مذكرات

يوسف الطالبي يواصل محكيات الطاكسي في زمن الكوفيد (3)

العقدان من الزمن اللذان قضاهما مربوطا الى مقود الطاكسي أكسبته معرفة بمواسم الرواج وأيام الكساد، كان بناء على ذلك يبرمج متى عليه أن يشد حزم نطاقين، ومتى يمكنه أن يأخذ عطلة أو على الأقل أن يوفر الجهد، ففي كل الأحوال لا طائل من الإلحاح. في مدينة سياحية كمراكش، يبدأ موسم العمل مع مطلع شهر مارس حتى نهاية ماي، هي الفترة التي يكون فيها الطقس ربيعيا، يوقن السياح أنهم سينالون نصيبهم من الشمس، يستلقون جنب المسابح أو يتجولون شبه عراة تاركين أشعة الشمس تلفح بشراتهم الناصعة البياض وتصبغها بسمرة إفريقية، وإذا ما رحلوا إلى جبال الأطلس أو الصحراء فلن تفسد العواصف و الغيوم رحلاتهم، ينالون حظا وافيا من متعة متابعة الشروق والغروب فوق الكثبان الرملية، يستلقون على ظهورهم ليلا للاندهاش بسماء مرصعة بالنجوم المتلألئة، الصحراء قاسية صيفا وشتاء، في الصيف تستحيل فرنا متقدا، وفي الشتاء يتجمد الماء في أوانيه.
في فصل الربيع، يزور المدينة من يرغب في دفء الشمس دون حرارتها. الصيف له زبناء آخرون، مغاربة يعيشون بالمغرب أو في المهجر تستهويهم الملاهي المائية والليالي الصاخبة، تجربة ركوب الجمال أو الدراجات الرباعية، ولحفلات أعياد الميلاد ونهاية السنة الميلادية زبناؤها أيضا.
كورونا اربكت دورة عمل سيارة الأجرة، وارتبكت معها معرفته بمواسمه ، لم يعد يفهم سبب ذلك التغير في وثيرة العمل، في نفس الاسبوع، وخلال يومين متتاليين يختلف العائد الصغير بشكل كبير، مقياس تقدير العمل ما إن كان جيدا أو سيئا تغيرت كثيرا، مع كورونا إذا فاض القليل بعد تلبية واجب كراء السيارة وثمن الوقود، يكون صيد اليوم غير مؤسف، يسيطر على السائقين تخوف طيلة اليوم من أن لا يستطيعوا ذلك، فيتراكم ما ينقص بذمتهم إلى اليوم الموالي. من حين لحين يعيدون عد ما تجمع بحصالاتهم من دراهم، ويتطلعون للساعة ليروا إن كان ما تبقى من ساعات العمل قبل بدء سريان حظر التجول يكفيهم لتدارك النقص. من دواعي التوثر أن يصبح السائق مدينا لمالك الطاكسي بالمال، يصير كمن يعمل مجانا وعليه تدبير ما يسدد به العجز، في مثل هذه الحالة يفضل السائقون العطالة، على الأقل تستقر حالهم في وضعية الصفر بدل الأعمال الشاقة والديون.
طلائع النهار تشي أنه سيكون يوما بخيلا، او على الأقل هذا كان شعوره، كورونا عمقت مزاجه المتشائم، بات لا يتوقع إلا الأسوأ، رغم محاولاته إقناع نفسه بما يتردد على مدار الساعة على محطات الراديو من وجوب مقابلة الدنيا بإيجابية وتفادي منابع الطاقة السلبية، فإن ما يحيط به من أخبار وأحداث في المغرب والعالم لا يكرس إلا الهزائم والانتكاسات، الأحلام التي بدت بالأمس على مسافة شبر صارت اليوم تعرض أوفياءها للسخرية، محطات وقوف الطاكسيات ممتلئة، وهي علامة سيئة، الطلب عليها إذن قليل، من خططه في العمل أن يختار لنفسه مكانا يتوقع أن يلاقي فيه زبناء، يقامر باحتمال تكبد غرامة رسمية أو غير رسمية بسبب الوقوف الممنوع، لكن المضطر يركب البحر.
