مذكرات

ّ”هذا اسمي يسرد تفاصيله” سيرة فاطمة تزوت (الحلقة الأولى: النشأة)

فاطمة تزوت/ كاتبة ومناضلة

تقديم المحرر: إنها سيرة استثنائية لامرأة استثنائية تجمعت في مسارها كل عناصر الإدهاش و المغامرة و الصمود والصدق. أعارت قدرتها على حكي قصتها لأصوات من لم بحكوا، ولم تتخل عنهم عرضة للنسيان. إنها حياة تقاطعت مساراتها مع أشخاص وأحداث و منعرجات، و تنوعت جغرافياتها ما بين مناطق متباعدة من الجبال الشاهقة، إلى المنحدرات الوعرة، و الوديان، والحقول، و السفوح، و المدن الضاجة، من الحياة الأسرية إلى الانخراط الصعب في الاحتكاك بشرارة النضال الحارقة في زمن سنوات الرصاص. فاطمة تزوت، اسم يصعب جمع خطوط تماسه، فهي المناضلة الشرسة والقيادية النقابية، ومراسلة الBBC الشجاعة في تسعينات القرن العشرين، و هي  المربية والمسرحية و الكاتبة، و الزوجة و الأم. ويكفي لتأكيد أهمية هذه السيرة التي ننشرها مسلسلة، إيراد ما قاله الفيلسوف عبد العزيز بومسهولي في خاتمة تقديمه لها:”سيرة فاطمة هي سيرتنا جميعا، كونها تعبر عن شيء فينا، وعن نزوعنا نحو كينونة تتأصل بالصمود والحرية، ولهذا تستحق أن تقرأ.” 

النص 

 ”  أرض النشأة -1- ”

… على سفح أحد الجبال الشامخة بالأطلس الكبير حيث استكانت قرية تدعى (أيت اوزدين) بدوار تيديلي التي لا يفصلها عن وارززات سوى ثلاثين كلم.

    وتعود تسميتها ب “أيت أزدين” نسبة الى وجود توأمين ملتصقين  عاشا ما يربو على عشرين عاما مات بعدها أحدهما وظل توأمه يحمله أينما حلّ وارتحل مما جعل أهل القرية يعملون على مساعدة التوأم الحيّ على كربته بعد أن تم تحنيط جثة أخيه باستعمال أعشاب تحفظها من التحلّل والتعفن تماشيا على ما يعرف بالتحنيط عند القدماء.

إلا أن حياة التوأم ساءت لثقل الجثة وللرائحة التي تنبعث منها من حين لآخر.مما استحال معه قضاء أبسط حاجاته فلزم الفراش وقام أهل القرية بتوزيع محكم فيما بينهم للعناية به بالتناوب إلى أن أسلم الروح لباريها بعد مرور أشهر قليلة ليدفنا معا. من يومها تحول اسم “تكاديرت” الى  “تكاديرت نايت أوزدين”.

هي قرية مترامية الأطراف بيوتها من طين أحمر معجون بالماء والتبن و أسقفها من جذوع أشجار متساوية وقد يضطر البعض لإضفاء نظرة جمالية عليها بنحتها ورسم نقوش عليها وقد أصبح لهذه الأسقف دورا أساسيا في استغلالها لنشر ما يتم غسله من حبوب القمح  والشعير ونشر الذرة والبصل وتجفيف التين في موسمه. وعند بناء الجدران يضعون كوة  صغيرة بعضها يفتح للخارج قصد التهوية ودخول الضوء والبعض الآخر يتم حفره على شكل مربع أو مستطيل لتوضع بداخله بعض الحاجيات والمستلزمات على شكل رافعة. ثم يضعون لها أبوابا غالبا ما يضطر الداخل إلى الحجرة للانحناء لقصرها الذي لا يتجاوز المتر الواحد. في حين أن البعض الآخر من أهل القرية مازالوا متمسكين بالسكن تحت الخيام المنسوجة من شعر الماعز أو غيره بحيث تقسم الخيمة إلى نصفين يخصص القسم الأكبر للجلوس وتناول الطعام والجزء الأصغر للنوم يفصل بينهما إزار ينشر لفصل الخيمة عند الحاجة وعلى إحدى جانبيها تبنى “نوالة” تسمى بالأمازيغية “أحشوش” يبنى بداخلها فرن من الطين لطهي الطعام  ورافعات خشبية  توضع عليها بعض الأواني المصنوعة من الفخار أو الطين كالقدر والقلل التي يكون بعضها مصنوعا من الخشب ك “القصعة” التي يتم فيها عجن الخبز و بوشيار،إضافة إلى الملاعق التي غالبا ما يتم صنعها من خشب العرعار. وغالبا ما يتغير لون الأواني فيغدو فاحما بفعل الحطب المستعمل في طهي الغذاء الذي تنطلق أول وجبة فيه بعد آذان الفجر متصاعدا دخانه من الخيام والدور المنتشرة مخلفا في الهواء نكهات تستطيع التمييز من خلالها بين أنواع الحساء المصنوع من الذرة أو الشعير أو “إلان”، وبين روائح الشاي أو القهوة.

من هذا الباب كان الأصل…

على الجانب الثاني من الخيمة أو خلفها يتم صنع “حوش” دائري أو مربع محاطا بأشواك الصبار وباب يحكم إغلاقه على الماشية مساء عند عودتها من الرعي قصد حمايتها.

وحسب فصول السنة وتعاقبها يتأقلم أهل “تكاديرت” مع أيامها التي تختلف من فصل لآخر بين حرارة شهور الصيف وقيظها وبين فصلها البارد وما يكسو المنطقة من حلل ثلجية تحد من تنقل البشر لأيام قد يطول مداها. ويظل لكل فصل طقوسه.

ضمن مهام لا تتأثر بتغيير الفصل كرعي الماشية وجلب الحطب والعناية بالحقول وسقيها وشذب أشجارها وكل ما يتطلبه العمل اليومي من كنس وغسل وطهي وأداء للصّلوات.

 قد تتوزع المهام بين رجال القرية ونسائها وبين الصغار، حتى ليبدو لكل غريب أنها مواثيق وقوانين مسطرة تعقد بمقتضياتها عمل الجميع، لكنها في واقع الحال،مجرد حمولة موروثة منذ القدم.

ارتباطي بأرض نشأة والدتي

ففي الحين الذي يهتم في الرجال بالرعي والحرث والسقي وشذب الأشجار،تتكفل النساء برعاية الأبناء والطهي وغسل الأواني والثياب وجلب الماء من العين في قدر من الطين وجمع الحطب لطهي الطعام والتدفئة خصوصا في فصل الشتاء وطحن للحبوب عبر طاحونة يدوية تسمى “أزرك” لا يخلو منها بيت إضافة إلى نسج الأغطية وبعض الألبسة كالجلابيب والسلاهم الخفيفة للصيف، والثقيلة لفصل الشتاء، والأغطية ك “الحايك” و “لعبانة” وأفرشة ك “الهردال” و”الزربية” المتعددة الألوان ذات الرسومات الدقيقة والمتقنة مما سيجعل منطقة وارززات تشتهر بزرابيها عبر ربوع  الوطن، كما اشتهر نسيج “لكطيفة” بمنطقة الأطلس المتوسط.  أما ” بوشرويط”  فيصنع من الملابس القديمة والممزقة التي تقطع إلى شرائط رقيقة وطويلة يتم نسجها كما تنسج الصوف المغزولة وتعطيها كثرة الألوان شكلا يبهج النظر. ويظل هذا النوع متوفرا لدى كل عائلة لعدم تكلفة صنعه.  أما نسيج صوف الغنم فهي تخضع لعدة مراحل بدءا من الغسل والتمشيط والقرشلة والغزل ثم الصباغة عندما تصبح حياكتها تامة.

  تبدأ البنات في سن مبكر بمساعدة الأمهات في الأشغال الخاصة بالنساء، في حين يساعد الأطفال الذكور آبائهم، كما يقضون ما بعد الظهيرة في الكُتاب لتلقي بعض التعاليم الدينية وحفظ للقرآن. هكذا يتنافس الأطفال في تقليد ما يقوم به آباؤهم، وتتنافس البنات مع بعضهن البعض أثناء صعودهّن ونزولهن عبر الجبال والمرتفعات، تقليدا لأمهاتهن حين تصدح حناجرهن بأهازيج ومواويل أمازيغية عذبة الألحان، وتنخرط الجبال الشاهقة في رد صداها فيبدو التمازج كسمفونية مخملية من عصور عريقة تشعر النفس بالقشعريرة، وهن غير آبهات بثقل الحطب الذي يعلو ظهورهن والمربوطة بحبال في كامل الإتقان بحيث قد تزل قدم إحداهن وتتدحرج دون أن تنفك عقدة الحبل الذي يلف حزمة الحطب من على ظهرها.

كما أن هناك أعمال يقوم بها الجنسان معا، كالعناية بالدواجن والأبقار وبعض الخرفان التي يتم علفها أما النعاج الحوامل  فيتم جلب العلف لها والبرسيم وتتم العناية بسقيها وتنظيف الإسطبل من حين لآخر.

 بعد صلاة المغرب يتخذ كهول القرية وشيوخها زاوية من المسجد لتداول الأمر فيما بينهم في ما يخص شؤونهم من جهة، ومن جهة أخرى، لتتبع مستجدات أمر المستعمر الفرنسي حسب ما يتناقله الرّحل المارون باتجاه مراكش أو القادمون منها، والعطارون الذين يحلون بين الفينة والأخرى بين ظهرانيهم، وهم يحملون معهم رسائل غالبا ما تكون شفوية ينقلونها إلى شيوخ القبائل، وهي تتعلق غالبا بشؤون الحياة القبلية،أو بأمور تخص الإمدادات اللوجيستكية لدعم المتطوعين والمدافعين عن الوطن.

 حين يرخي الليل سدوله على جنبات قرية “تكديرت”، يتوافد كبار السن لأداء صلاة العشاء، ويلتقي الشباب تحت شجرتي جوز يدعوها أهل تكديرت ب ” تزُّوتين ” حيث تنتظرهم أباريق الشاي وخبز ساخن يدعى ” تنورت ” مع السمن والعسل وزيت الزيتون.

هكذا جرت العادة أن تتكفل الأسر –بالتناوب- بالسهر على تنظيم أمسيات فنية ترويحا عن النفس، يديرها شبان يافعون وهم يردّدون أجمل الأهازيج، وسرعان ما تلتحق بهم بعض الأسر، فتجلس النساء على ثلة يتابعون فيها فصول السهرة، في حين ينزوي المسنّون في ركن منعزل، ويسمح للصبايا غير المتزوجات بتشكيل مجموعة تقابل مجموعة الشباب أثناء ترديد الأغاني، بحيث يبدأ الشباب وتردُّ عليهم الصبايا، وكل  مجموعة تعمل على أن تتفوق على غريمتها بنظم كلام موزون لحنا ونغما وأداء، شريطة أن لا يكون قد سبق تداوله، وكلما تفوقت مجموعة تنطلق زغاريد النساء ملعلعة في الفضاء. فتعم البهجة في نفوس الصغار والكبار.

هكذا تتم أجواء الصيف ومواسم الحصاد ومواسم جني الزيتون ومناسبات الزواج والختان الجماعي لصغار القرية.

لساكنة “تاكديرت” ميزة خاصة تتمثل في التضامن والتكافل في الأحزان والأفراح، فما أن يحل ضيف على أحدهم حتى يتسابق الباقون على كرم استضافته والحفاوة به.

الحلقة المقبلة: مولد محمد/بية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى