“هذا اسمي يسرد تفاصيله”..سيرة فاطمة تزوت (الحلقة السادسة:العطار)
"هيشة الله" التي تحمل الناس وتغلق عليهم الأبواب
فاطمة تزوت/كاتبة ومناضلة
خضع محمد لقرار والدته وعمته المفاجئ بعد عناء من محاولتهما لإقناعه بالسعي نحو حياة أفضل، بعد أن حكت كلا منهما ما في جعبتها مما تزوّدتا به من أخبار عبر بعض الرحل المتنقلين، ومن بعض العطارين أثناء مقايَضتهم لسلعِهم من إسهاب في الحديث عن مدينة تدعى ” الدار البيضاء “.وعلى ذكر العطار،وهو رجل تجارة متنقل ذو مهام متعددة، وقد يكون بلا عنوان، بحوزته دابة يحمِّلها سلعا مختلفة من كل صنف وشكل مثل : الحلي المصنوعة من الفضة أو المعدن، الأقمشة المزركشة، المناديل، أدوات التزيين للنساء، التي كانت تقتصر على : الحناء، والكحل،والسواك،والقرنفل، والورد المجفف،والمرايا، وكذلك بعض الأعشاب لمداواة بعض الأمراض كنزلات البرد، وارتفاع الحرارة والدمامل والحصبة (بوحمرون) والسعال الديكي (العواية) وغيرها، فيُقايضها بمواد غذائية كَالحبوب من قمح وشعير وذرة وإيلّان وبيض، و بعض السوائل كالزيت والعسل، ومشتقات الحليب وغيرها من المنتجات. للعطار الجوال مهام أخرى ومنها، إيصال الأمانات من شخص لآخر، ونقله لرسَائل شفوية، أو مكتوبة، بين شيوخ القبائل وأعيانها. تتجمع حوله النساء والصبايا وهن يتبضعن منه ما يحتاجون إليه، ويستمتعن بأحاديثه الغريبة حين يحكي عن مناطق بعيدة تتميز باختلاف لباسها ونمط عيشها وعاداتها وبعض تقاليدها التي تختلف عن المنطقة التي يحل في ربوعها. حتى إن العطار، بفضل هذه العادة،يصير رجلا حكواتيّا شيقا بامتياز.وهذه الميزة هي التي تجعل الذكور يسارعون أيضا، بعد صلاة المغرب، إلى الانضمام لحلقته التي يروي فيها غرائب القصص، وعجائب الأمصار، إلى أن يحين موعد آذان صلاة العشاء.ومن اللافت أن إعجابهم بأحاديثه ليس أقل شأنا عن إعجاب النساء، وخصوصا حين يحدثهم عن عجائب لا يصدقها العقل كحَديثه عن الدراجة الهوائية ومساكن بطوابق متعددة أو الماء المنطلق من الصنبور بلمسة يد وبلمسة أخرى يتوقف، والحُبابات التي يشع منها النور ليلا كضوء الشمس، وكان آخر غرابة شاهدها ولم يجد لها اسما غير : ( المَعْجوجتْ نْرَبّي) وأقرب ترجمة لها هي : (هَيْشَةُ الله). ويقصد بذلك “السيارة” مضيفا : تحمل الناس وتغلق عليهم الأبواب، لا أقدام لها ولا أجنحة، تم تصدر صوتاً لا هو بالصراخ ولا هو بصوت الرّعد وفجأة تنطلق بهم كالبراق فلا يبقى لها أثر.
كما كان للعطار دور إبّان مكافحة الاستعمار الفرنسي الغاشم في نقلِه لرَسائل شفوية بين المناطق والمدن في إطار التنسيق بين أعمال الفدائيين، بحكم غياب أية وسيلة للتواصل آنذاك، ليظل العطار بذلك هو الوسيلة الوحيدة لربط الصلات بين عامة الناس.وقد كان شخصا مرغوبا فيه للغاية،فأينما حل أو ارتحل متجولا في ربوع المداشر والقرى والدواوير، يسارع أهل المنطقة إلى إيوائِه وتغذيته إلى أن يكمل مقايضة سلعته، فيجمع ما تمت مقايضته ليبيعه في السوق الأسبوعي، ويقتني بما باعه سلعة جديدة ويشد رحاله صوب وجهة أخرى.