اختار الوقوف أمام أقواس باب اغمات من جهة خارج المدينة، فكثيرا ما يخرج طالبون لسيارة أجرة، أو قد يغري زبناء الكوتشي بتغيير رأيهم وركوب طاكسي، فهو أسرع وأريح وأقل كلفة، بل إن بعض الزبناء لما يطول بهم انتظار تجمع ستة مسافرين لتنطلق لتتحرك عربة الكوتشي، يتفق ثلاثة ويستقلون طاكسي.
– الله يلطف بنا وبالخيل
هكذا أجابه ابراهيم الكوتشيرو حين أنبه على إهمال الحصانين، لقد صار ضمورهما واضحا كأن بهما مرضا، الكميث منهما التصق جلده بالضلوع واتخذ شكلها، الوبر الذي كان يتلألأ تحت أشعة الشمس صار أشعثا يفضح نقص الغذاء والنظافة.
عادة اصحاب الكوتشيات أن تكون لديهم أربعة خيول، يناوبون فيما بينها في العمل يجر العربة ليوم إثنان والآخران في اليوم الموالي، كان كل حصان يشتغل يوما ويستريح يوما، وحتى في يوم عملهما يقضي الحصانان النهار تحت أشجار عرصة البيلك أو الحي الشتوي الظليلة، الفارق الزمني بين جولة وجولة طويل، غالبية الزبناء من السياح الأجانب، حتى لم يعد المراكشيون يركبون الكواتشة. كراب ( grrab) الكوتشي يتجول عليهم يسقيهم الماء، عائدات العمل تسمح بتدليل صاحب الكوتشي لخيوله، طعام وفير وزينة، أحزمة في السيقان كالأساور، طلاء على الظافر، نواقيس نحاسية على اللجام، كان ما يذره عليه العمل يسمح أن يدلل خيوله و يدلل نفسه.
كان أمل أصحاب الكواتشة أن تلتفت إليهم الدولة بدعم من صندوق مواجهة الجائحة، على الأقل في شكل علف للخيول، يعتبرون ذلك حقا لهم وواجبا على الدولة لأنهم باتوا علامة إشهارية لمراكش كوجهة سياحية، لا تكاد تخلو صورة إشهارية أو إخبارية أو وثائقية أو سينمائية إلا ووظفت الكوتشي لجعل الناس يحلمون بزيارة المغرب ومراكش، إن أرباحهم ليست فقط ما ينتهي إلى جيوبهم ولكن لهم فضلا على بلد بأكمله، يستحقون في نظرهم أن يحظوا بالاعتراف مقابله. حين تسأل ابراهيم
– فين العاود البرgي ولزرg؟
يجيبك بسخرية بها مرارة
– كالوهم لحمر ولدهم!
فقد باع ابراهيم حصانين من أحصنته واقتنى بها علفا للحصانين المتبقيين، ومن تم يعتبر أن اثنين أكلا إثنين، من حسن الحظ أن السماء كانت كريمة هذه السنة والمروج غير البعيدة غنية بالكلإ، حين يعود ابراهيم بعربته وحصانيه قبل ساعة حظر التجول إلى الحظيرة، يفكهما ويطلقهما في أرض مجاورة هناك، يرعاهما حتى منتصف الليل، يملأ كيسا عشبا، يكون طعاما لهما في اليوم الموالي، الأعشاب تملأ المعدة لكن الدواب لا تكسب منها القوة ونمو العضلات، لتتقوى الخيول يلزمها أن تتطعم شعيرا.
ابراهيم تلقى ثلاثة آلاف وستمائة درهم مقسمة على ثلاثة أشهر، لم تف حتى بإعالة أسرته المكونة من ستة أفراد، أما الأحصنة فلها الله.
– الله يلطف بنا وبالخيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى