري. في جميع هذه الأنظمة توجد أجهزة تضطلع بأدوار هامة وحساسة هي أجهزة الجيش والأمن والاستخبارات بحيث لا تكون الدولة دولة إلا بوجود هذه الأجهزة، بل إن أحد هذه الأجهزة وأقواها، أي الجيش، لعب أدوارا مصيرية في مأل العديد من الأنظمة بالانقلاب عليها وتحويل طبيعتها وتغيير مضمونها السياسي و الاجتماعي، فالجيش هنا مؤسسة وازنة استطاعت أن تكون هي المؤسسة الحاكمة في العديد من الدول والأنظمة، ومع ذلك لا يمكن أن نقول عنه بأنه دولة عميقة لأن دوره كان دائما بنفس الأهمية والخطورة، ويكون معروفا أنه هو المؤسسة الحاكمة خاصة في الأنظمة العسكرية، وقد يتخفى أحيانا ويدفع للواجهة رئيسا شكليا أو حكومة لا تحكم. إلا انه في الدول الديمقراطية يكون الجيش كمؤسسة خاضعا لرئيس الدولة ومراقب من طرف أجهزة اخرى ومن وسائل الإعلام.
ويبقى جهاز الاستخبارات هو الجهاز الأكثر إثارة للجدل سواء في الأنظمة الديمقراطية أو الأنظمة السلطوية، فكثيرا ما يشار إليه تلميحا أو صراحة في العيد من الوقائع و الأحداث خاصة تلك المرتبطة باغتيال شخصيات سياسية معارضة أو تدبير انقلابات أ و تلفيق ملفات جنائية أو اختلاق نزاعات وصراعات مذهبية أو طائفية في العديد من الدول بل وأحيانا إشعال حروب طاحنة. هذه الأدوار والمهام التي يقوم بها هذا الجهاز والأجهزة المماثلة له هي التي تدفع أحيانا إلى الاعتقاد بأنه يشكل دولة داخل الدولة، أو الدولة العميقة حسب العبارة الرائجة حاليا. ولكن مع ذلك ينبغي ان لا نغفل كون هذا الجهاز يعمل دوما تحت إشراف رئيس الدولة سواء كانت هذه الدولة ديمقراطية أو سلطوية. فإذا اشطط وتعسف وتجاوز القواعد في ظل دولة ديمقراطية فأنه يتعرض للمحاسبة من طرف المؤسسة التشريعية، علما بأن رئيسه ملزم بتقديم تقرير دوري أمام هذه المؤسسة حتى نكون قادرة على تقييم أدائه ومراقبة أفعاله.
ورغم اتساع نفوذ هذا الجهاز في الدول السلطوية وسطوته وجبروته، فأنه يعكس في نهاية المطاف طبيعة الدولة التي يعمل لصالحها، بما هي دولة غير ديمقراطية تحتاج إلى التحكم والتخويف والقمع ومن تم تكثر وتتعدد تجاوزات جهاز الاستخبارات فيها لآنه يعمل دون رقابة من أي مؤسسة سواء كانت تشريعية أو حكومية. ورغم ذلك كله فهو يبقى جهازا ضمن أجهزة أخرى تخضع كلها وتأتمر بأوامر المؤسسة الحاكمة في جميع الظروف والأحوال.
فهل يصح بعد هذا الحديث عن شيء اسمه الدولة العميقة، اليس المقصود أحيانا من ترويج هذه العبارة تبرئة بعض الأنظمة واعفائها من مسؤولية ما ارتكبته من انتهاكات ماسة بحقوق الإنسان وإلصاقها بكيان وهمي تحت مسمى الدولة العميقة؟ يجدر بنا إذن أن ننتبه لبعض وظائف الإعلام في التزييف والتضليل وغسل الأدمغة. لا ينبغي أن ننسى أن الإعلام أو على الأصح بعضه هو ايضا جهاز من أجهزة الدولة