ّ”هذا اسمي يسرد تفاصيله”..سيرة فاطمة تزوت(الحلقة الخامسة: محمد معيل العائلة)
فاطمة تزوت/ كاتبة و مناضلة
ترعرع محمد وسط أهل قبيلة إورِيكن وفي ذاكرته حمولة وجع يكبر سنه، المشهد الدرامي لجسد والده المعلق بشجرة الزيتون، كلما حاول الخلود للنوم وهو يحاول نفض ما علق بجسده من مشقات يوم كامل، لتنطلق فصول أحداث ساهمت في تشكيل كيانه ورسم معالم شخصيته، ليجد أن ما يمرّ أمامه من صور أعنف وأقسى من عذابات النهار التي يقبل عليها عن رضا وطواعية.
اشتد عود محمد وقوى وساهمت طيبته وأخلاقه العالية، وما يتصف به من صدق أمانة، من نيل احترام الصغار والكبار له، ،وهي الصفات التي جعلته مميزا عن أقرانه، مما جعل أهل القرية يستعينون به في قضاء حاجاتهم، فأحبه الكبار والصغار؛ مما دفعه لتقدير واجباته، وتقديم العون لمن يحتاجه، مقدراً ما عليه من واجبات، فلا يقوى على رؤية حقل يشكو جفافا إلّا وتطوع لسقيه، ولا بهيمة امتد لها لهيب الشمس الحارق إلا وغير رباطها إلى ظل دوحة، على الرغم من أنه لا يملك شيئا قط . فتجده أول النشيطين في موسم جني المنتجات الزراعية، أو راعيا لماشية القبيلة أو جالبا الحطب لمن استعصى عليه صعود الجبل، وحتى عندما يشرع الليل في إرخاء سدوله يعرج على خيام ودور شيوخ لا معيل لهم، يتفقدهم إن كانوا يرغبون في قضاء حاجة ما. كان هذا طقسا من طقوس محمد يشعره بالرضا والطمأنينة،فيدعو حينما يخلو إلى نفسه لوالده عبد الرحمان بالرحمة والمغفرة. لم يعرف قط عن محمد أن طلب من أحد من أهل القرية مقابل خدمَة أسداها لأحد سواء من الميسورين أو من ضعاف الحال.
كذلك كانت أمه وعمته اللتان كرستا نفسيهما لخدمة عشيرة أكرمتهما واحترمتهما، وبذلك نالتا تقدير الجميع الذين أكبروا فيهما عزة النفس وإبَاءها، فعاملوهما معاملة حسنة. وبذلك حظيت أسرة محمد بقسط يسير من أرض الجموع وتمكنت من نصب خيمة تؤويها وتحفظ كرامتها، ومن اللافت أن أهل القرية لم يبخلوا عليها بشيء، فما خلا هذا البيت الناشئ من حبوب القمح والشعير، ولا جف قدوره من حليب ولبن ولا من زيت ولا سمن. ولردِّ الجميل تكلفت والدة أحمد وعمته بنسج الأغطية والجلابيب والزرابي للراغبين فيها دون مقابل،كل ما تشترطه فقط هو إحضار بعض الصوف ،مما جعل بيتها يمتلئ بالنساء والصبايا الراغبات في تعليم فن الزرابي وجلاليب السوسدي، مما اضطر معه رجال القبيلة لنصب خيمة أخرى إلى جانب خيمة أهل محمد تكون خاصة بأشغال النسيج الذي أصبح أهل القرية قاطبة يستفيدون منه بقطع متفاوتة. فما مرّ عرس إلا وتم تقديم قطع منسوجة للعروسين،وما انعقد حفل عقيقة أو ختان إلا واستفاد الصغار من جلابيب أو سلاهم. وكان أجمل شيء يذكر لمحمد وعائلته هو تعليم حرفة النسيج لصبايا ونساء هذه القرية التي داع صيتها بين القرى المجاورة، بما تنتجه من نسيج.
رضي محمد بما آلت إليه الأمور من عيش كريم له ولوالدته وعمته، وكثيرا ما كان يسند ظهره لساطور الخيمة بعد نزول الظلام بعد أن يغتسل ويغير ما عليه من ثياب، ثم يجلس على مقربة من موقد النار، متحدثا لأغْصانها التي تحدث طقطقة متفاوتة الأصوات بفعل النار المتقدة مستعيدا ذكريات محفورة وكأنه يخشى نسيانها فيدع الموجوعة منها ويستحضر طفولة صباه في شخص ” بية “كتاب محكم الطيّ يتفحصه محمد كلما اشتد به الحنين لأرض النشأة بخضرتها اليانعة وأشجارها المتشابكة وينابيعها السخية، وبقَرتهم الوحيدة التي لم تبخل عليه يوما حين كان يمر على رأس ثديها ممتصا حليبها الدافئ الذي يملأ منه بطنه كل صباح، فتتملّكه النشوة في الذكرى، ويستحضر صبايا كن له رفيقات على مدار سبع سنوات، صفية، رقوش، فاظمة، إيجا، فتدمع عيناه لانتقاله المبهم في الشكل من ذكر لأنثى ومن أنثى لذكر دون أن تشفي أجوبة والدته غليله، فتفيض عيناه دمعا يظل أثره عند الصباح فوق مخدته المصنوعة من جلد الماعز التي رُدَّ شعرها للداخل وتم حشوها بقطع الكتان البالية أو الملابس الممزقة ويظل جلدها الظاهر الذي يضع عليه النائم رأسه ناعم الملمس.
تسع سنوات مرت تباعا بصنوف أحداثها المختلفة، تعاود فيها الفصول دورانها، كل فصل يرتدي أغلى حلة من سابقه متباهيا بما لا يدع الشك في أنه الأروع والأفضل من بين كل الفصول.
حين بلغ محمد ربيعه السادس عشر، أصبح فتى القرية بامتياز، فلا يتم قران إلا وكأن ضمن الحاضرين، ولا عزاء إلا وتصدر المجلس مع شيوخ القبيلة، وما فاض واد أو هب إعصار إلا وبادر محمد إلى جمع شباب القرية ووزع المهام لإنقاذ المنكوبين ونصب الخيام بأرض الجموع وإحضار الفائض من الأغطية من الساكنة إضافة على إعلانه لتحضير ما تجود به الأسر من الأطعمة، فتصبح القرية كخلية نحل تتحرك في كل اتجاه بصغيرها وكبيرها. وهكذا لم يعد محمد ذلك المعيل لأسرته فحسب بل صار رجلا للقرية بامتياز. لكن باخرة الحياة أبت إلّا أن تبحر من جديد بمحمد وعائلته.