هذا اسمي يسرد تفاصيله.. سيرة فاطمة تزوت (الحلقة الرابعة: رحلة صوب المجهول)
هكذا تخلص الطفل تماما من شكله الأنثوي
فاطمة تزوت/كاتبة ومناضلة
في ليلة كالحة، وقبل آذان الفجر غاب كل ما تبقى من أسرة الراحل عبد الرحمن، وحدها بعض رؤوس أغنام لم تلتحق بباقي القطيع للرعي كالعادة، حيث بقي باب الزريبة موصداً عليها، ولم يخل المكان إلا من نقنقة دجاجات تستنكر حبسها، وقطة تموء بحثا عن أهل البيت، وحين تأكد لها خلو الدار من أهلها خلدت لنوم عميق على فراش سيدها.
وفي غفلة عن الجميع غادر محمد/بية ووالدته وعمته الأرملة أرض النشأة، سالكين منعرجات وعرة، متوغلين بين الفجاج، والتلال والمنحدرات،حاملين معهم زادا من ثمر وسمن وخبز” تنورت “، وقُلة ماء يملئونها من عيون جبال الأطلس الكبير المتناثرة بمجرد ما ينضب ماؤها.وكلما شعروا بالتعب والجوع استكانوا إلى ظلال أشجار جبال الأطلس الوارفة،فيقتاتون بقليل من الزاد، ويأخذون قسطا من الراحة، ثم يتابعون سيرهم الحثيث عبر الطريق المؤدية لناحية مراكش. لقد قضوا أزيد من ثلاثة أيام وهم على هذه الحال، وعلى الرغم من ذلك، فقد أحدثت هذه التجربة تحولا جذريا في نفسية محمد/بية. فهذه أول فرصة استعاد فيها محمد اسمه وهويته الجسدية الحقيقية، بعد أن عاش باسم مستعار وبهوية أنثى ظل يتقمصها لمدة تزيد عن السبع سنوات. وهكذا تخلص الطفل تماما من شكله الأنثوي،إذ حُلقت ضفيرتاه، ونُزع قرطاه عن أذنيه، والخلخال عن قدمه اليمنى، ثم أُلبس ملابس الذكور، وتمت مناداته لأول مرة باسم “محمد “.
كثيرة هي الأسئلة المتراكمة التي راودت محمد لسنوات، فأطلق لها العنان، لكن لم يجد لها من تفسير سوى هذه اللازمة التي ما فتئت تكررها والدته : يا حبيبي لو لم أفعل بك ما فعلته، لما كنت هذه اللحظة على قيد الحياة. طوال تنقلاتهم كانوا يستدلون على الطريق بالسؤال في أية قرية أو قبيلة عن الاتجاه المؤدي إلى مدينة مراكش من المارة والرّحّل. وبحكم ما يعرف عن قبائل البربر من كرم الضيافة والعناية بالغرباء، فقد تمت استضافتهم من طرف عشائر كثيرة، وهناك من طالت إقامتهم عندهم مقابل إسداء خدمات كالرعي وجلب الحطب والماء،والعناية بالمزروعات في الحقول وجني الخضر والثمار مقابل الإيواء والطعام مع بعض المال الناتج من أرباح مبيعات الخضر والفواكه والبيض ومشتقات الحليب.
دامت رحلتهم قرابة العام، قبل أن يستقروا بقبيلة “إورِيكن” التي لا يفصلها عن مدينة مراكش سوى ثلاثين كيلومترات.
وفي سنتهم الأولى بها صادفوا أفراح الختان الجماعي، ليكون محمد من بين الأطفال المشمولين بطقوس الختان، وهذا الأمر هو ما أشعره بتمام ذكورته.
توالت الفصول وتعاقبت بشكل سلس للتشابه الحاصل في نمط العيش والعادات والتقاليد بين إورِيكن وتاكاديرت بأرض النشأة، إضافة إلى صفات ميزَتهما كالصدق والأمانة والطيبة وإكرام الضيف ، ومن ارتباط الناس بالأرض وتسخير كل ما يملكون لأجل خدمتها والعناية بها.
وكل ما لوحظ من فرق هو بعض الإضافات لِأوان المطبخ التي أصبح صنعها من المعادن بدل الطين، وظهور بعض الأطباق والكؤوس المصنوعة من البلاستيك، مما أضفى على القرية تغيرا ملحوظا في شكلها كلباس النساء المميز بألوان فاتحة بهيجة وأحيانا برسومات ملونة زاهية تختلف من الناحية الجمالية على ما ترتديه نساء تاكاديرت. وقد كان لقرب مراكش من إورِيكن دور رئيسي في هذا التغير.